الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(063) قوله تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ..} الآية 50
تاريخ النشر: ١٨ / محرّم / ١٤٣٨
التحميل: 596
مرات الإستماع: 993

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله تعالى في سياق ذكر ما للمسيح من الأوصاف، وما له من الآيات والبراهين الدالة على صدقه، وما خاطب به بني إسرائيل، كما مضى في الليلة الماضية: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ [آل عمران:49] إلى أن قال الله -تبارك وتعالى- في الآية التي بعدها: وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُون [آل عمران:50].

فخاطبهم بهذا: وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ يعني: أنه كان مُقرًا بها، وأنها من عند الله -تبارك وتعالى-، وجاء بما في ضمنه تصديق لها، مما أوحاه الله إليه، إضافة إلى التخفيف على هؤلاء من بني إسرائيل من الآصار والأغلال، وهي الشرائع الثقال التي ألزمهم الله بها لعتوهم وتمردهم على أنبيائه ورسله.

وقوله: وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فهو جاءهم بالتخفيف بنسخ تلك الأحكام الشاقة، أو بعض تلك الأحكام الثقيلة، وجاءهم أيضًا بآية من الله -تبارك وتعالى-، وقد ذكر الله بعض ما أعطاه: حيث إنه ينفخ في طين كهيئة الطير، فيكون طيرًا بإذن الله، وكذلك يُبرئ الأكمه والأبرص، ويُحيي الموتى بإذن الله، ويُنبئهم بما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم؛ وذلك مما علمه الله -تبارك وتعالى-، وأوحى إليه من الغيب، يقول لهم: فَاتَّقُواْ اللّهَ أي: اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية وَأَطِيعُون فيما آمركم به، وأنهاكم عنه، وفيما أُبلغ عن ربي -تبارك وتعالى-.

فيُؤخذ من قوله: وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ المدخل في الدعوة، لا سيما مع قوم في غاية المكابرة، فجاءهم أولاً بمثل هذا في هذه الآية: وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ فكتابهم الأعظم الذي أُنزل على بني إسرائيل هو التوراة، وهو كتاب الشريعة الذي فيه الأحكام، وهو أعظم الكتب المنزلة على بني إسرائيل، وشريعة التوراة هي أوسع الشرائع، وليس أوسع منها إلا شريعة الإسلام، التي أنزلها الله على محمد ﷺ، وهذا القرآن الذي أوحى إليه، وإلا فالتوراة تلي هذه الشريعة، من حيث السعة والشمول، ويقول لهم: بأنه مُصدق لها، فهذا هو المدخل في الدعوة والمخاطبة، بأن تأتي بما يكون سبيلاً للقبول، فيقول: أنا لست أنكر التوراة، ولا أرفضها، فهو الكتاب الذي أنزل على موسى أنا مصدق له، باعتبار أنه يعتقد صحته وصدقه، ويؤمن به.

وكذلك أيضًا جاء بما يدل على صدقه وصحته، وجاء بوحي وأحكام تُصدق ما جاء في التوراة، وبغيوب وأخبار من الله هي مصدقة لما جاء في التوراة مما أوحى الله به إلى موسى، فهذا كله داخل في هذا التصديق، ومُصدق ومعتقد صدقها، ومُعلن بذلك.

وأيضًا في ضمن ما أوحى الله إليه جملة من الأمور، سواء كانت من الأحكام والشرائع، أو كانت من الأخبار والغيوب فهي تدل على صدق ما جاء في التوراة، فهذا يُصدق هذا، وهذا التصديق يشمل ما ذُكر، والله تعالى أعلم؛ ولهذا قالوا: بأن من علامة الصادق أن يكون خبره من جنس خبر الصادقين، فيتطابق هذا وهذا، فالأشياء التي جاء بها هي موافقة لما جاء في الكتاب قبله، وهو كتاب موسى ، فهو يأمر بالعدل والبر والإحسان والتقوى، وعبادة الله وحده، لا شريك له، فلا تناقض ولا تخالف.

