الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(044) قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ..} الآية
تاريخ النشر: ١٥ / ذو الحجة / ١٤٣٧
التحميل: 720
مرات الإستماع: 1048

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

بعد أن بيّن الله -تبارك وتعالى- إحصاء الأعمال، وأن كل أحد من الناس سيلقى عمله، وما قدمت يداه يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30]، فهنا لما ذكر لهم هذا التحذير بيّن لهم طريق النجاة، والمخرج الذي به يوصل إلى مرضاته -تبارك وتعالى-، ومحبته، فقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].

يأمر الله -تبارك وتعالى- نبيه ﷺ أن يُبلغ الناس أجمعين إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ محبة صادقة حقيقية فَاتَّبِعُونِي، وآمنوا بي ظاهرًا، وباطنًا يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، يتجاوز عنها، ويسترها عليكم، ويقيكم التبعات الحاصلة من جراء هذه الذنوب، والله -تبارك وتعالى- كثير الغفر، كثير الرحمة على كثرة العباد، وكثرة جناياتهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

فهذه الآية أيها الأحبة! قد تضمنت أصولاً عظيمة، فهي حاكمة على كل من ادعى محبة الله -تبارك وتعالى-، وليس متبعًا للنبي ﷺ، الذي يدعي محبة الله سواء كان من أهل الكتاب، ولا يتبع الرسول صلوات الله وسلامه عليه، أو كان ممن ينتسب إلى هذه الأمة، ويدعي محبة الله، ولكنه بعيد عن اتباع نبيه، وصفيه من خلقه ﷺ فهذا لم يصدق في دعواه، لأن قوله -تبارك وتعالى- قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي فهذا شرط، وجزاء، وهو برهان على صدق المحبة إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ هذا هو الشرط فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ.

فهذه ثلاثة أمور:

الأول: دعوى المحبة لله إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ.

الثاني: فَاتَّبِعُونِي الذي هو شرط الوفاء بما يُصدقها، وهو اتباع النبي ﷺ.

الثالث: زيادة يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ الحديث في دعوى محبة الله ، أن العبد يُحب ربه، فذكر لهم شرط هذه المحبة، وما يُصدقها، وزادهم على ذلك محبته لعباده المتبعين لرسوله ﷺ، فصار عندنا محبة الله للعبد، محبة العبد لربه إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، والاتباع، وهو بُرهانها، ومحبة الرب للعبد، فهما محبتان بينهما مُلازمة.

فهذه الآية أيها الأحبة! تتلاشى معها الدعاوى الكاذبة، فليست العبرة بما يقوله الإنسان، ويدعيه لنفسه، وما يزعمه، أو يصف نفسه به دائمًا؛ إنما العبرة هي في العمل، في التطبيق، وما يوجد في الخارج مما يُصدق هذه الدعاوى، قد يدعي الإنسان التقوى، والصلاح، والإيمان، وما إلى ذلك، وأفعاله تدل على خلاف ذلك، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ [البقرة:204]، يُشهد الله على ما في قلبه على القولين في تفسير الآية: يُشهد الله يعني أنه يقول، والله يشهد أني أحب الله، وأريد الإصلاح، والصلاح يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ [البقرة:204]، والقول الآخر: أنه بقوله هذا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في الوقت الذي يكون فعله مُضادًا لقوله، ومناقضًا له هو مُشهد لله على حال غير مرضية قد انبعثت عن قلب فاسد.

وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [البقرة:205-206]، فهذا يدعي دعاوى كبيرة، ودعاوى عريضة، ولكن فعله يُكذبها، فهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، تضمنت معيار المحبة أن المحبة الحقيقية تكون باتباع النبي ﷺ ظاهرًا، وباطنًا، فيما يتصل بالقضايا الإيمانية، والاعتقاد.

وكذلك ما يتصل بالعمل، فيكون مقتديًا به ﷺ على اعتقاد صحيح بعيدًا عن الإشراك، ودعاء غير الله -تبارك وتعالى-، وبعيدًا عن الضلالات، والأهواء، والبدع، والمُحدثات، فكيف يصح دعوى محبة النبي ﷺ، والمُقتدى به غيره، يُترك قوله، وفعله، وهديه، وسنته، ثم يدعي الإنسان أنه يُحب ربه، ويُحب رسوله ﷺ.

