الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما ذكر الله -تبارك وتعالى- مواقف أهل الكتاب من هذه الرسالة، ومن هذه الأمة، ومن هذا الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وما جاء به من عند الله -تبارك وتعالى-، وما انطوت أنفسهم عليه من الكيد والحسد لهذه الأمة، ونبيها -صلوات الله وسلامه عليه-، قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك مُبينًا أيضًا لأحوالهم من جهة أمانتهم: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون [آل عمران:75].
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، لكن الذين قالوا هذه المقالة هم اليهود، كما هو معلوم وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ و(من) هذه يمكن أن تكون تبعيضية، باعتبار أن طائفة منهم بهذه الصفة، وطائفة أخرى بصفة مُغايرة.
بِقِنطَارٍ القنطار: هو المال الكثير، ولكنه على الأرجح لا يُحد بقدر معين، وإن اختلفت عبارات المفسرين، وشُراح الحديث، والفقهاء، وأهل اللغة في تحديده، لكن هو المال الكثير، وقد مضى هذا عند قوله -تبارك وتعالى- وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران:14] والمعنى: من إن تأمنه بمال كثير يؤده إليك، وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ فالدينار قليل بمقابل القنطار، لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا يعني: في حال كونك تبذل غاية الطاقة والوسع في مطالبته، ومُلازمته مُلازمة الغريم لغريمه، بهذا يمكن أن يؤدي إليك حقك، ولو كان قليلاً، ذَلِكَ يعني: هذا الصنيع من هؤلاء الفئة الثانية التي لا تؤدي الأمانة بِأَنَّهُمْ الباء هنا للسببية، أي: بسبب أنهم قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ يعني: ليس علينا في أموال هؤلاء العرب حرج، فهم يفعلون ذلك استحلالاً، فيأخذون هذه الأموال من غير أن يلحقهم بسبب ذلك تبعة، ولا مأثم؛ لأنها مُباحة لهم بزعمهم.
وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ بأن الله أحل لهم أموال هؤلاء العرب، إلى غير ذلك من أكاذيبهم وافترائهم على الله -تبارك وتعالى-.
وَهُمْ يَعْلَمُون أي: وهم يعلمون أنهم كاذبون.
فيؤخذ من هذه الآية الكريمة: اختلاف أحوال أهل الكتاب، كما ذكر الله -تبارك وتعالى- أيضًا اختلاف أحوالهم من جهة الاستقامة والطاعة والعبادة لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِين وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِين [آل عمران:113-115] فهؤلاء قبل مبعث النبي ﷺ، ممن تابع نبيه على التوحيد والإيمان، والشرع الصحيح الذي جاء به من غير تبديل، وكذلك من تبع النبي ﷺ، وآمن به من أهل الكتاب، وأما بعد بعث النبي ﷺ، فلا يمكن أن يُمدح أحد من هؤلاء بالإيمان، والعمل الصالح؛ لأن كفره بالنبي ﷺ هو كفر بالله، وكفر برسله -عليهم الصلاة والسلام-، فإن من أراد أن يُفرق بين الله ورسله، وبين الرسل بعضهم من بعض، فإنه يكون بذلك كافرًا، بنص القرآن.