الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(099) قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ...} الآية 93
تاريخ النشر: ١٤ / ربيع الأوّل / ١٤٣٨
التحميل: 417
مرات الإستماع: 1034

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما قال الله -تبارك وتعالى- بهذه الصيغة الجازمة وهي من أقوى صيغ النفي "لن": لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، ذكر بعد ذلك خبرًا عن بني إسرائيل له نوع ارتباط بهذا المعنى فقال: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِين [آل عمران:93].

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، إسرائيل هو يعقوب ، ومن أولاده تفرعت قبائل بني إسرائيل وهم الأسباط، فكان كما قال النبي ﷺ: "لما سأله نفر من اليهود عن ما حرم إسرائيل على نفسه"، سألوا النبي ﷺ يختبرونه يسألونه عن أشياء لا يعلمها إلا نبي، فأجابهم -عليه الصلاة والسلام- فكان من جملة ما سألوه: "سألوه عن الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه؟ فذكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه أُصيب بداء شديد، وهو عرق النَسَا"[1]، وهو عرق يأخذ الإنسان من الورك من الخلف، وقد يصل إلى الكعب، وألمه شديد، وقيل له عرق النسا -على قول بعض أهل العلم-، قيل: لأنه يُذهل ويُنسي كل شيء من شدة الألم، عرق النسا بعض الناس يقول: عرق النساء، وهذا غلط، هو عرق النسا، "فأُصيب بهذا فنذر لله إن شفاه أن يُحرم أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحوم الإبل وألبانها"، هذا أحب الطعام والشراب إليه، وكان ذلك جائزًا في شريعته ، أما في هذه الشريعة فلا يجوز للإنسان أن يُحرم ما أحل الله، ولو كان على سبيل النذر، فالله قال لنبيه ﷺ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، فأنكر عليه ذلك حينما حرم العسل، كما في أكثر الروايات وفي بعضها أنه حرم الجارية، فهذا لا يجوز في هذه الشريعة، لكن في شريعة يعقوب كان جائزًا فحرم لحوم الإبل، هذا ما علاقته بالآية السابقة؟ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، فهذا يعقوب حرم أحب الطعام إليه والشراب تقربًا إلى الله بالنذر، هذا وجه الارتباط بين الآية والآية، وهو الذي يُسمى بالمناسبة، هذا المعنى ذكره جمع من المحققين.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ، "كل" هذه أقوى صيغ العموم، معناها أن جميع الطعام كان مُباحًا لبني إسرائيل، لبني إسرائيل لأولاد يعقوب وذريته، إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ، يعني: يُستثنى من ذلك فقط ما حرمه يعقوب على نفسه فتتابع أولاده من بعده على تركه وتحريمه اقتداء به لكن لم يُحرمه الله عليهم، يعني: أنهم فعلوا ذلك اقتداء بيعقوب من غير تحريم الله ذلك، هذا الذي كان في شريعة يعقوب، الشريعة فيها سعة في المطعومات كل الأطعمة كانت مُباحة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تُنزل التوراة، يعني: أنهم تتابعوا على تركه لكن لما نزلت التوراة حصل التضييق عليهم، كانت التوسعة إلى نزول التوراة، ومعلوم أن التوراة أُنزلت على موسى ، وكان ذلك بعد يعقوب بمدة طويلة فحرم الله على بني إسرائيل في التوراة أشياء، وأحل أشياء كما قال الله -تبارك وتعالى-: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا [النساء:160]، وقال: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، ذوات الأظفار مثل: الأوز والبط ونحو ذلك، وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الأنعام:146]، يعني: تفاصيل دقيقة يلحقهم بسببها عنت حتى يُميز بين هذا الشحم وهذا الشحم، الشحم المتعلق بالعظام الشحم الذي يكون غشاء على الأمعاء يُقال له: الثروب، أو الحوايا، أو ما اختلط بعظم، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ [الأنعام: 146]، فهنا جزيناهم ببغيهم بسبب بغيهم، فالباء هنا تفيد السببية، وهناك: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ الباء للسببية، فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ [النساء:160]، فدل ذلك على أن التحريم قد يكون عقوبة، ولهذا فإن الله -تبارك وتعالى- جعل عليهم في شريعتهم أعني اليهود الآصار والأغلال، ولما بعث عيسى وهو من أنبياء بني إسرائيل كان مما بعثه به النسخ لبعض هذه الآصار والأغلال.

