الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما ذكر الله -تبارك وتعالى- اصطفاءه واجتباءه لهؤلاء الأصفياء: آدم، ونوح، وآل إبراهيم، وآل عمران على العالمين، قال الله بعد ذلك: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:34-35]، فوجه الارتباط ظاهر، فالله -تبارك وتعالى- ذكر الذرية ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وذكر هذين الاسمين الكريمين "السميع، والعليم" المُتضمنين لصفتي السمع، والعلم.
فذكر بعد ذلك دعاء امرأة عمران، وختم الآية أيضًا بهذين الاسمين: السميع، العليم، فهو سميع عليم سمع دعاءها وسؤالها، وأجابها إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35]، إِذْ قَالَتِ فيكون متعلقًا بمُقدر، وهذا في جميع المواضع إِذْ قَالَتِ، "واذكر إذا قالت" إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ [الأحزاب:10] اذكروا إذا جاءوكم من فوقكم، ويحتمل أنه متعلق بمذكور قبله، يعني: مثلاً في هذا الموضع ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:34]، إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ فهو سميع لدعائها، عليم بحالها، فامرأة عمران نذرت، قالت: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا، وهذا مدخل للحديث عن عيسى، وأمه -عليه وعليها السلام- للرد على النصارى الذين غلوا فيه، والرد على اليهود أيضًا الذين أساؤوا القول، والاعتقاد فيهما.
إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ حينما حملت رَبِّ، تقول: يا رب، حُذف ياء النداء، ربي إني جعلت لك ما في بطني من الحمل، مُحَرَّرًا خالصًا لك، كأنها أوقفته للعبادة، وخدمة بيت المقدس، إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي هذا النذر إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعائي، السميع لجميع الأصوات، الْعَلِيمُ بنيتي، وحالي، العليم بكل المعلومات.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا شرف هذه المرأة، فقد ذُكرت في القرآن مُضافة إلى زوجها عمران، ذُكرت بماذا؟ ذُكرت بالمال! ذُكرت بالجمال! ذُكرت بالجاه! ذُكرت بالصلاح، والبذل، بذلت أفضل وأغلى ما تملك لله، وفي سبيل الله نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا.
وهكذا امرأة فرعون، فقد ذُكرت مُضافة إليه، ذُكرت بماذا؟! لم تُذكر بكثرة الأساور، والذهب، والمقتنيات، والتُحف، والأموال، إطلاقًا، ولم يُذكر أحد بهذا على سبيل المدح قط، وإنما ذُكرت بإيمانها، وثباتها، وإرادة ما عند الله -تبارك وتعالى-، والترفع على هذه الدنيا الحقيرة وما فيها، فلم يصرفها ما هي فيه عما هي بصدده من الإقبال على الله، وطاعته، وعبادته، وهكذا أيها الأحبة! فهذا يدل على شرف امرأة عمران.
إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فهنا لاحظ إِنِّي نَذَرْتُ فإن تدل على التوكيد، ورَبِّ يعني يا رب حُذف منه ياء النداء، ربما لاستشعارها القرب من الله، فلم تحتج إلى ذكر ياء النداء "يا رب" وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، رَبِّ، وهذا الدعاء بهذا الاسم الكريم الرب هو في غاية المناسبة؛ لأن الذي يُجيب، ويُعطي السائلين سؤلهم، وبيده النفع والضر، والدنيا، والآخرة، وجميع المطالب التي تطمح إليها نفوس العباد هو الرب؛ لأنه بمعنى المالك السيد، ثم من معانيه أيضًا أنه المُربي خلقه بالنِعم الظاهرة والباطنة، يغذي أجسادهم بما يكون به قوامها، وبقاؤها، ويغذي أرواحهم بما يكون به هداها، وصلاحها؛ فيتعاهدهم بذلك كله، فتكون رغبتهم إليه رَبِّ.
ولهذا ذكرنا في بعض المناسبات كما قال الشاطبي -رحمه الله-، وغيره: بأن أكثر دعاء الأنبياء في القرآن رَبِّ بهذا الاسم الكريم؛ لأن من معانيه العطاء والمنع[1] رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا إِنِّي نَذَرْتُ هذا يدل على أنها كانت جازمة بذلك، غير مترددة، فجاءت بـ "إنّ" التي تدل على التوكيد، وهي بمنزلة إعادة الجملة مرتين.
إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي، وهذا يدل على أن النذر كان معروفًا عندهم، فالنذر عباده، وهو مكروه عند الفقهاء كما هو معلوم باعتبار أن المُكلف يُلزم نفسه ما لم يُلزمه به الشارع، فقد يعجز، ويضعف، أو يفتر، ويكسل، كما هو مُشاهد، كثير من الناس يكون منه النذر، فإذا جاء وقت الوفاء بدأ يسأل عن كفارة النذر، هذا كثير، فما الذي حملك على هذا النذر إذًا؟!
فالله -تبارك وتعالى- مدح وأثنى على الموفين بالنذر: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7]، فالوفاء به واجب، ولكن النذر في أصله مكروه، الحاصل أنها نذرت، ونذرت ماذا؟ نذرت لله ما في بطنها مُحررا، فدل هذا على جواز نذر الولد عندهم، وهذه المسألة شرع من قبلنا هل هو شرع لنا، أو لا؟
بعض العلماء يقولون: هو شرع لنا ما لم يرد في شرعنا نسخ له، وبعض العلماء يقول: ليس بشرع لنا إلا إذا وافق ما في شرعنا، لكن إذا وافق ما في شرعنا لا حاجة للنظر إلى كونه شرع من قبلنا.
فالحاصل أن امرأة عمران -رحمها الله- نذرت ما في بطنها، فهذا يدل على أنه يصح عندهم نذر الولد، والنذر قُربة وطاعة لله ، فهي تتقرب بماذا؟
تتقرب بجعله وقفًا خالصًا مُخلصًا لخدمة بيت المقدس، والتفرغ للعبادة، ثم هذا الذي في بطنها هي لا تعلم هل هو ذكر، أو أنثى، فنذرت قبل ولادته، فدل على أنه يصح النذر في المجهول، كأن يقول الإنسان مثلاً: ربح هذه التجارة صدقه لله ، لله عليّ نذر أن يكون غلة هذه التجارة في هذا اليوم صدقة لله مثلاً، وهو لا يعلم هل هو كثير، أو قليل، هل تربح، أو لا تربح، أو أن يقول: ما في بطن هذه الدابة إن ولدت سالمة فهو نذر عليّ أن أجعله صدقة، مثلاً، يتصدق به على الفقراء، أو نحو ذلك، فهذا نذر المجهول لا إشكال، هو يتقرب إلى الله بهذا مُطلقًا.
وكذلك أيضًا هنا إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ "لك" ما قالت إني نذرت ما في بطني محررا، "لك" فقدم الجار والمجرور، لماذا؟
إشعارًا بالإخلاص، نَذَرْتُ لَكَ فذلك ليس للرياء، ولا السمعة، ولا لمآرب أخرى، وإنما لله خالصًا، وهذا لا شك أنه أصل في قبول العمل الإخلاص للمعبود، والله أغنى الشركاء عن الشرك.
قالت: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي فتقديم ما حقه التأخير يدل على الحصر، والقصر، نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي فـ "ما" هذه للعموم، مَا فِي بَطْنِي لو كان في بطنها توأم، ولدان، أو بنتان، ذكران ابنان، أو بنتان، أو ابن، وبنت، فكل ذلك يكون في هذا السبيل، يعني: لا يصح أن تقول مثلاً أحد هذين يكون نذرًا، والآخر استبقيه، لا، نَذَرْتُ لَكَ مَا فهذه للعموم، مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا.
ولاحظ هنا المحرر بمعنى الخالص، فهو خالص مُخلص لله لا شائبة فيه، وأيضًا هو مفرغ للعبادة، مُحَرَّرًا فدل هذا على معنى في غاية الأهمية، وهو أن الحرية كل الحرية حرية القلب، والنفس هي بالإخلاص لله ، وتحقيق العبودية له، فكلما كان العبد أعظم، وأكثر تحقيقًا للعبودية؛ كان أعظم انعتاقًا من الرق لأحد من المخلوقين، يعني: سواء للشيطان، أو للنفس، والهوى، أو لمخلوق آخر، فإذا نقصت عبوديته صار عبدًا لغيره، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في كتابه العبودية[2]: فقد يكون عبدًا للمال تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة[3]، قد يكون عبدًا لوظيفته، قد يكون عبدًا لرئيسه في العمل، قد يكون عبدًا لزوجته، لجمالها، أو لمالها، أو يكون عبدًا لمن يعتقد أنه ينفعه أو يدفع عنه؛ يُقدم له عبوديته، فيكون ذليلاً له، فهذا نقص في حرية العبد.