هذه الآية أيها الأحبة! تتحدث عن محبة الله ، فإذا كانت محبة الله منوطة باتباع النبي ﷺ فمن باب أولى أن محبة النبي ﷺ منوطة باتباعه ظاهرًا، وباطنًا، ولهذا كان التسليم الكامل من أهل الإيمان، والاتباع من أصحاب النبي ﷺ فمن بعدهم في كل شيء، يُقبل الحجر الأسود اتباعًا للنبي ﷺ، وانقيادًا، وامتثالاً، وفي الوقت نفسه نرمي الجمار امتثالاً بالعدد، والصفة التي ورد فيها ذلك، ونعلم أن هذا حجر، وهذا حجر، فنحن لم نُقبل الأول من عند أنفسنا، وإنما لأن النبي ﷺ قبّله، فاقتدينا به، ولم نرمِ الجمار من عند أنفسنا، ولم نُحقر هذا الموضع لذاته، وإنما كان ذلك على سبيل الاقتداء.

وإلا فمعلوم أن الناس حينما يرمون الجمار لا يكون الشيطان موثقًا في هذا المكان، إنما هو الاتباع في التقبيل، والاتباع بالرمي فهذا شأن أهل الإيمان، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، الانقياد الكامل، والاستسلام، والتسليم هذا الذي يثبت معه الإيمان، وتكون الدعوى صادقة، دعوى محبة الله ، ومحبة رسوله ﷺ.

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، ومن الذي يقول أنا لا أحب الله، ولاحظ هنا قال: فَاتَّبِعُونِي ما قال إن كنتم تحبون الله فاجتهدوا بعبادته، على أي وجه كان بالمخترعات، والمُحدثات، والبدع هذا لا يكون، ولا يكون ذلك أيضًا بالإشراك معه أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته، وشركه[1]، إنما هو التوحيد الكامل، والعناية بالتوحيد، والإخلاص للمعبود ، والاتباع لسنة رسوله ﷺ، لكن حينما يأتي من يخرم هذه الأصول الثلاثة فهو يدعوا غير الله من أصحاب القبور، والأضرحة، ويستغيث بهم.

وكذلك أيضًا يتقرب إلى الله -تبارك وتعالى- بما لم يشرع، ثم يدعي بعد ذلك أنه يُحب الله، ورسوله، ويرمي أتباع الرسول ﷺ حقًا بالألقاب القبيحة، بل يُخرجهم من السنة، وأهلها، فإن هذا عين العمى، والضلالة، ومثل هذه الدعاوى العريضة ادعاها أقوام كثير عبر التاريخ، ولكن لم يكن لهم نصيب يُصدقها في الواقع، فكان ماذا؟

كانوا في جملة أهل الضلال، والبدع، والأهواء، وتلاشت تلك الدعاوى، ولربما وجدوا من يقف معهم من الخلفاء، ونحو ذلك كما وقف المأمون، واثنان بعده من خلفاء بني العباس المعتصم، والواثق كل هؤلاء كانوا مع المعتزلة، فحصل ما حصل من فتنة القول بخلق القرآن، وامتحن الناس، والعلماء، وفرض ذلك على الكتاتيب، الصبيان الصغار، وما كان يُطلق الأسير حتى يُمتحن في هذا، ثم ماذا؟

بقي هؤلاء من أهل الضلال، والبدع، وتلاشت تلك الأهواء، وذهب أهلها بها لا يُذكرون بخير، من منكم يعرف ابن أبي دؤاد شيخ المعتزلة، ورئيس، وكبير القضاة في ذلك العهد، ولّى، وقد رأى ما يسوؤه قبل موته، فهذه سنة الله في خلقه.

وهكذا في كل زمان أيها الأحبة! يخرج على الناس أعناق من أهل الضلالة قد انغمسوا بها، ثم بعد ذلك يدعون هذه الدعاوى العريضة، ويُضيفون إلى أهل السنة والجماعة أسوء الأوصاف، والواقع أن أولئك المُبتدعة أحق بها وأهلها، فلا تبتأسوا، ومثل هؤلاء يموتون، ويموت ذكرهم، هكذا علمنا التاريخ، وهكذا دلت نصوص الكتاب، والسنة، والموفق من وفقه الله -تبارك وتعالى-.

