السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(086) قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ...} الآية 78
تاريخ النشر: ٢١ / صفر / ١٤٣٨
التحميل: 487
مرات الإستماع: 1193

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- من خبر أهل الكتاب: كتمان الحق الذي اؤتمنوا عليه، ولبس الحق بالباطل، وشراءهم بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلاً، ذكر بعد ذلك تحريفهم للكتاب، فقال الله : وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون [آل عمران:78].

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ هذا وقع من اليهود، حيث كانوا يجاورون النبي ﷺ في المدينة، مع أنَّ النصارى وقع منهم التحريف أيضًا، لكن الذين كانوا يفعلون هذا مع المسلمين هم من كان يجاورهم من اليهود، فهؤلاء يحرفون الكلِم عن مواضعه كما وصفهم الله -تبارك وتعالى-، فالتحريف بنوعيه تحريف الألفاظ، وتحريف المعاني، وقع منهم.

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يعني: طائفة، يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ يعني: ليوهموا غيرهم أنه كلام الله -تبارك وتعالى-، فبعضهم يقول: المقصود بالكتاب هنا التوراة، حيث حرفوها، وبعضهم يقول: إن ذلك في القرآن، حيث أرادوا التلبيس على أهل الإيمان.

وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ هو من عند الله أوحى به إلى موسى على القول بأن ذلك في التوراة.

وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون أي: يجترئون عليه هذه الجراءة، ويُضيفون إليه ما لم يتكلم به، ولم يُنزله، وهم يعلمون أنهم كذبة.

فهؤلاء لما ذكر الله -تبارك وتعالى- كذبهم، ذكر تحريفهم، وهذا لون من الكذب والافتراء على الله -جل جلاله، وتقدست أسماؤه-.

والمقصود من الكتاب: حفظ ألفاظه، وعدم التبديل، وفهم المراد على وجهه، كما أراد الله -تبارك وتعالى-، وتبليغ الألفاظ، وإفهام المعاني والأحكام، لكن هؤلاء عكسوا القضية، فبدلوا الكِلم وحرفوه عن مواضعه في الألفاظ، فلم يؤدوها كما أُنزلت، وحرفوا المعاني على غير مراد الله -تبارك وتعالى-، هكذا صنعوا، وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ وجاءت هذه الجملة كما ترون بالتأكيد وَإِنَّ مِنْهُمْ فهو أمر متحقق، واقع من طائفة من هؤلاء.

ثم إن الله -تبارك وتعالى- لم يُضف ذلك إلى الجميع، وإنما أضافه إلى طائفة من علمائهم وأحبارهم ومقدمِيهم، وذوي الشأن فيهم، فهم الذين كانوا يُبدلون ويحرفون، كما قال الله -تبارك وتعالى-: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [الأنعام:91] فهذا كله من ممارساتهم القبيحة تجاه كتاب الله -تبارك وتعالى-، وهو التوراة.

فجاءت هذه العبارة: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ باعتبار أن شأن الكتاب لا يلتبس، ولكن ذلك قد يدخل على من لا عهد له بالكتاب، ولا تمييز له بينه وبين غيره من كلام الناس، والتحريف: بلي الألسُن، الظاهر أن المقصود به تحريف الألفاظ، مع ما يتلوه من تحريف المعاني؛ لأنهم إذا حرفوا الألفاظ، فإن ذلك يكون أيضًا تحريفًا للمعاني، فتحريف الألفاظ يُقال له: تحريف التنزيل، والثاني هو تحريف التأويل، وهذا كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: قد وقع كثيرًا في هذه الأمة، وشابهت هذه الأمة أهل الكتاب[1]، لكن فيما يتعلق بتحريف التنزيل لم يقع في كتابنا؛ لأن الله تعهد بحفظه، ولكنه وقع من ذلك ما وقع في سنة رسول الله ﷺ بالأحاديث الموضوعة المكذوبة التي ميزها الجهابذة، وبينوا الصحيح منها من غيره، ولكن تحريف التأويل هذا واقع فيما يتصل في كتاب الله وفي سنة رسول الله ﷺ من قِبل طوائف من أهل الأهواء والبدع، فكل طائفة عمدت إلى كتاب الله من أجل أن تستدل به، وتحتج على مذهبها ورأيها وباطلها، كما هو معلوم، ولذلك تجدون كتب التفسير على المذاهب المختلفة، فالمعتزلة ألفوا في التفسير، والفلاسفة أيضًا ممن يُقال لهم: الإسلاميون من الفلاسفة، وكذلك أيضًا طوائف الصوفية، وطوائف أهل الكلام، والباطنية، وقل مثل ذلك أيضًا فيما وقع لدى بعض من يتعصب للمذاهب الفقهية؛ ليحمل كلام الله على مذهبه، فهو يعتقد شيئًا، ثم بعد ذلك يحمل النصوص عليه؛ لتكون دالة على باطله، أو موافقة له، فإن لم يتمكن من ذلك، فإنه يسلب هذه النصوص دلالاتها الصحيحة؛ لئلا تدل على الحق، أو لئلا تدل على خلاف ما يعتقد، فهذه طريقة أهل الأهواء في الاستدلال والنظر إلى الأدلة، وما سلم من ذلك إلا أهل السنة المحضة.

لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ لتحسبوه، أي: هذا الذي يلوون به ألسنتهم من التحريف، فنفاه الله -تبارك وتعالى-، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ للتأكيد، وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ فنفى كل واحدة من هذه الدعاوى على حده تأكيدًا للبطلان، وأن كل ما ادعوه فهو فاسد وباطل وكذب على الله -تبارك وتعالى- وعلى كتابه، وهذا يدل أيضًا على بجاحة هؤلاء، حيث إنهم يصرحون أنه من عند الله -تبارك وتعالى-، وأن هذا كلامه دون أن يكون ذلك دسًا في الخفاء، ثم بعد ذلك يبتعدون عن المشهد، وإنما يفعلون ذلك مُكاشرة، ومصرحين بهذا التأويل أو اللي والتحريف من غير خوف من الله -تبارك وتعالى-، فهذا يدل على حالهم، وما صاروا إليه، وقد وقع لهم ذلك منذ القِدم، حينما كلم الله موسى ، وأمره ونهاه، جاء عنهم أنهم قالوا: سمعنا الله يأمر وينهى، ولكنه قال: إن شئتم فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا، إلى هذا الحد، فهؤلاء صحبوا موسى ، فقوم بهذه المثابة لا يُرجى منهم خير، ولا يوثق بعهد منهم، وليس لهم ذمة ولا أمانة، فكرر: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وكان يمكن أن يُقال: وما هو منه، فالضمائر تختصر، ولكنه أظهره في مقام يصح فيه الإضمار؛ وذلك للتأكيد، ولتسجيل الكذب عليهم بصورة جلية، ففي ذلك ما فيه من التشنيع على هؤلاء، وهكذا التعبير بالفعل المضارع يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ فالمُضارع يدل على الاستمرار، فهم يفعلون ذلك ويُكررونه مرة بعد مرة، ولم يقع ذلك منهم مرة واحدة، وإنما ذلك ديدنهم وعادتهم المستمرة.

ولم يقل أيضًا: وما هو من عنده، وإنما قال: وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ فإظهار هذا الاسم الكريم في مقام يصح فيه الإضمار لتربية المهابة والخشية والتعظيم.

وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون فهذا أشد وأشنع، ولما كان الكذب -كما يقول بعض أهل العلم- يُقال لكل ما خالف الواقع، فالكذب يُقال بإطلاقه الواسع، فمن أخطأ يُقال: كذب في اللغة، لكن الكذب الذي فيه المؤاخذة، ويلحق صاحبه الذم هو الكذب الذي يكون عن قصد، ولو كان في الخارج موافقًا للواقع إذا كان ذلك يُخالف ما فيه نفسه؛ ولهذا قال: وَهُمْ يَعْلَمُون بمعنى أن الإنسان حينما يُصرح ويقول مثلاً بأن زيدًا مسافر وهو يعتقد أنه موجود، والواقع أنه مسافر، لكنه لا يعلم، فهذا الآن موافق للواقع، لكنه مخالف لما في نفسه، فهذا هو الكذب المذموم، خالف ما في نفسه، ولو وافق الواقع، كما كانوا يقولون للنبي ﷺ كما قال الله تعالى: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون [المنافقون:1] يشهدون بماذا؟ بأنه رسول الله ﷺ، فهذا موافق للواقع، لكنه مخالف لما في نفوسهم، فجاء التكذيب لهم بقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون فأكذبهم في قولهم هذا، فهذا هو الكذب المذموم شرعًا، ولكن مجرد مخالفة ما في الواقع فهذا قد يقع بالصورة الأخرى في الخطأ، حيث إن الإنسان قد يُخطئ لكونه يعتقد ذلك الذي قاله، فلم يكن ما قال مطابقًا للواقع، فيُسمى في اللغة كذب؛ ولذلك تجدون في عبارات المتقدمين من السلف من الصحابة أو نحوهم: "كذب فلان" بمعنى أخطأ.

فهؤلاء يقولون على الله الكذب، وليس ذلك على سبيل الخطأ منهم، بل مع علمهم، وَهُمْ يَعْلَمُون فهذا لا شك أنه شنيع وشديد، ويدل على أنهم يقصدون ذلك، ولم يكن خطأ وقع منهم، والله المستعان.

فإذا كان هؤلاء يجترئون على الله هذه الجُرأة، فهم على خلقه أجرأ، فلا تسل عن الكذب والتدليس والتحريف بأنواعه مما يقع في كلام المتكلمين، مما يصدر عن هؤلاء اليهود، والله المستعان.

هذا، -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/88).

مواد ذات صلة