كثير من الناس يطلب الحرية، ويعتقد أن الحرية هي في نظره أجل المطالب، وما علم أن الحرية الحقيقية بتحقيق العبودية، ولهذا كان المأسور من أسره هواه، فلذلك قد يكون الإنسان عبدًا لشهوة تأسره لا يستطيع أن ينعتق منها، يكون عبدًا للمال يوالي عليه ويُعادي، ويُقرب ويُبعد، دنيا وما فيها، وما أقبح أن يُؤسر الإنسان لنزوة من نزواته.
تجد الإنسان أحيانًا يُبتلى بشيء كالتدخين مثلاً، وتجده في يوم عرفة في وقت الوقوف عشية عرفه يخرج، والناس يبتهلون، ويدعون، ويتقربون إلى الله ، وبيده هذا النتن -أعزكم الله- يذهب هنا، وهناك؛ لأنه مأسور، يشعر أنه لا يستطيع أن يستريح، أو أن يُفكر، أو أن يجلس مع الناس، أو أن يدعوا إلا إذا ابتدئ بهذه المعصية، فتكون هي المقدمة للدعاء، والضراعة.
الإنسان يُقدم بالتوبة، والاستغفار، وهناك من يعكس هذه القضية، فهذا مأسور، قد تجد هذا الإنسان لربما يشرب الخمر، أو يُبتلى بشيء من هذه المحرمات، أو المخدرات، فيُسلب، زوجته تريد الطلاق، وتُطالب، وتشترط، ونحو ذلك، أولاده يضيعون، ويتفرقون، وهذه القضية عنده قد استرقته، فهو عبد يقوده الشيطان حيث شاء، فهذا نوع من الرق.
قد يُبتلى الإنسان بالنظر إلى الصور المحرمة، ويحاول أن يتخلص، ولكن نفسه مُسترقة مأسورة لا يستطيع الخلاص، والفكاك من ذلك، فهذا رِق، وعبودية للنفس، والهوى، فالحرية الحقيقية هي أن ينعتق الإنسان من هواه، وينعتق من العبودية، والرق للمخلوقين، ويكون عبدًا لله رب العالمين، فهذا من رام الحرية، إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا لاحظ التعبير هنا بهذه اللفظة "محررا" محرر من العبودية لغير الله ، محرر من كل شوب، والتفات.
وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة التوسل إلى الله بأسمائه الحسنى "ربي" وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180].
وكذلك أيضًا قوله: نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي فهي غير واثقة بأن ذلك سيُقبل، ولكن هؤلاء لما كنت قلوبهم في حال من الإخبات، والصدق مع الله -تبارك وتعالى- فهم أبعد ما يكونون من العُجب، ورؤية العمل، والالتفات إلى النفس، وما أشبه ذلك، يعني، وليس كأولئك الذين يقولون: نحن صمنا عرفة، ويُكفر السنة الماضية، والسنة الآتية لماذا نصوم عاشوراء، ويُكفر السنة الماضية! انتهى هو ضامن أنه قد قُبل منه صيام عرفة، وأنه يُكفر سنتين، ويبخل بصيام يوم واحد من محرم.
يقول: لماذا تحقق المطلوب، وما يُدريك أنه تحقق المطلوب، يقول: ليست بحاجة إلى قيام الليل، فإن من صلى العشاء في جماعة فكأن قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله، أنا أصلي الحمد لله العشاء في جماعة، والصبح، وما يُدريك أن هذه الصلاة هل هي قُبلت؟! فمثل هذا ليس من شأن أهل الإخبات، والإخلاص لله ، وإنما كما قال الله : وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، وكما فسرها النبي ﷺ لعائشة -رضي الله عنها- فهم الذين يصومون، ويتصدقون، ونحو ذلك، ويخافون ألا يُقبل منهم، فهم يُحسنون الظن بالله .
لكن الثقة الزائدة، والإعجاب، والالتفات إلى العمل، وتزكية النفس أن هذا قد قُبل منه، ويرجع من الحج، ويقول: بأن حجه قد قُبل، وأنه رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، هو يسأل عن الديون الآن هل تسقط، والمظالم التي كانت على الناس هذا الذي بقي عليه الآن، هو ضامن أن الحج مقبول، وأن الذنوب قد مُحيت لكن يقول: المظالم التي على الناس هل أُعيدها أموال، ونحو ذلك، هل هذه مما غُفر خلاص وانتهى فلا تُعاد أم لابد من إعادتها؟ لأن حق المخلوق الأصل فيه المشاحة، وأنه لا يدخل في هذا، فهذا السؤال يُنبأ عن ماذا؟ عن جهل، وغرور.
تقول: فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فالإنسان حينما يعمل الأعمال الصالحة فإنه يدعوا ربه بالقبول.