والسنة -كما قال بعض السلف-: سفينة نوح، من ركبها سلم، وأما إذا أوى إلى غيرها من طُرق الضلالة، والسُبل المعوجة فإن ذلك لا يودي به إلى هدى بحال من الأحوال، فما قد يُثار هنا وهناك من مثل هذه الفِرى، والأكاذيب، ومن ينفخ في مثل هذا، هؤلاء كلهم خيل الشيطان، ورجله، فلا تبتأسوا، ولا تكترثوا بهم، فمصيرهم إلى الاضمحلال، والزوال، والسنة هي التي لها الظهور، والعاقبة، ولأهلها من العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة، فهي دين الله حقًا الذي جاء به رسوله ﷺ، فهذا محفوظ، لا يمكن أن يزول.

ولكن هؤلاء، ومن ورائهم من أعداء الإسلام يحاولون أن يعوقوا المسير، ويحاولون أن يُضيقوا الخناق، ولكنهم في الوقت نفسه يعلمون -كما قال أحد كبار قادة الغرب- أن هذا الخط الممتد عبر التاريخ منذ بُعث رسول الله ﷺ إلى اليوم هو الإسلام الحقيقي الذي يخافه الغرب، وأما بُنيات الطريق، والسُبل، والفرق فمنذ أن جاء الاستعمار، وهو يدعمها، والكتب التي نشرها المستشرقون، عامة هذه الكتب هي من كتب المعتزلة، وأهل الفلسفة، والعلوم الكلامية، والزندقة من الصوفية الفلسفية، للزنادقة أمثال: الحلاج، وابن عربي، وإخوان الصفا، وأمثال هؤلاء، بالإضافة إلى فرق أخرى كالقاديانية التي اخترعوها، وأنشأوها في القارة الهندية، ثم بعد ذلك نشروا لها فروعًا في بلادهم، وغير بلادهم.

فهنا قال: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي، ولاحظ هنا ما قال: فارجعوا إلى عقولكم، وحكموها، وإنما قال: فَاتَّبِعُونِي فالطريق هو الاتباع للنبي ﷺ، هذا الطريق إلى محبة الله فَاتَّبِعُونِي فالفاء تدل على ترتيب على ما بعدها على ما قبلها، بُرهان محبة الله فاتباع النبي ﷺ هذا هو الطريق، وكذلك أيضًا يُقال: بأن هذه الآية تدل دلالة واضحة في كل زمان، ومكان على أن من ادعى دعوى لم يُصدقها بعمله، وواقعه فإن دعواه مرفوضة، ودعواه مردودة.

ثم أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة فَاتَّبِعُونِي لما علق ذلك بالاتباع فإن هذا الاتباع لا يمكن أن يتحقق إلا بمعرفة سيرته ﷺ، وسنته فهذا يحتاج إلى تعلم، فإنه قد جاء عنه ﷺ في سيرته، وسنته القولية، والعملية أمور كثيرة في حال إقامته، وسفره، وحربه، وسِلمه، ومع أزواجه، ومع أصحابه، ومع المؤمنين، ومع غيرهم، كل هذا وغيره يحتاج العبد إلى معرفة ماذا جاء عنه في العبادة فعلاً وتركًا، قولاً وعملاً، فإذا عرف العبد مثل هذا فإنه يستطيع أن يتبع النبي ﷺ فهذا لابد منه، وإلا فإن العبد إذا كان جاهلاً فإنه لا يمكن أن يكون مُتبعًا، يتبع على أي أساس؟!

هو لا يعرف تفاصيل سنة النبي ﷺ فلربما يتقرب إلى الله بأمور لا أصل لها ولا أساس، فمن هنا يتبين لنا أهمية دراسة السنة النبوية، ومعرفة السيرة النبوية، وأما أن يقول العبد أنا أُحب رسول الله ﷺ، وهو لا يعرف سيرته، ولكنه يعرف من سير الناس من اللاعبين، وغيرهم أعظم وأكثر مما يعرف من سنة رسول الله ﷺ فهذه دعاوى غير صحيحة.

أتوقف عند هذا، أدركنا الوقت، ونُكمل -إن شاء الله- تعالى في الليلة الآتية، أسأل الله  أن ينفعنا، وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا، وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم-.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، برقم (2985).

مواد ذات صلة