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ابتدأ بهذه الفئة الأمينة؛ وذلك ربما يكون باعتبار تقديم أهل الأوصاف الكاملة على غيرهم، فأهل الكمالات يُقدمون على أهل الظلم والنقص والكفر والتضييع، ويمكن أن يكون ذلك باعتبار المُبالغة في إنصاف هؤلاء أهل الكتاب، فابتدأ بمن يُمدح منهم، مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ فهنا ذُكر القنطار باعتبار أنه الأكثر، وإذا كان يؤدي القنطار ولم يذكر المطالبة، والقيام عليه، فمعنى ذلك أنه يؤدي ما دونه من باب أولى، فمن يؤدي المال الذي يكون عظيمًا، فتأديته لما دونه كالدينار، ونحوه من باب أولى، وهذا الذي يُسميه الأصوليون بمفهوم الموافقة، وهو بمعنى أن يكون حكم المنطوق يوافق المفهوم يعني المسكوت عنه، فالمنطوق به ها هنا: أنه إذا اؤتمن على قنطار أداه، هذا الذي نطقنا به، والمسكوت عنه: أن أقل من القنطار يؤديه من باب أولى، فالمسكوت عنه يسير في نفس الاتجاه أنه يُؤدى، فهو موافق لحكم المنطوق، من حيث الأداء والأمانة، فهذا يسمونه مفهوم الموافقة، ويسميه بعض الأصوليين بفحوى الخطاب، مثل قوله -تبارك وتعالى- في الوالدين: فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] فمن باب أولى النهي عن الضرب والزجر والشتم، وأنواع الأذى، فإذا نهى عن التأفيف وهو أقل الأشياء، فما فوقه من باب أولى، هذا اسمه: مفهوم الموافقة، فهنا التأفيف منصوص عليه، ومنطوق به، والمفهوم المسكوت عنه: الضرب مثلاً، فهو يشترك معه في الحكم بأنه لا يجوز، فإذا كان التأفيف لا يجوز، فالضرب من باب أولى، قولنا: من باب أولى هذا معناه أنه مفهوم؛ لأنه مسكوت عنه، مفهوم موافقة أولوي؛ لأن هناك ما هو مساوي، وهذا يُقال له: أولوي يعني من باب أولى، والمساوي مثل النهي عن أكل مال اليتيم، هذا منطوق، وإحراق مال اليتيم؟ نفس الحكم، هما سواء، فسواء كان يُحرق مال اليتيم، أو يأكله، فالحكمان متحدان، هذا منطوق، وهذا مسكوت عنه، لكن هما سواء في الحكم، لكن قد يكون المسكوت عنه من باب أولى، فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ الضرب مسكوت عنه من باب أولى، وهو موافق في الحكم من حيث التحريم.
لكن مفهوم المخالفة عكس ذلك، ما هو مفهوم المخالفة؟ مفهوم المخالفة عكس هذا: افعل كذا، لا تفعل كذا، فينما يقول الله : وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] هذا نهي عن أكل الأموال بالباطل، هذا منطوق، المفهوم: كلوها بالحق، عن طريق: الهبة والهدية والشراء، ونحو ذلك مما يصل إليكم بطريق مُباح، وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] المنطوق: النهي عن إيتاء السفهاء الأموال، المفهوم: أبقوا هذه الأموال، واحفظوها من الضياع حتى حين الرُشد.
فقوله: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إذًا ما دون القنطار من باب أولى، وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ فهؤلاء أهل الخيانة منهم، فذكْر الدينار وهو الأقل، فما فوقه من باب أولى، لا يؤديه، فلو أُعطي هذا القنطار ماذا سيفعل؟ سيكون من باب أولى أنه يمتنع من أدائه لمالكه، أو صاحبه.
إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا أي: مُلازمًا، فأخذ منه بعض الفقهاء جواز أن يُحبس من كان عليه دين حتى يؤدي الدين، لكن لو قُيد هذا بمن كان واجدًا مماطلاً، أما إذا كان مُفلسًا، وليس عنده شيء، ولا يحتال، فمثل هذا كما قال الله : وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] فنظرة هذا أمر، أي: فإنظار إلى حال اليُسر.
ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: القياس، وهو الذي يُسميه بعضهم القياس في معنى الأصل، أعني في مفهوم الموافقة، الذي أشرت إليه آنفًا، بحيث يُذكر المثال بفرد ليدل على ما سواه، الاقتصار بالمثال: قنطار، وفي الجهة الثانية: دينار، فما احتاج أن يقول: قنطار، أو ألف دينار، أو مائة ألف، أو عشرة آلاف، أو غير ذلك، وإنما ذكر واحدًا ليدل على غيره، والباقي يُفهم منه.