الآصار هي التكاليف الشاقة الثقيلة فخفف عنهم بذلك، ولكنهم كفروا به، وردوا دعوته واتهموه بأقبح التُهم مع أمه، وكان منهم ما كان من الكفر العظيم، وغير ذلك من محاربة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- والعنت الكثير معهم، فهنا: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ يعني استمرت هذه التوسعة والتحليل إلى نزول التوراة فحُرم فيها أشياء، لاحظ: قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِين، خاطبهم بهذا: قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا، لأن هذه الآية سيقت للرد على اليهود الذين يقولون بإنكار النسخ، والله يرفع من الأحكام والشرائع ما شاء: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]، فكانوا يُنكرون ذلك، ويقولون: بأن الله -تبارك وتعالى- ما خصهم بأشياء حرمها، وإنما كانوا على شريعة يعقوب ، وما خصوا بشيء من التحريم، فقال: قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِين، فاقرأوها إن كنتم صادقين.

ويؤخذ من هذه الآية من الفوائد: أنها أعظم دلالة على ثبوت نبوة محمد ﷺكما قال الزجاج[2] وغيره، رجل أمي نشأ بمكة لا عهد له بالكتب يُطالب أحبار اليهود وعلماء اليهود، يُخبرهم عن تفاصيل دقيقة في التحريم منذ عهد يعقوب إلى أن نزلت التوراة، أن الجميع مُباح حلال إلا ما حرم جدهم يعقوب على نفسه وهو لحوم الإبل وألبانها، ويقول: هاتوا التوراة فاتلوها إن كنتم صادقين أن الله لم يُحرم عليكم أشياء ولم يخصكم بالتحريم، رجل يتحداهم ويقول لأحبار وعلماء اليهود مثل هذا الكلام من أمة أمية لا يعرف القراءة ولا الكتابة أنى له ذلك، هل يمكن هذا؟

رجل نشأ بين جبال مكة لا يعرف يقرأ ولا يكتب، بين قوم مشركين لا يعرفون الكتاب، ولا عهد لهم بالكتب المُنزلة، وليس لهم أي اتصال باليهود، ولا يوجد في مكة يهود من أين له هذه المعلومات الدقيقة التي وصلت إلى حد القطع واليقين بحيث يتحدى علماء هؤلاء لا يتحدى جُهال في الشارع، يتحدى العلماء ويقول لهم: هاتوا التوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فلم يأتوا بالتوراة فيتلوها؛ لأنهم سيفتضحون ولو كانوا يثقون بقولهم وأنهم صادقون فيه لجاءوا بها، وقالوا: ها هي التوراة من أين هذا الكلام الذي تقوله، وهو مخالف لما تضمنته التوراة، لكنهم لم يفعلوا: فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ، فهذا كتابهم الذي فيه شريعتهم.

والتوراة هي أعظم كتب بني إسرائيل نزلت على كبير أنبياءهم وهو موسى ، وهذا يؤخذ منه ما يُسمى بآداب البحث والمناظرة، أو آداب الجدل والمناظرة أن يُحتج على الخصم والمُخالف بما يعتقد، يعني: ما جاءهم بشيء خارج عن ما عندهم، لا، يقول: أنا أُطالبكم بما عندكم بكتابكم هذا الذي نزل عليكم وتعظمونه وتدعون أنكم تعملون بمقتضاه، هاتوا التوراة، بيني وبينكم الكتاب الذي عندكم وليس أحتج عليكم مثلاً بكتاب آخر القرآن الذي لا تؤمنون به، وإنما أحتج عليكم بالكتاب الذي بين أيديكم.

