الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(054) قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ...} الآية
تاريخ النشر: ٢٧ / ذو الحجة / ١٤٣٧
التحميل: 611
مرات الإستماع: 1060

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما دعا زكريا -عليه السلام- ربه، وسأل الذرية الطيبة، استجاب الله دعاءه، فقال الله -تبارك وتعالى-: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39]، وذلك على قول كثير من المفسرين أن الذي ناداه هو جبريل ، فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ ويكون ذلك بهذا الاعتبار على هذا المعنى من قبيل العام المراد به الخصوص، أي: أن اللفظ عام: الْمَلائِكَةُ يُراد به ملك، فهذا عام مراد به الخصوص، وهذا معروف في أصول الفقه، وفي كلام العرب.

فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ قَائِمٌ يُصَلِّي في موضع صلاته، والمحراب يُقال: لأشرف المواضع، فالمكان الذي يُصلي فيه قيل له المحراب؛ لأن الإنسان إنما يتخير لصلاته الموضع اللائق الذي هو أشرف المواضع.

أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى، يُخبرك بخبر يسُرك وهو أنك ستُرزق بولد اسمه يحيى، يُصدق بكلمة من الله وهو عيسى ، فإن الله -تبارك وتعالى- خلقه بالكلمة "كُن" فكان، فقيل له: كلمة بهذا الاعتبار: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، وأيضًا بشّره بكون هذه الولد يكون سيدًا في الناس، سيدًا له منزلة وقدر.

وَحَصُورًا قيل: الحصور الذي لا يأتي الذنوب، وقيل: الحصور هو الذي لا يأتي النساء، ورده بعض أهل العلم بأن ذلك ليس من الكمالات، ولكن الذي لا يأتي القبائح والفواحش وما حرم الله -تبارك وتعالى-، وأيضًا يكون نبينًا من الصالحين، الذين بلغوا في الصلاح غايته، هذه بُشرى تحمل في طياتها هذه المعاني والدلالات الكبار، فدل ذلك على أنه يعيش ويبقى حتى يسود، وأنه يكون نبيًّا من الأنبياء، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إنما يأتيهم الوحي بعد مدة من حياتهم.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ فهنا لما دعا ربه: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران:38]، فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ فــ"الفاء" تدل على التعقيب المباشر، فدل على سرعة استجابة الله دعاءه، الله يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، وقد تُدخر الدعوة للإنسان في آخرته، وقد يُدفع عنه من الشر مثل ذلك فالعبد يُحسن الظن بالله، وقد تُعجل لكنها لا تكون مُباشرة بمجرد دعائه، وهذا له نظائر أيضًا من دعوات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.

وقوله: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ على هذا المعنى الذي ذكرناه أن المراد بالملائكة هو جبريل فأطلق عليه هذا اللفظ العام، وهذا يدل على شرفه ومكانته أعني جبريل أن الله أطلق عليه اسم الملائكة: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وهو ملك واحد.

فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ هنا جاءت هذه البشارة وهذا النداء في أشرف أحواله؛ وهو قائم يصلي.

ويؤخذ أيضًا من هذه الآية الكريمة ومن غيرها كثير: أن الصلاة كانت مشروعة عندهم، وأن القيام مشروع فيها: وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ.

وفيه أيضًا جواز مخاطبة المصلي لكنه لا يُجيب من خاطبه، وإنما يمكن أن يكون ذلك بالإشارة أو التسبيح، والمرأة إذا نابها شيء تُصفق، وقد كانوا يتكلمون في الصلاة في أول بعث النبي ﷺ، ثم نُسخ ذلك وأنزل الله : وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فمُنعوا من الكلام وأمروا بالسكوت.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة من المعاني والهدايات: مشروعية البُشرى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ والبشارة في استعمالها الأغلب هي إخبار بما يسُر، وقد تأتي بالإخبار بما يسوء، بعضهم يقول: حقيقة، وبعضهم يقول: على سبيل التهكم فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]، والنبي ﷺ قال: إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار[1]، وهو معروف أيضًا في لغة العرب كما قال الشاعر:

يُبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له: ثكلتك من بشيرِ[2].

فسماها بشارة، فقيل لها: بشارة باعتبار أنه يظهر أثر هذا الخبر على بشرة المُخبر المُبشر، فإن مشاعر الإنسان تظهر على وجهه وبشرته كما هو معلوم.

أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى سبب هذه التسمية، تعليل هذه التسمية، ذكر العلماء فيه أقوالاً، فالله تعالى أعلم:

جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لأن الله أحيا به عقر أمه"[3]، يعني ما كان من سبب امتناع الحمل عند أمه كانت عاقر فأحيى الله به ذلك فردها إلى حال سوية تلد.

وبعضهم كقتادة يقول: "لأن الله أحيى قلبه بالإيمان فقيل له: يحيى"[4].

وبعضهم يقول: "سُمي يحيى: لأنه استشهد، قُتل، قتله بنوا إسرائيل، والشهداء أحياء"[5].

