الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلما جاءت البُشرى إلى مريم -رحمها الله- بهذا الولد الموصوف بهذه الأوصاف الكاملة: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِين وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِين [سورة آل عمران:45-46]، فهذه تتمت أوصاف للمسيح ، فذكر في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوصاف، وهي: التكليم للناس في المهد، وفي حال الكهولة، ووصفه أيضًا بالصلاح.
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، يعني: وهو رضيع صغير في المهاد، والمهاد معروف، وهو ما يوطأ للصبي من الفراش.
وَكَهْلًا يعني في حال الكهولة؛ وهي المرحلة التي تعقُب الشباب، فالإنسان يمر في مراحل في العمر فيكون رضيعًا، ثم بعد ذلك يشب ويكون فتًا، ثم بعد ذلك يُناهز البلوغ يكون غلامًا، ثم بعد ذلك يكون شبابًا قويًّا فيتكامل خلقه في جسده، ويكون أيضًا إلى النُضج في عقله، والعلماء -رحمهم الله- وأهل اللغة مختلفون في تقادير ذلك، لكن الذين يقولون بأن عيسى رُفع في الثالثة والثلاثين فهذا يدل على هذا القول المشهور أن سن الكهولة يكون في الثلاثين، وأن سن الشباب ما قبلها ما قبل الثلاثين، فيتكامل ويكون أقوى ما يكون في هذه المرحلة، حتى يستتم عقله في الأربعين، وذلك غاية في بلوغ الرشد، وإلا فإنه يكون قد بلغ الرشد إذا بلغ، صار إلى سن البلوغ، ثم فيما يتصل بالأموال والتصرف فيها؛ إذا كان حسن التصرف.
حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ يعني سن البلوغ، بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، الرُشد هنا يتصل بالعقل، ولكن لابد فيه من بلوغ أيضًا، لكن ما كل من صار إلى سن البلوغ يكون راشدًا، فيتكامل العقل إلى الأربعين فيكون غاية النُضج، وأما البدن فإنه يستتم في اكتماله ونموه، الأطباء يقولون بالنسبة للذكر إلى الحادية والعشرين، وبالنسبة للبنات إلى السابعة عشرة، يعني يكتمل نمو العظام، فيبقى الناس يتفاوتون في نموهم ورُشدهم وقوتهم البدنية أيضًا، لكن منتهى ذلك إلى الأربعين بالنسبة للأبدان، ومن الناس من يتماسك إلى الخمسين؛ لكنه يصير بعد ذلك إلى الضعف التدريجي، حتى يصير شيخًا، وإلى ضعف تتلاشى معه تلك القوى البدنية، ثم بعد ذلك تتلاشى القوى العقلية، تبدأ خلايا المُخ تموت، ويُخلط حتى يصير إلى حال لا يعلم بعد علم شيئا، لا يعرف أقرب الناس إليه، وإذا خرج لا يرجع إلى بيته، ولا يعرف باب داره.
فعلى كل حال هنا عيسى يُكلم الناس في المهد على سبيل خرق العادة، يعني المعجزة؛ فالصبي في المهد لا يتكلم، فهذه ظاهرة معجزة، لكن التكليم في حال الكهولة ماذا أفاد ذكره في هذا الموضع؟
كثير من أهل العلم يقولون: بأن المقصود بذلك أنه يُكملهم في المهد على سبيل خرق العادة والمعجزة، وفي الكهولة على سبيل البلاغ والنبوة والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، أن الله يوحي إليه ويُرسله للناس فيُكلمهم على هذا السبيل أنه رسول، يُكلمهم كلام المرسلين في حال الكهولة، وأيضًا هو معدود من أهل الصلاح ومن خيار البشر وَمِنَ الصَّالِحِين.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِين [آل عمران:46]، فهو يتكلم فيما بين ذلك يعني ما بين الكهولة والمهد، ولكن ربما خص هاتين الحالتين أو المرحلتين بهذا الاعتبار، خرق العادة بالمعجزة بكلامه وهو في المهد، والنبوة فيتكلم على سبيل الدعوة والبلاغ إذا أوحى الله إليه.
وبعض أهل العلم يقولون غير هذا، بعضهم يقولون: في ذكر الكهولة أنه في ضمنه بُشرى أنه سيعيش لها حتى يتكلم في حال الكهولة.
ويؤخذ من هذه الآية الرد على النصارى الذين ألهوا المسيح وذلك أنه يمر في المراحل التي يمر بها البشر من النمو؛ فيكون رضيعًا في المهد ثم بعد ذلك يشب حتى يصير إلى سن الكهولة، والإله لا يمكن أن يكون بهذه المثابة إنما يكون ذلك للمخلوق، وفيه رد أيضًا على اليهود حيث حباه الله وأعطاه وأولاه، فهو يتكلم في المهد، وجاءت هذه البُشرى منذ صغره فقد تكلم بذلك وأن الله قد أعطاه وأولاه، فهذا رد على اليهود؛ لأنه لا عهد للناس بمثل هذا فإذا أنطقه الله في المهد فكيف يُقال فيه ما قد قاله اليهود قبحهم الله.
كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- بعد هذه الأوصاف جميعًا: وَمِنَ الصَّالِحِين فهذا يدل على أن الصلاح هو الغاية، كون الإنسان صالحًا وهي مرتبة يتفاوت الناس فيها، أعني أهلها أهل الصلاح، فالصالحون على درجات ومراتب ليسوا على مرتبة واحدة، لكن الحد الأدنى الذي يوصف صاحبه بأنه من الصالحين أو من أهل الصلاح أن يكون حافظًا لحدود الله ، ممتثلًا لأوامره مجتنبًا نواهيه، وبعد ذلك النوافل هذه أمور يتفاوت الناس فيها، فمن الناس من يكون من السابقين بالخيرات، ومنهم من يكون من المقتصدين، فلو أن ثمة صفة يوصف الإنسان بها من الأوصاف الكاملة التي يوصف بها المخلوق أفضل من الصلاح لذكرها الله ، والله أعلم.
وَمِنَ الصَّالِحِين فهذا يدل على غاية في التربية فيما يُربي الإنسان عليه نفسه ويسعى إليه، وكذلك حينما يُربي من تحت يده أن يسعى؛ لأن يكون متحققًا بالصلاح متصفًا به، وأن يُربي من تحت يده على الصلاح، هذا هو المطلوب، لا أن تكون العناية بأن نغذوا أجسامهم، ونعتني بطعامهم وشرابهم؛ ولكن ما يتعلق بجانب الصلاح وتربية الأرواح يكون مُعطلًا مهملًا، فهذه جناية في حق هؤلاء الأولاد.
كذلك الإنسان في نفسه وخاصة شأنه، من الخطأ أن يعتني الإنسان كما نُشاهد بطعامه وشرابه وأغذية صحية كما يقال، ولربما تصنع في أماكن بعيدة عن بيته ويؤتى بها تُجبى إلى داره إلى غير ذلك من الأنشطة الرياضية، ونحو ذلك في كل يوم والناس يصلون الفجر وتجده يجري يمشي، هو معتني غاية العناية بهذا الجسم الذي مصيره إلى الدود، لكنه معرض عن الالتفات إلى الروح التي تكون في حال من الاستيحاش في هذا البدن النشط لكنه بعيد عن الله وعن طاعته، فهذا الجسد الذي يُربى هذه التربية ويُغذى بألوان المطعوم والمشروب وتكون العناية بلياقته وقوامه وما شابه ذلك، على أي شيء وعلى أي أساس؟ ما الهدف في النهاية؟!
جسد له قوام ما شاء الله ولكن صاحبه عفيف الجبهة لا يعرف الله، ولا يُصلي الفرائض، ولسانه قد جف من ذكر الله ، وقلبه قد تصحر من ذكره وشكره ومراقبته والخوف منه ورجاءه، همه هو تحصيل الدنيا، وأن يعيش سليمًا من الأمراض والعِلل ونحو ذلك، هذه حياة البهائم، البهائم إنما تسعى وتعمل وتعيش مع أنها تعرف ربها: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء:44]، لكن فيما نُشاهده هي إنما تُعنى غاية العناية بأمرين: الطعام والشراب، والنكاح، هذه حياة البهائم، هي مُركزة الدائرة كلها حول هاتين القضيتين، فيعلو صوتها إذا فقدت ذلك، يعلو صوتها إذا فقدت هذا فقدت الطعام أو الشراب أو النكاح، فهل يليق بالإنسان أن يكون بهذه المثابة، الإنسان المُكرم الذي يحمل هذه الروح الذي قد أُعد له ما أُعد في الدار الآخرة!، فلاشك أن هذا من تضييع الأهداف الحقيقية وتضييع المستقبل الحقيقي، وهذا من أعظم الانحراف عن الوجهة الصحيحة، -والله المستعان.
كم ورد المقابر من صحيح؟ كم وردها من صحيح يموت من غير علة؟، ولكن كلٌ مُيسر لما خُلق له، والمؤمن يربأ بنفسه عن مثل هذا، كثيرًا ما نُمارس ذلك من غير أن نشعر ولا نقصد، لكن لغلبة الغفلة، تجد الأولاد في غاية العناية لا يذهب إلى المدرسة حتى يأكل، وإذا جاء لا بد أن يأكل، والولد يأبى ولا بد أن يأكل، ولا ينام حتى يأكل، نعتني بلباسه ونعتني بصحة بدنه، ونعتني به غاية العناية، ولكن الولد ما صلى، الولد فاتته الصلاة، الولد الناس يصلون وهو يعبث بالآيباد، لا يُحرك ساكنًا عند الكثيرين، هذا إذا كان الولد يُصلي.
وبعضهم لا يعرف الصلاة أصلًا، -نسأل الله العافية، فهذا خطأ كبير نحتاج أن نُراجع فيه ترتيب الأولويات، وما يكون به الكمالات بحيث يكون الإنسان صالحًا حقيقة، هذا هو المطلوب الصلاح، هؤلاء الأنبياء جميعًا ما وصفوا قط بصحة البدن، ائتوا لي بوصف واحد في القرآن لمن مدحهم الله ووصفهم بصحة البدن، أو وصفهم بكثرة المال على سبيل المدح، لا يوجد.