الأمر الثاني: الذي يجذبهم إلى الإيمان والقبول -لكنهم عُتاة- جاء في قوله: وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فاليهود في شريعتهم -شريعة التوراة- أحكام ثقيلة، وهناك أشياء لا ندري هل هي من المُحرف أو لا؟ فمما عندهم: أن الثوب إذا أصابته النجاسة قُطع، فلا يُجدي معه الغسل، ولو غُسل بمياه البحار لا يطهر، بل يجب أن يُقطع الجزء الذي أصابته النجاسة، مُبالغة في الطهارة، فتُفضي إلى الإتلاف.

ومما عندهم أيضًا: أن المرأة إذا حاضت تعتزل، فلا تُلمس، ولا تُجالس، ولا تؤاكل، فتأكل وحدها منعزلة، لا يقربها إنسان آخر، لا الزوج ولا غير الزوج، فتبقى في عُزلة وانغلاق مدة الدورة، يعتقدون أنها نجس وقذر بكليتها، ولكن الله قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222] يعني الجماع فقط، لكن له أن يأكل معها ويُجالسها ويُباشرها وينام معها في فراش واحد، ولا تعتزل هذه المرأة في هذه المدة، وإنما فقط أنها لا تُصلي ولا تصوم، ولكن تقرأ القرآن من غير مس، وتذكر ربها وتعبده وتُجالس الناس، وتُخالطهم وتؤاكلهم، وكذلك التوبة العظيمة التي كانت من عبادة العجل: فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ [البقرة:54] فكانت توبتهم بالقتل، حتى قيل: أُلقي عليهم الغمام، السحاب الأبيض الرقيق، يعني مثل الضباب، بحيث صار الإنسان لا يُميز من أمامه، فصار الواحد يلقى أباه وأخاه وأقرب الناس إليه فيضرب وجهه بالسيف، حتى قيل: إنه قتل منهم في يوم واحد سبعون ألفًا، حتى رفع الله ذلك عنهم، وتاب عليهم، بعد هذه المقتلة الكبيرة، وليس معناها أن يقتل نفسه هو، وإنما: فليقتل بعضكم بعضًا؛ لأن المشتركين في ملة ودين يُنزلون منزلة النفس الواحدة، فقال: فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ يعني: فليقتل بعضكم بعضًا، فهذه كانت التوبة عندهم، بينما في هذه الشريعة يكفي إن الإنسان يندم ويعزم أن لا يعود إلى الذنب، ويُقلع منه، وإذا كانت مظالم للعباد ردها، فهذه هي التوبة في الإسلام، والله يفرح بها ذلك الفرح الذي وصفه النبي ﷺ.

فهنا يُرغبهم بقوله: وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وهذا أيضًا يُؤخذ منه وقوع وجواز النسخ، سواء كان في الشريعة الواحدة، بحيث يقع نسخ كما وقع في هذه الشريعة في وقائع متعددة، يعني مثلاً كان مما يُحرم عشر رضعات، ثم نُسخ إلى خمس رضعات مُشبعات، هذا كان بهذه الشريعة، إلى غير ذلك مما نُسخ، وكانت المرأة تعتد عدة الوفاة حولاً كاملاً، ثم نُسخ ذلك بأربعة أشهر وعشرة أيام، وما بين الشرائع جاءت هذه الشريعة -شريعة الإسلام- ناسخة لما قبلها من الشرائع.