انظروا إلى إبراهيم، وإسماعيل -عليهما السلام- إمام الحنفاء، وأبو الأنبياء، وقد ابتلاه الله البلاء العظيم مع ابنه إسماعيل، وحصل منه ما حصل من الانقياد، والتسليم لأمر الله -تعالى- وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ.
لاحظ أشرف الأعمال رفع قواعد البيت، هذا شرف لو قُدر لك أن تُشارك في بناء الكعبة بوضع حجر واحد لكان ذلك من أعظم الشرف، فكيف ببناء البيت بكامله مع ابنه؟! اختارهم الله لهذه الوظيفة الشريفة في أشرف البقاع وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ما هو مطلوبهم؟ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، أجل الأعمال من هؤلاء الكبار، وهذا سؤالهم، وهذا دعاؤهم.
فهل نحن إذا عملنا الأعمال الصالحة، والعبادات نقول: ربنا تقبل منا، اللهم تقبل هذا الحج، اللهم تقبل هذا الصوم، اللهم تقبل هذه الصدقة، اللهم تقبل هذه الصلاة، ونحو ذلك؟! أو أننا قد ضمنا أصلاً القبول، أو أننا نشعر أحيانًا أن هذه من الأعباء، والتكاليف التي نُلقيها عن كواهلنا، متى نرمي وننتهي، ونصل إلى البلد أول الناس قبل الناس، وننتهي من أعمال النُسك بلا روح، أسبق، وأسرع، فهو في حال من الاستنفار الدائم، والاشتغال المستمر، متى ينتهي، ويُلقي ذلك عن كاهله، ليست هذه العبودية، ومن كان بهذه المثابة فهو لم يفهم حقيقة العبودية، ولم يفهم مراد الشارع من هذه الأعمال التي شُرعت لإقامة ذكر الله -تبارك وتعالى-.
فلاحظ دعاءها، ولاحظ أيضًا الاهتمامات يعني هذا حمل في البطن، ولاحظ الاهتمام به، وفيما يُعد له، وهو في البطن، فكيف بمن يُضيع من استرعاه الله إياهم؟! فهو لا يُربيهم على طاعة الله ، ولا يشغلهم بما ينفعهم، وإنما يُنجب هؤلاء الأولاد، وقد يُوفر لهم الطعام، والشراب، واللباس، والمال، والمتع، ولكن بمنأى عن التربية، ولا تجد لربما واحدًا منهم يدخل المسجد، فينشؤون، ويكبرون على هذا، يرفلون بنعم الله ، وهم أبعد الناس عن خشيته، وطاعته، ما الفائدة من هؤلاء الأولاد؟
ولماذا يُربيهم؟!
بزعمه المستقبل، وأهم شيء الدراسة، وأهم شيء الوظيفة، وأن يدخل في تخصص، الرزاق هناك فوق السماوات السبع، تكفل للعباد بأرزاقهم، لست أنت، ولا باختيار التخصص، ولا غير ذلك، فهو ليس بين عينيه إلا هؤلاء يدرسون، ويُحققون نتائج عالية، هذا إذا كان يهتم بهذا الجانب، والبعض حتى هذا لا يهتم به، ومن ثَم يتوظفون وظائف تُدر عليهم المال الكثير، فيكون هؤلاء عبيد الدنيا، هي هكذا هو يريد العز، والحرية، والكمالات، وهو يُربي على الرِق الحقيقي بعينه منذ النشأة.
لكن لاحظ هذه الاهتمامات، إذا كان هذا في البطن، فكيف بالأولاد الذين قد خرجوا، وبين يديه، وهو مُفرط في تعليمهم، وتربيتهم، وتنشأتهم نشأة صالحة؟!
إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ولاحظ هذا الاهتمام مع الاهتمامات الأخرى إذا قارنت، إبراهيم لما وضع زوجه هاجر، وابنه إسماعيل، وهو رضيع صغير في واد غير ذي زرع، لماذا؟
رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:37]، هذا المطلوب العظيم لِيُقِيمُوا اللام هذه للتعليل، لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ما قال: من أجل إنشاء تجارة، ومن أجل تحصيل مستقبل وظيفي، أو نحو هذا، لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فهذا هو الأساس، فهذا الولد الذي حصل أعلى المراتب، وأكبر الوظائف، والشهادات، وما إلى ذلك، وهو لا يصلي لا خير فيه، ما الخير في وظيفته، وفي شهادته، وهو لا يعرف الله عفيف الجبهة؟! هذا لا يكون.