وأما طالوت: إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [سورة البقرة:247]، فذكر لهم في الجواب حينما اعترضوا وقالوا: قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [سورة البقرة:247]، فالبسطة في الجسم هنا يكون كما قال أهل العلم: أقدر على الجهاد في سبيل الله، ويكون ذلك أيضًا أثبت في الملك؛ لأن من كان في حال من الهيئة وبسطة الجسم ونحو ذلك مع الملك فإن ذلك يكون أدعى للهيبة وأثبت لملكه، هكذا ذكر أهل العلم أن البسطة هذه من أجل تحقيق أهداف شرعية، لكن الذي يسعى لقوة الجسد وصحة الجسد من أجل الرعي فقط، المرعى الأكل والشرب فقط والنكاح، هل هذه أهداف سامية؟
أبدًا، هذه ليست أهداف سامية، ولذلك لا تجد في القرآن مدحًا لشيء من هذا أبدًا، ولا تجد في القرآن الحث على الأكل والشرب أبدًا والعناية بالجسد، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، هذا على سبيل الامتنان يمتن عليهم بهذا، ولهذا يقول الشاطبي -رحمه الله: "لم يرد الأمر لهم بالأكل والشرب والنكاح ونحو ذلك؛ لأن ذلك مغروز في الفِطر"[1]، لا يحتاج إلى أمر ونهي، لكن الأشياء التي تحتاج إلى مجاهدة؛ الصبر كثير يتردد في القرآن، الصلاة كثيرًا تتردد في القرآن، الزكاة الإنفاق يتردد في القرآن؛ لأنه يُخالف أهواء النفس فيحتاج إلى مجاهدة، لكن الشرب والأكل والنكاح مجبولة النفوس عليه لا يحتاج أن يحث عليه، ولذلك من الخطأ أن يتحول الدعاة إلى مُرشدين في صحة الأجسام أو مرشدين في تثمير الأموال أو نحو ذلك، هذه لا يحتاج أن توصي الناس عليها، الرسل يدلون الناس على الله ويُبينون لهم الطريق الموصل إليه، هذه مهمة الدعاة إلى الله ، أتباع الرسل، ولذلك معنى ذلك إهمال صحة الجسد، لا أقصد هذا والسياق واضح، وإنما ذلك لا شك أنه مهم ومطلوب ولا أعني بهذا بحال من الأحوال أن الإنسان يأكل أشياء ضارة أو يُهمل نفسه أو نحو ذلك، لا، يمكن للإنسان أن يأكل من الطيبات ويتوقى ويفعل الأسباب، ويمكن أن يُمارس أنواعًا من الرياضة، وهذا لا شك أنه أفضل وأكمل، لكن أنا لا أتحدث عن هذا أنا أتحدث عن من فقط محصورة الغاية عنده هي في الطعام والشرب والنكاح وما يقويه على ذلك من النشاط وقوة البدن، هي الأهداف محصورة في هذه الدائرة، هل هذا صحيح؟
هذا غير صحيح، أتحدث عن هذه فقط، بهذا التحديد، لكن إنسان يعمل بطاعة الله ويأكل من الطيبات ويُمارس أنواع الرياضات؛ ليتقوى على طاعة الله فهذا لا شك أنه أكمل حالًا ممن يشتغل بالطاعات ولكنه قد أهمل طعامه وشرابه وقوة جسده وما يقويه وما إلى ذلك فصار في حال من الضعف والوهن، فإذا أراد أن ينهض بعباده تعطل عن عبادات أخرى، هذا الأول أكمل منه.
ودائمًا حينما نتحدث عن قضايا كهذه إنما نتحدث عنها في سياق واضح يُبين المُراد، وليس لأحد أن يفهم أن الإهمال مطلب لا للغذاء ولا للرياضات التي تكون سببًا بإذن الله لدفع كثيرًا من العلل والأوصاب والأسقام.
هنا في قوله -تبارك وتعالى: وَمِنَ الصَّالِحِين فهذا يشمل هذا الوصف العام هكذا بهذا الإطلاق، وصلاح القلب وصلاح اللسان وصلاح الجوارح، فالإنسان يلهج بذكر الله، ولا يقع في أعراض الناس، ولا في الكذب، ولا في الأمور المحرمة، والأذن لا تشتغل بمعصية الله ، وكذلك الجوارح فإنه عامل بطاعة الله ، الرجل لا تمشي إلا لما يُرضي الله، واليد لا تبطش إلا بما يُرضي الله، وهكذا.
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِين [سورة آل عمران:46]، والتعبير بالفعل المُضارع، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ فهذا يدل على أن هذا الكلام يتجدد، ليس أنه تكلم مرة واحدة فقط، وإنما كان يتكلم في المهد والله أعلم كلامًا يتكرر يدل عليه الفعل المُضارع.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، -والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.
- الموافقات (2/ 64).