فكان عيسى مُتعبدًا بالتوراة؛ لأن الإنجيل لم ينسخها، وكتاب التشريع -كما ذكرت- هو التوراة، وأما الإنجيل فقالوا: إنه في غالبه ومُجمله يتحدث عن آداب ورقاق، وما أشبه ذلك، وفيه بعض الأحكام، ونسخ بعض الآصار، لكن كتاب الشريعة هو التوراة، فالنصارى هم من جملة بني إسرائيل، وهم الذين آمنوا بالمسيح، وهم متعبدون بالتوراة، فكتابهم في الشريعة هو التوراة، لكن لشدة بُغضهم لليهود تركوا العمل بالتوراة، وبقوا بلا شريعة ولا قانون، كما قال أهل العلم كابن كثير -رحمه الله-[1]، فاضطروا إلى البحث عن نظام وقانون يضبط حياتهم، ويتحاكمون إليه، فاخترعوا قانونًا وضعيًا سموه: الأمانة الكبرى، وهو كما قال ابن كثير الخيانة العظمى، أو الخيانة الكبرى[2]، حيث تركوا شرع الله، واستعاضوا عنه بقوانين من نتائج أفكارهم، وزُبالة أذهانهم، وهكذا كل من ترك الحق الذي هو بصدده، وأُمر باتباعه، والعمل به، اُبتلي بالاشتغال بما يضره، قال الله عن اليهود لما تركوا العمل بكتابهم: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُون ۝ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:101-102] فتركوا العمل بالتوراة، واستعاضوا بالسحر، واتباع السحرة.

فقوله: وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ يدل على النسخ، وهذا من أدلة ثبوته، وقوله: بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ يدل على أن عيسى ما جاء ناسخًا للتوراة، وإنما لبعض ما حُرم عليهم، فالتحليل والتحريم هذا من التشريع، فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يأتون بالوحي من الله فيما يكون به صلاح الناس في العاجل، والسعادة والنجاة في الآجل، فيكون ذلك بالتشريعات التي تحكم حياتهم وتُنظمها، ويكون ذلك بالأخلاق والآداب التي تُهذب السلوك، ويكون ذلك بسائر الجوانب التي يحصل بها الكمال الإنساني، فيكون الإنسان على أحسن الأحوال وأتمها، والنبي ﷺ يقول: إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق[3] فتأتي الشريعة بالحلال والحرام، وليست فقط فيما يتصل بالجوانب السلوكية، أو ما يتعلق مثلاً بالعبادات التي تكون مثلاً في المسجد، أو نحو ذلك، أو الأحوال الشخصية، وإنما تكون بكل جوانب الحياة، هكذا جاءت الشرائع لتنتشل المُكلف من داعية الهوى إلى عبادة الله وحده، لا شريك له، ليكون عبدًا لله، وإلا كان عبدًا لهواه.

ويؤخذ من قوله: وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: إن أصل دين اليهود فيه آصار وأغلال من التحريمات[4]؛ ولهذا قال لهم: وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ.

وفيه أن من دواعي القبول: الشفقة على المدعوين والتخفيف عنهم فيما لا يكون خروجًا على حدود الله -تبارك وتعالى-، وتضييعًا لأحكامه وشرائعه، فجاءهم بهذا: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}.

ويؤخذ من قوله: وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وقوله: وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ أن النسخ لا يُنافي التصديق بالكتاب المُنزل، فحينما نسخ بعض الأحكام لا يعني ذلك أنه غير مُصدق به، فهو مُصدق به، ونسخ بعضه، وهذا النسخ لم يكن من قِبل نفسه، وإنما كان بوحي من الله -تبارك وتعالى-.

ثم أيضًا في قوله: وَلأُحِلَّ لَكُم أضاف التحليل إلى نفسه، والواقع أن الذي يُحلل ويُحرم هو الله، فذلك مختص به، وهنا أضافه إلى نفسه باعتبار أنه المُبلغ عن الله، فصحت هذه النسبة والإضافة.

