الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(056) قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ..} الآية:40
تاريخ النشر: ٢٩ / ذو الحجة / ١٤٣٧
التحميل: 506
مرات الإستماع: 1079

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما بُشر زكريا بالولد وقال: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ، فأُجيب: كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]، فعندها أراد أن يتعرف على وقوع ذلك وثبوت هذا الحمل بعلامة فارقة يحصل بها الميز فيما بُشر به، فقال: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41].

رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، أي: علامة استدل بها على وجود الحمل، هذا الحمل المُستبعد في مجاري العادات، الذي هو في غاية الغرابة من أجل أن يُسر بذلك، ويغتبط ويفرح: قَالَ آيَتُكَ، أي: علامتك أنك لا تستطيع التحدث إلى الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة مع أنك صحيح، لا بأس ولا علة فيك، يعني: أنه ينحبس لسانه عن الكلام، لا أنه يمتنع عن الكلام بإرادته؛ بل يكون ذلك ممتنعًا عليه، فلا يستطيع أن يتكلم ثلاثة أيام إلا رمزًا، يعني: إشارة، فهذه المدة أُمر فيها أن يُكثر من ذكر الله -تبارك وتعالى-: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، يحتمل أن يكون المراد بالتسبيح هنا الصلاة بالعشي والإبكار، والعشي يكون من بعد زوال الشمس كل ذلك يُقال له: العشي، فيدخل فيه وقت الظهر والعصر، وقد يدخل فيه في العشي باستعمال أوسع ما هو أوسع من ذلك، يعني: بعد المغرب، فالمقصود أن ذلك يحتمل هذا المعنى.

ويحتمل أن يكون المراد بالتسبيح التسبيح بالمعنى المُتبادر الذي هو تنزيه الله -تبارك وتعالى- عن النقائص، كقول: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، ونحو ذلك، وهذا هو المُتبادر، وبين القولين مُلازمة؛ فإن الصلاة مشتملة على التسبيح في ركوعها وسجودها كما هو معلوم، وكذلك أيضًا في القيام في بعض ما جاء في أدعية الاستفتاح "سبحانك اللهم وبحمدك" في أولها، والصلاة يُقال لها تسبيح، فرض الصلاة ونفلها يُقال له ذلك.

فيؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً هذا يدل على أنه لا بأس أن يطلب الإنسان آية يتعرف بها على أمر تطمئن نفسه بهذه الآية، ويحصل له كمال اليقين، لم يكن شاكًا قط، ولكن وجود الآية هو زيادة في باب اليقين، واليقين يتفاوت فهو على ثلاث درجات: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فهذه ثلاث مراتب كبار، وفي كل مرتبة يحصل أيضًا من التفاوت ما لا يخفى، فقد يتيقن الإنسان بخبر من يثق به مضمون هذا الخبر فإذا جاءه آخر يثق به ازداد اليقين، فإذا جاء ثالث ورابع وعاشر ازداد اليقين.

وهذا أمر معلوم يجده الإنسان من نفسه كالشِبع والري ولا يُحد بحد معلوم، هنا يدل ذلك: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أنه كلما زادت الدلائل والبراهين ازداد اليقين، ومن هنا كان أهل العلم أكثر الناس يقينًا، العلم الصحيح الذي يدل على الله -تبارك وتعالى، فهم أعظم الناس يقينًا وأثبت الناس اعتقادًا، وأما من قل بصره وعلمه فإنه يتشكك، ولهذا فإن عامة المسلمين يعني العوام الذين ورثوا الدين من آبائهم أنهم يحصل لهم التشكيك إذا وجد المُشكك والمُلبس، والذي يُثير الشبهات، بينما العالم الراسخ على اسمه راسخ فإنه لا يتحرك ولا يتزعز كالجبل الثابت.

ويؤخذ من هذا أن المرء ينبغي عليه أن يطلب مزيدًا من العلم من أجل أن يقوى يقينه ويتوافر علمه على المطالب الشرعية.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [آل عمران:41] أن السؤال يُراعى فيه التوسل بأسماء الله في كل سؤال بما يُناسبه من الأسماء، واسم الرب يتضمن معنى العطاء والمنع ونحو ذلك، فهنا كان عامة دعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في القرآن "ربي" وقد ذكر هذا المعنى الشاطبي -رحمه الله- في كتابه "الموافقات"[1].

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا فمجيء الولد في مجاري العادات بالنسبة إليه مُمتنع ومع ذلك وجد مع أن السبب متعذر، وهنا وهو في حال سوية ليس به بأس ولا علة ومع ذلك ينحبس لسانه عن الكلام ثلاثة أيام، يتعطل اللسان من وظيفته الأصلية التي هي الكلام، فهذا يدل على كمال قدرة الله -تبارك وتعالى، فهو قادر على إيجاد ما شاء مع انعدام الأسباب أو ضعفها، كما أنه قادر على انعدام الأشياء مع قيام أسبابها، النار التي أُلقي فيها إبراهيم نار مُحرقة: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، وخرج ليس به بأس، وهكذا.