وأيضًا ذكر الله حال هؤلاء الخونة من أجل التعجيب من حالهم، ومن تضييعهم للأمانة، ومن ثَم فإنه لا ينبغي للمسلم بحال من الأحوال أن يكون بهذه المثابة، وأنه إذا وقع في يده شيء من أموال الناس أخذه، ولم يرده إلى أهله، فهذه صفة في غاية السوء، وهي من أكل أموال الناس بالباطل، وتضييع الأمانات، والله يقول: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] فيدخل فيها هذه الودائع، يعني: سواء كان هذا المال قد حصل له بطريق الوديعة، أو كان من أثمان، أو قيم لسلع اشتراها، أو نحو ذلك، فهو لا يؤدي الثمن بحال من الأحوال إلا بصعوبة، وإذا استأجر واكترى دارًا من أحد أبى أن يعطيهم الكراء، وهو يجد، ثم بعد ذلك يملون من مطالبته، ومن كثرة الاتصال به، وإرسال الرسل إليه، وبعد ذلك يلجئهم إلى المُرافعة إلى المحاكم، ونحو ذلك، بل قد يملون من المطالبة، ويطلبون منه، ويستجدونه أن يخرج من دارهم من غير أجرة، يبقى فيها خمس سنوات وأكثر من ذلك، أو أقل، ثم بعد ذلك يستجدونه أن يخرج فقط، ولا يدفع لهم شيئًا من الأجرة، وهو يأبى، ويتكلم بفوقية، وربما يتوعد ويتهدد، فهذا للأسف ليس من صفات أهل الأمانة، وإنما ذلك من صفات هؤلاء الفئة من اليهود، وساقه الله -تبارك وتعالى- من أجل عيبهم، وبيان خيانتهم، فإنه إذا حصل من أحد من هذه الأمة التي هي أكمل، فإن اللوم المتوجه عليه يكون أعظم من المتوجه إلى هؤلاء من أهل الكتاب من بني إسرائيل، وكما ذكرنا قبل بأنه على قدر المقام يكون الملام، فالكُمّل يتوجه إليهم من العتب والملامة ما لا يتوجه إلى من كان دونهم، فالله -تبارك وتعالى- يذكر هذا عن هؤلاء على سبيل العيب، فكيف تكون الخيانة خُلق لمن كان متبعًا لكتاب من الكتب المُنزلة، هذا أمر يستحق أن يُتعجب منه، لكن يزيد العجب أنهم يستحلون ذلك، قال الله تعالى: ذَلِكَ يعني: الصنيع من الفئة الثانية الخائنة بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ والأميون هم العرب، أي: ليس عليهم فيهم حرج، وهذا استحلال لأموال الناس، فهو أعظم من أكلها مع استشعار واعتقاد أنها محرمة، ويُضيفون ذلك إلى الله -تبارك وتعالى- كذبًا منهم.
وفي كتابهم التلمود الذي يعظمونه، ويسيرون على سننه أعظم من سيرهم على التوراة: إن الأمم الأخرى التي يسمونها الجنيم، أنها حمير اليهود، خُلقت من أجل أن يركبها اليهود، هذا نظرهم واعتقادهم في غيرهم، أن هؤلاء خلقوا من أجل أن يركبهم اليهود، فيستحلون بلادهم وأموالهم ودماءهم، وكما ترون ما يفعلون بإخواننا في فلسطين؛ وذلك ليس بغريب على أمثالهم، بل يُستغرب عنهم لو صدر العدل والإنصاف، وما إلى ذلك، فيكون صدوره من غير مظانه ولا معدنه، فهذا الذي يُستغرب، والشيء من معدنه لا يُستغرب، فالخيانة هم من معادنها ومظانها، وأيضًا مثل هذه الأعمال الشنيعة التي يعملونها، وهكذا كل صاحب خُلقٍ مرذول، فإنه لا يستغرب منه صدور السوء، ولكن يُستغرب منه صدور العمل الطيب، والقول الطيب، والأوصاف الكاملة، أو المحمودة، فذلك يُستغرب منه ويُستنكر، فهؤلاء مثلاً الذين يطعنون في الإسلام وثوابته وأصوله العِظام، في كتاباتهم ومدوناتهم وأعمدتهم، وما إلى ذلك، لو صدر عنهم في يوم من الأيام كتابة يُدافعون فيها عن السنة والإسلام، لكان ذلك غريبًا، لكن الأصل أنهم إنما يصدر عنهم كل قول مشين، وكل عمل مرذول مهين -والله المستعان- هذا