كذلك أيضًا في قوله: فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُون أمر أولاً بالتقوى؛ لأن التقوى هي الأصل، والقاعدة التي يحصل من تحققها القبول والاستجابة، فمن اتقى الله -تبارك وتعالى- وكان متحققًا بهذه الصفة، كان متهيئًا للاستجابة والقبول عن الله -تبارك وتعالى-، فقدم بقوله: فَاتَّقُواْ اللّهَ، ثم قال: وَأَطِيعُون وهذا يدل على أن من لوازم التقوى طاعة الرسول ﷺ، مع أن طاعته من التقوى، ولكنه خص ذلك لتأكده وأهميته، فهو جاء مُخاطبًا لهم، أرسله الله إليهم، فقال: فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُون كما قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون [الحشر:18] فأمر بالتقوى مرتين، والذي يظهر أنه لو قال قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ [الحشر:18] هنا التقوى هذه هي القاعدة والمنطلق والأساس للقبول، فأمرهم بها أولاً فقال: اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18] مثل ما هنا، ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر:18] والأقرب أنها ليست للتوكيد؛ لأن القاعدة أن التأسيس مُقدم على التوكيد، فتكون وَاتَّقُوا اللَّهَ الثانية في هذا النظر والمُحاسبة، حينما ينظر الإنسان ماذا قدم لغده وهو الآخرة، فلا يُكابر ويقول: أنا أحسن من غيري، الناس لا يصلون أصلاً، وأنا أصلي في البيت، وفي كثير من الناس لا يعرف ربه، ويفعل الفواحش، وأنا ما وصلت إلى هذا المستوى، هذا مُكابر، فيكون المعنى: اتقوا الله في هذه المحاسبة، لا ينظر الإنسان إلى من هو دونه ممن انحطت مرتبته في تقوى الله ، ويقول: أنا أفضل من غيري، هو سيصل إلى الحضيض في النهاية؛ لأنه لا يزال يجد من هو أسوء منه، ولكن ينظر إلى من فوقه، ويقول: أين أنا من هؤلاء الأتقياء الأنقياء؟! وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُون فهذه تقوى يمكن أن يُقال بأنها خاصة، وهي التي من شأنها أن تتحقق معها الطاعة والانقياد لهذا الرسول ، ثم أيضًا هو أمرهم بطاعته، وهذا أمر لا بد منه، ولازم لجميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أن يُطاعوا، وإلا فلا معنى لبعثهم، وإرسالهم إلى الناس.

وأيضًا في قوله: فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُون أضاف التقوى إلى الله ، والطاعة إلى نفسه، فالتقوى دائمًا تختص بالله ، اتقوا الله، وحينما يقول: فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24] ذلك يكون بتقوى الله ، فالنار هي عذابه، لكن الطاعة تكون لله وتكون لرسله، وتكون لأولي الأمر فيما لا يكون معصية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء:59] فهنا في قوله -تبارك وتعالى-: فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُون هذا أمر بالتقوى، والأصل أن الأمر للوجوب، فتقوى الله واجبة، كذلك أيضًا طاعة الرسول واجبة وَأَطِيعُون وهكذا يُقابل من جاء بالحق والهدى من الله -تبارك وتعالى- بالطاعة لا بالتكذيب والكفر والأذى.

وقوله: جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ يؤكد القول الأول الذي سبق أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وهذا لإبراز البُرهان والدليل على صدقه، فلذلك أُعيد ثانية، وليُبنى عليه ما جاء بعده فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُون والمعنى: أنا جئتكم بآية وبرهان تدل على صدقي، فهذا يقتضي الإذعان.

وأيضًا في قوله: فَاتَّقُواْ اللّهَ وفي قوله: وَأَطِيعُون، فَاتَّقُواْ اللّهَ حُذف هنا المُتعلق، فلم يقل: فاتقوا الله مثلاً في كذا، أو في الأمر الفلاني، وإنما قال: فَاتَّقُواْ اللّهَ فحذف المُتعلق يُفيد العموم النسبي، هذه القاعدة، فمعنى ذلك أنه يجب أن يُتقى الله في كل شأن من الشؤون، وكذلك وَأَطِيعُون لم يقل: أطيعون مثلاً في القضايا التي تتعلق بالأخلاق، أو أطيعون في موضع النسخ لما كان في التوراة من الآصار، أو أطيعون مثلاً فيما يتعلق بالعبادات، وإنما أطلق وَأَطِيعُون فطاعة الرسول واجبة في كل ما يأمر به، حذف المتعلق، فيُطاع في كل ما أمر به.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (5/231).
  2. تفسير ابن كثير ت سلامة (5/231).
  3. أخرجه أحمد ط 2 الرسالة رقم (8952) وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم برقم (2349).
  4. مجموع الفتاوى (1/87).

مواد ذات صلة