فهذا يوجب الثقة بالله ، والإقبال عليه، ويفتح باب الأمل والفأل فلا وجود لليأس في قلب المؤمن، انظر إلى حاجات الأنبياء وسؤالات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فيما قص الله من خبرهم في سورة الأنبياء مثلاً على تنوع هذه الحاجات، فأيوب حينما دعا: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، مُباشرة جاءت الإجابة: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ [الأنبياء:84]، لأن الله هو الذي يملك الشفاء: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ [الأنبياء:84]، وهذا يونس في بطن الحوت في الظلمات يُنادي: أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، بطن الحوت في قعر البحر كيف يجد الهواء ويتنفس؟! لم يمت في بطن الحوت، لم يختنق، وليس في بطن الحوت فقط بل في قعر البحر، فكيف بقي على قيد الحياة وهو في هذه الحياة؟! وكيف وجد عنده الأمل في الخروج؛ لأنه لو لفظه الحوت في قعر البحر يموت ويغرق، فأسباب النجاة معدومة تقريبًا، ومع ذلك جاءت الاستجابة: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ [الأنبياء:88] ونجاه الله من الغم، فهنا العلة والمرض أيوب وما أصابه من ضُر، وهنا الكرب في جوف الحوت.

وزكريا : رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا [الأنبياء:89] مع أنه كما سبق الأسباب شبه معدومة، ومع ذلك يأتيه بالولد، فالله على كل شيء قدير، كل ما تطلب، وكل الحاجات، كل الآمال هي عند الله ، والخلق لا يملكون لأنفسهم حتى يملكوا لك شيء، هم لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعا، فكيف تؤمل النفع والدفع من المخلوقين؟! فالله -تبارك وتعالى- إذا شاء منع الأسباب من النفوذ، وإذا شاء أجرى الأمور على خلاف ما تقتضيه الأسباب، وإن شاء أوقع ما شاء من غير سبب، من غير سبب أعني الأسباب التي جعلها الله في مجاري العادات، وأما الله فإنه يفعل لحكمة، وأفعاله مبناها على الحكمة.

أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا فهذا الاستثناء إذا اعتبرناه متصلاً يعني أن المستثنى "رمزا" من جنس المُستثنى منه فيكون الرمز يعني الإشارة يكون من جنس الكلام، فيكون الكلام بالقول وبالإشارة ونحو ذلك، ولهذا نقول مثلاً: قال بيده، وهذا موجود وشواهده كثيرة، نقول: قال بيده، قال: بسيفه، فهذا بالفعل، وإذا اعُتبر الاستثناء من قبيل المنقطع يعني المستثنى ليس من جنس المُستثنى منه، "إلا رمزا" فيؤخذ منه أن الإشارة تقوم مقام العبارة، بل بعض أهل العلم قال: بأن ذلك أبلغ؛ لأن الإنسان قد يُخطأ في العبارة ويُخطأ في الاسم ولكنه حينما يُشير فإن ذلك يكون أدعى، وكما قال صاحب المراقي في معرفة الأشياء والأسماء واللغات:

فبالإشارة وبالتعين كالطفل فهم ذي الخفا والتبينِ[2]

يعني: أنت حينما تُشير إليه إلى هذا تقول له: ساعة مثلاً، أو تريد أن يُحضر لك شيئًا، فتُشير إليه هذا، أو نحو ذلك، فهذا قد يكون أبلغ بحيث لا يُخطأ المُتكلم، أو يسبق لسانه إلى شيء آخر.

وكذلك أيضًا لما بُشر زكريا بالولد وطلب هذه الآية، وأنه لا يتكلم فأخبره الله أنه لا يتكلم ينحبس لسانه عن الكلام: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41]، لكن في الذكر فإن ذلك طُلب منه الإكثار منها إلا الذكر، فهذا يدل على أهمية الذكر، وأنه لا انقطاع، وذكر بعض أهل العلم في تعليل قول: "غفرانك" إذا خرج من الخلاء أن المقصود بذلك التعليل هو أنه ينقطع عن الذكر في هذا الوقت، وانقطاعه بأمر الشارع ومع ذلك هو يشعر بالتقصير، فيقول: غفرانك، فكيف بالذي يقضي الأوقات الطويلة ولسانه مُعطل عن ذكر الله ؟! نجد أننا في أوقات تمضي في ساعات انتظار، وفي الطريق، وفي السيارة، ونحو هذا، وحينما الإنسان يتقلب على فراشه قد تطول مدة هذا التقلب ولا ينام، ويجد أن لسانه قد انعقد عن الذكر.

فالذكر لا يمكن للمؤمن أن يستغني عنه بحال من الأحوال، ثلاثة أيام لا يتكلم إلا الذكر، ليس يذكر فقط بل كثيرًا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، إذا قيل: بأن هذه هي الصلاة وأنها تتضمن التسبيح، فهذا يدل على أن الصلاة هي أهم المهمات مع الذكر، فالآية انحباس اللسان عن الكلام، والذكر من الكلام، ومع ذلك هو مأمور بالإكثار منه، فكيف بمن لم ينحبس لسانه؟! لا غنى لنا بحال من الأحوال عن ذكر الله ، فإذا جف اللسان جف القلب، وإذا جف القلب تسحرت النفس، وكثُرت الواردات عليها من الهموم والوساوس والخواطر السيئة، وتسلط الشيطان، والإغواء، وما إلى ذلك، الذكر هو الحِصن.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة بقوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا لم يرد الأمر بالإكثار من شيء من العبادات، يعني: يرد مقيدًا بالإكثار إلا الذكر، وهذا كثير: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، وذلك أنها عبادة خفيفة على اللسان لا تحتاج إلى هيئة مُعينة، يذكر قائمًا وقاعدًا وعلى جنب بكل حالاته، وثوابها وأثرها عظيم.

فأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين كثيرًا والذاكرات، -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. الموافقات (5/ 312).
  2. نشر البنود على مراقي السعود (1/ 110).

مواد ذات صلة