فهذه طريقة قوية في الحجاج والإقناع وكسر الخصم وإفحامه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مناظراته مع المخالفين وأهل البدع كان لا يأتون بدليل إلا قلبه عليهم، وجعل هذا الدليل حجة عليهم، يحتج عليهم به، فهذا يحتاج إليه في وجوه الرد على المخالفين، تحتج عليهم بما في كتبهم، بما يؤمنون به ويُقرون، فعند ذلك يحصل الإفحام، وتظهر الحجة على وجه لا يمكن الفرار منه.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا، فهذا تعليم من الله لنبيه ﷺ سبيل المحاجة، قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا، ثم هنا لم يقل: فأتوا بالتوراة أتلوها عليكم، لا، فَاتْلُوهَا، حتى لا يُقال بأني قد غيرت أو حرفت أو أني قد تركت شيئًا من الكلام أو زدت أو نقصت، وإنما فاتلوها يعني: لتنطقوا بالحق بألسنتكم، ولا يكون لكم أدنى شبهة ولا حجة ولا التباس، حتى يحصل إقامة الحجة على هؤلاء اليهود المُكابرين؛ لأنهم من أكثر الناس مُكابرة وعنادًا ولجاجًا في الحق.

كذلك يؤخذ من هذه الآية ثبوت النسخ هو ثابت والآية التي ذكرتها آنفًا: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا [البقرة:106]، صريحة في هذا الباب، ويقول الله -تبارك وتعالى-: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144]، وقال: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ، والسفهاء هنا اليهود، مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا [البقرة:142]، فحولت القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:149]، يعني: في حال العبادة والصلاة في أي موقع كنت، وفي هذا نعرف ما يقع فيه بعض من يُحب الغرائب والشذوذات وينشر ذلك ويُذيعه يوجد شيء من اللجج ونشر مقالة لا أساس لها من الصحة، هناك من يقولون: لا يوجد نسخ، وعجيب هذه النصوص واضحة وصريحة لكن من الناس من يُحب الإغراب والشذوذ والمخالفة، فإذا جلس في مجلس أثار هذه المسألة، وقال: لا يوجد نسخ، وهذه الآيات تدمغه، وهذا من أعجب الأشياء، أن تصل الجرأة إلى هذا.

ويؤخذ من هذه الآية: قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِين، هذا الأسلوب هذا التذييل: إِن كُنتُمْ صَادِقِين، يُفيد التحدي بأن ذلك كما يُقال لحفز الهمم والتحريض، حيث يبلغ غايته، كما يُقال: إن كنت ابن الكرام ففعل كذا، فهنا يتحداهم ويستفزهم علماء يعرفون كتابهم معرفة تامة، والنبي ﷺ لا عهد له بكتابهم، ولم يكن على معرفة بالقراءة أصلاً لا في لغتهم العبرانية، ولا في اللغة العربية فهو لا يعرف القراءة والكتاب ويقول لهم: فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِين، هذا استفزاز، كما تقول للإنسان: إن كنت ابن الكرام، إن كنت صادقًا، إن كنت رجلاً فافعل هذا فهات ما عندك، فهنا يأتي بآخر ما عندهم ومع ذلك يبقون في شلل كامل لا يستطيع أحد منهم أن يرفع رأسه، ويقول: هاه هذه التوراة ولو وجود لما تقوله فيها.

فهذا يدل على كمال صدقه -عليه الصلاة والسلام- وأنه لا ينطق عن الهوى، وعلى كمال ثقته بهذا الوحي الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- عليه، وهذا هو العلم الراسخ الثابت الذي ليس بالأباطيل ولا ترد عليه الظنون والشكوك ونحو ذلك.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. انظر: تفسير الطبري (5/578)، وتفسير ابن كثير ت سلامة (1/337).
  2. معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/444).

مواد ذات صلة