اللائق بهم كما قال الله -تبارك وتعالى-: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:26] الخبيثات للخبيثين، كما قال ابن جرير بمعنى: أن الأقوال الخبيثات للخبيثين من الناس[1]، فإن صدرت عنهم فهم مظنتها، وهي ترجع إليهم وتضرهم، ولا تضر من قيلت فيهم من أهل الإيمان، كذلك الخبيثون من الناس للخبيثات من الأقوال، مع أن معنى الآية أوسع من هذا، كما ذكرت في بعض المناسبات: أن الخبيثات من الأقوال والأوصاف والذوات للخبيثين من الناس، وهكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من الأقوال والأوصاف والأفعال والذوات، فهؤلاء كما قال الله في المنافقين: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التوبة:67] وقال الله -تبارك وتعالى- في الكفار الذين طلبوا الآيات: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ يعني: مع من قبلهم، فالقلوب تتشابه في الضلالة والكفر والأوصاف المرذولة، كما تتشابه أيضًا في الإيمان والطاعة والاستقامة.
وأيضًا يُؤخذ من هذه الآية العدل والإنصاف، ولو كان المذكور بغيضًا، فهؤلاء من اليهود إذا كان فيهم من فيه أوصاف كاملة، أو نحو ذلك، فإن ذلك يُذكر، فهذا في مقام يُذكر فيه ما له، وما عليه، لكن إذا كان المقصود التحذير، فإنه لا محل لذكر الأوصاف الكاملة، وإنما يُذكر الأوصاف المنفرة؛ لكنهم لا يُوصفون بما ليس فيهم، فلا يجوز الكذب على الناس، ولو كانوا من الأعداء، أما إذا كان مقام بيان ما للطائفة وما عليها، أو كان ذلك في سؤال عن أحد من الناس في قضية تتعلق بتوظيف، أو تزويج، أو غير ذلك فيُذكر ما له وما عليه بقدر ما يكفي، يعني: بقدر ما يحصل به المطلوب، من غير تزيُّد، ولا يصح أن تُذكر الإيجابيات، وتُترك الأمور الأخرى، أو العكس.
وقوله: مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ فعداه بالباء مع أن المُتبادر أنه يُعدى بـ(على) من إن تأمنه على قنطار، وعلى دينار، لكن يمكن أن يُقال: بأن الفعل تضمن معنى فعل آخر، وهو المعاملة، من تعامله بقنطار، أو تعامله بدينار قرضًا، أو معاوضة بالبيع والشراء، أو إجارة، أو نحو ذلك من ألوان المعاوضات.
إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا يعني: تُلح من أجل أن تحصل على حقك، ومن هذا يمكن أن يؤخذ جواز مُلازمة الغريم حتى يؤدي الحق الذي عليه، هذا إذا كان واجدًا مُماطلاً.
وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ يعني: لا إثم علينا في أخذ أموالهم، وأكلها، وعدم الوفاء معهم، فهذا يدل على احتقار البشر، والشعور بالكبرياء، ويدل على صلف في الأخلاق والطباع، ويدل على تجبر وجُرأة على الله -تبارك وتعالى-، وعلى خلقه، فهذه نظرتهم إلى غيرهم، وهكذا يتعاملون معهم، فجمعوا بين أكل الحرام، واعتقاد حِله، كذبًا على الله -تبارك وتعالى-، باعتبار أن هؤلاء العرب ليسوا منهم، وليسوا على ملتهم، ومن ثَم فهم لا يبالون بمن لم يكن من أهل ملتهم.
وأيضًا قوله: وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون يدل على أن من افترى على الله الكذب وهو يعلم أشد إثمًا ممن افترى على الله الكذب وهو لا يعلم، وإن كان ذلك جميعًا من العظائم، وهو محرم بلا شك، ولكن الحرام مراتب، والجهل المركب أعظم من الجهل البسيط.
هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/144).