فهذه أقوال؛ ولكن لا شك أن أسماء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أنها تحمل أوصافًا، بخلاف أسمائنا فإنها مجرد أعلام، فالنبي ﷺ من أسماءه محمد وأحمد والحاشر والعاقب ونحو ذلك، وقد ذكر النبي ﷺ معاني هذه الأسماء في حقه، فأسماء الله وأسماء القرآن وأسماء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لها دلالة، لكن لما كانت أسماء عامة الأنبياء أعجمية فإن تعليلها من ناحية العربية لا يخلو من إشكال، فهذا الاسم كان مُبتكرًا بمعنى أنه لم يُسبق إليه: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم:7]، لم يُسمَ به أحد قبله، وهذا الاسم يحمل معنى حسنًا.

ويؤخذ منه: اختيار الأسماء الحسنة للأولاد، ليس المقصود الإغراب أن يأتي الإنسان بأسماء لم يُسبق إليها، ولكن يأتي بأسماء ولو كانت مطروقة لكنها تحمل معانٍ صالحة، معانٍ حسنة، فهذا هو المشروع.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ لاحظ تكرار لفظ الجلالة، وإظهاره في موضع يصح فيه الإضمار، وذلك في مقام يوجب التنويه به؛ لأن هذا مقام إنعام وتفضل وآية وخرق للعادة: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، وهذه الإضافة: بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ هذا يدل على خصوصية هذه البُشرى، ومُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ هذا يدل على عِظم قدرة الله حيث أولاً أوجده من غير أب وهو عيسى هو الكلمة، وتسمية الشيء بسببه، لما كان مُتسببًا عن الكلمة قيل له: كلمة، ولهذا يُقال كما في قول الشاعر:

إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه ولو كانوا غضابا[6].

هو يرعى العُشب والزرع، ترعاه دوابهم، لكن أطلق ذلك عليه باعتبار السبب، فنزول المطر من السماء هو سبب لظهور هذا النبات، إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه، رعينا ماذا؟ رعينا السماء، والسماء لا يمكن أن تكون كذلك، وإنما قصد النبات الذي يخرج من جراء ذلك.

وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ سيدًا هذا يدل على جواز إطلاق السيد على المخلوق، والنبي ﷺ قال: إن ابني هذا سيد[7]، يعني الحسن بن علي -رضي الله عنهما-.

وقال أيضًا في قصة قريظة لما جاء سعد بن معاذ ليحكم فيهم قال: قوموا إلى سيدكم[8]، يقول للأوس: قوموا إلى سيدكم، فأخذ منه أهل العلم جواز إطلاق ذلك على المخلوق، وكما في قوله تعالى: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [يوسف:25]، يعني: زوجها، والرجل سيد في أهله وفي بيته، والمرأة سيدة في بيتها وراعية لمن استرعاها الله فيه، لكن جاء عن النبي ﷺ أن السيد هو الله، ففهم منه بعض أهل العلم أن الممنوع هو هكذا بالتعريف والإطلاق من غير إضافة السيد، لكن تقول: فلان سيد بالتنكير، أو فلان سيد قومه بالإضافة، هذا لا إشكال، هذا سيدك، هذا سيدي ونحو هذا، فلا إشكال في ذلك.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَسَيِّدًا وَحَصُورًا على تفسير الحصور بالعفاف عن الفواحش والمقارفات المحرمة فهذا ذكره في صفته فدل على أن هذه منقبة، أن من سلم من هذه القبائح فلم يُقارف شيئًا منها أن ذلك يكون من أعظم مناقبه: وَسَيِّدًا وَحَصُورًا.

أما القول بأنه الذي لا يأتي النساء فقد اعترض عليه بعض أهل العلم بأن ذلك ليس كمالاً، والذين قالوه قالوا: إن ذلك ليس على سبيل العجز والنقص، وإنما أنه منصرف عن هذا كله للاشتغال والطاعة والعبادة والبلاغ عن الله -تبارك وتعالى- والدعوة إلى سبيله، ونحو هذا.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، -والله أعلم-.

وصلى الله على نبيا محمد، وعلى آله، وصحبه.

  1. أخرجه معمر بن راشد في جامعه، برقم (19687)، والبزار في مسنده، برقم (1089)، والطبراني في الكبير، برقم (326)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3165).
  2. الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (1/ 209).
  3. انظر: تفسير البغوي (2/ 34)، وتفسير الرازي (مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير) (21/ 512).
  4. انظر: تفسير الطبري (جامع البيان) (5/ 370)، وتفسير ابن كثير (2/ 37)، وتفسير البغوي (2/ 34).
  5. تفسير الرازي (21/ 512).
  6. أدب الكاتب، لابن قتيبة (ص:97).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب قول النبي ﷺ للحسن بن علي -رضي الله عنهما-: ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين، وقوله جل ذكره: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، برقم (2704).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، بباب إذا نزل العدو على حكم رجل، برقم (3043)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد، وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم، برقم (1768).

مواد ذات صلة