ولكن لاحظ لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ، ولاحظ الدعاء رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ [إبراهيم:40]، هذا إمام الحنفاء رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40]، اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ لاحظ الاهتمامات، ما قال: ربي اجعلني ثريًا، اجعلني أملك المليارات، ربي آتني قصرًا، ومركبًا حسنًا، ونحو ذلك، لا، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40].
فلاحظ مثل هذه الأدعية لو تتبعتها في القرآن أدعية هؤلاء الكبار تدل على اهتماماتهم ماذا يطلبون؟ وماذا يؤملون؟ وعلى أي شيء يُنشئون الأولاد؟ وبماذا يوصونهم؟ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133] هذا الشيء المُهم مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي إقامة العبودية لله -تبارك وتعالى-.
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ولاحظ هنا التوكيد "إنّ" "إنّك" فهذا -كما قلنا- بمنزلة إعادة الجملة مرتين إِنَّكَ أَنْتَ، وجاء هنا أيضًا بين طرفي الكلام "أنت" لتقوية النسبة، ما قالت: إنك سميع عليم، إِنَّكَ أَنْتَ، ودخول أل السَّمِيعُ فهو ذو السمع الكامل، يسمع جميع الأصوات، السَّمِيعُ، وإذا آمن العبد، واعتقد أن الله هو السميع فإنه لا ينطق بكلمة يكون عليه فيها مؤاخذة، يُحاسب نفسه على رُبع الكلمة، وأقل من ذلك مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، هذا الذي يؤمن بالسمع.
وقد ذكرت في بعض المناسبات أني كنت أتحدث مرة عن قوله -تبارك وتعالى-: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]، فتحدثت عن سمع الله فلما انتهيت تبعني أحد الطلاب، ثم قال: هذه الآية التي تتحدث عنها قرأتها، وقلت في نفس -هو يقول في نفسه-: اللهم إن كنت تسمعني فكسر يدي هذه، فيُريني مكان الخياطة مُمتدة في ذراعه، يقول: فسقطت فكُسرت يدي، وأُجريت لي عملية، ووضع فيها أسياخ.
قلت: سبحان الله! هذا مثل قول المشركين: إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]، ما قالوا فاهدنا إليه، إن كنت تسمعني فاغفر لي، وارحمني، وادخلني الجنة، وأعذني من النار، ليس اكسر يدي، فهذا يُحدثني عن نفسه، وهذا من الجهل، فالله سميع عليم، وهذا لا شك فيه، لما فيه من استدعاء القبول، يعني: فاستجب لي، هو إخبار لكن في ضمنه استدعاء القبول، وهي بذلك أيضًا تكون جاهدة في تصحيح نيتها، تتحدث مع السميع العليم، تسأل السميع، وتذكر هذه الصفات العليم الذي يعلم نيتها، ويسمع دعاءها، عليم بحالها، وقصدها، ونحو ذلك، كاملة اليقين، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
وهذا يدل أيضًا على انقطاع رجائها عن غيره -تبارك وتعالى- إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، لا سميع حقًا يسمع كل الأصوات إلا أنت، ولا عليم يعلم كل المعلومات إلا أنت، فتقبل مني، فإذا أراد الإنسان أن يدعوا بمثل هذا، يقول: يا رب اغفر لي، وارحمني، وتقبل مني، وأصلح قلبي، وعملي إنك أنت السميع العليم، لكن ينتبه لا يكون في قلبه شيء آخر رياء، أو سمعه، أو يكون في قلبه التفات عن الله ، أو يدعوا، وهو غافل أصلاً، والله يطلع على قلبه، وليس في قلبه شيء من هذا الدعاء، قلبه يُفكر في الدنيا، قلبه يُفكر في أشياء أخرى، قلبه يُفكر بالسوق، قلبه يُفكر بالطعام، والشراب، يوجد وهو رافع يديه.
ورأيت بعض الناس في عرفة يدعو، وهذا من أعجب الأشياء، يدعوا يتلفت على الموجودين، وهو يدعوا، بل رأيت من يدعوا، ورأسه ما أعرف كيف أداره إلى الخلف تمامًا ينظر إلى الذين خلفه، وهو رافع يديه، ما هذا الدعاء الذي انصرف فيه الرأس بكامله، وليست العين، الرأس ينظر إلى الخلف، وهو يدعوا، وبعض هؤلاء ترى عليه سيما الصلاح، وتتعجب ما هذا الدعاء، إذا كانت هذه الصورة الظاهرة، فكيف بما يجول في القلب من الأفكار، والخواطر، والشواغل، والصوارف؟! -والله المستعان، والله أعلم-.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
- انظر: الموافقات (4/ 203).
- انظر: العبودية، (88).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال، برقم (6435).