السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(111) تتمة قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا...} الآية 103
تاريخ النشر: ٢٧ / ربيع الأوّل / ١٤٣٨
التحميل: 468
مرات الإستماع: 1066

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ابتدأنا الحديث في الليلة الماضية بالكلام على قوله -تبارك وتعالى-: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون [آل عمران:103]، وقد ذكرنا جملة من الهدايات والمعاني والدلالات المستخرجة من قوله : وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعد هذا الأمر بالاعتصام بحبله، وهو مقتضٍ للاجتماع والاتفاق، وذلك أنه إذا اتحد مصدر التلقي فإن ذلك مؤذن باجتماع الكلمة واتحاد الأمة، بخلاف ما إذا تشتت وتنوعت وتفرقت مشاربها فإن ذلك يستدعي ولابد التفرق في الاعتقادات والمذاهب والآراء والأهواء، وذلك يؤول بالأمة إلى التشرذم والتفرق، فتكون أممًا وطوائف متناحرة كما هو الحاصل منذ زمن وعهد بعيد، وذلك -كما ذكرنا- أن الناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، ومعتقداتهم هي التي تُسيرهم وتحركهم، وهي التي تكون حاكمة على ما يصدر عنهم من الأعمال والتصرفات والمزاولات، وهذا أمر لا يُنكر.

فقوله -تبارك وتعالى- بعده: وَلاَ تَفَرَّقُواْ هذا ليس مجرد تأكيد لقوله: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا الاعتصام بحبله هو التمسك بكتابه ووحيه وشرعه، ويكون ذلك على سبيل الاجتماع، ثم قال الله تعالى: وَلاَ تَفَرَّقُواْ قلنا إن الأمر يدل على الوجوب وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا فذلك من أوجب الواجبات، بل ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الاتفاق والاجتماع -اجتماع الكلمة- أن ذلك من أعظم مقاصد الشريعة[1]، من أعظم من مقاصد الشارع أن يجتمع الناس، الأمة تجتمع على الحق، تجتمع على الكتاب والسنة، وبذلك يتحقق ما أراده الله -تبارك وتعالى- لهم، وَلاَ تَفَرَّقُواْ فبعض أهل العلم يقولون: هو من قبيل التوكيد لمضمون وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا لكن هذا نهي من الله -تبارك وتعالى- عن التفرق، والنهي يقتضي التحريم، فذاك أمر بالاعتصام بالكتاب والسنة، ولزوم شرائع الإسلام على سبيل الاجتماع، ونهاهم عن التفرق وَلاَ تَفَرَّقُواْ فهذا كما يُقال بأن الأمر بالشيء يتضمن أو يستلزم النهي عن ضده، وكذلك أيضًا النهي عن شيء يتضمن أو يستلزم الأمر بضده، فإذا قال الله : وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا فهذا يقتضي النهي عن التفرق، وإذا قال: وَلاَ تَفَرَّقُواْ فإن ذلك يقتضي الاجتماع، يستلزم الاجتماع، وهذه قاعدة أصولية معروفة، وَلاَ تَفَرَّقُواْ فهذا يعني اتحاد الأمة، ووحدة الكلمة والصف، وذلك يعني الاجتماع على الحق، وَلاَ تَفَرَّقُواْ وهذا يدل على أن الاجتماع وترك التفرق من مطالب الشارع، وكذلك أيضًا هو نعمة عظيمة من الله -تبارك وتعالى- إذا حصلت لقوم حصل بينهم من الخيرات والبركات، وأجرى الله على أيديهم من الأعمال المبرورة، والمساعي المشكورة، وحصل لهم التمكين والنصر على أعدائهم، فتكون لهم كلمة مرهوبة يحسب لها الأعداء ألف حساب، بخلاف ما إذا انقسموا وتفرقوا، وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ.

ولاحظ أن مثل هذا التركيب وَلاَ تَفَرَّقُواْ يقتضي العموم، لا تفرقوا بحال من الأحوال مهما كانت المُبررات، فكيف إذا كان التفرق والاختلاف لا مُبرر له، وأعني بقولي مهما كانت المُبررات: أن الأمة المتحدة على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ أما أهل الضلالات والأهواء، ونحو ذلك فلهم شأن آخر، هؤلاء يجب أن يرجعوا إلى الحق، وأن يلتزموا شرع الله وإلا فمعلوم كما قال بعض السلف: "من خالف عقده عقدك خالف قلبه قلبك" هذه قاعدة: "من خالف عقده"، يعني: اعتقاده، "عقدك" يعني: اعتقادك، خالف قلبه قلبك، هذا ذكره الإرشاد الخليلي في كتابه "الإرشاد"[2]، وفي تراجم بعض العلماء، "من خالف عقده عقدك خالف قلبه قلبك"، هذه أصل مُطرد، فاختلف الاعتقادات موجب لاختلاف القلوب.

ولهذا فإن قوله -تبارك وتعالى-: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا الأمر بالاجتماع يقتضي الأمر بكل ما يتحقق به الاجتماع، اجتماع الكلمة، لماذا؟ لأن الله تعالى أو الشارع إذا أمر بشيء فإنه يكون آمرًا بكل ذريعة تؤدي إليه، يعني: بكل سبب يوصل إليه، وإذا نهى عن شيء وَلاَ تَفَرَّقُواْ فذلك يقتضي النهي عن كل سبب يؤدي إلى التفرق، وهذا الذي يقولون: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وبعضهم يقول: "ما لا يتم الوجوب إلا به فهو واجب، وما لا يتحقق به ترك المحرم فتركه واجب"، ولك أن تقول: ما لا يتحقق ترك المحرم إلا بتركه ففعله حرام، لكن العبارة الجارية أن ما لا يتحقق ترك المحرم إلا به فتركه واجب، ولهذا يقول صاحب المراقي:

سد الذرائع إلى المحرم حتم  

يعني: واجب.

  كفتحها إلى المنحتم[3]

 يعني: كفتحها إلى الواجب، الذرائع يعني: الأسباب.

فكل ما يؤدي ويوصل إلى اجتماع الأمة واتحاد الكلمة فهو مطلوب ومأمور به، وذلك من قوله: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وكل ما يؤدي إلى التفرق والتشرذم والاختلاف فإنه يجب سده وقطعه، ولذلك فإن البدع من المنكرات، وينبغي قطع دابر البدع من أوله، وذلك أنه إذا تُرك كل أحد يفعل ما شاء، ويخترع ويبتكر ما شاء في دين الله فذلك مؤذن بالتفرق والاختلاف؛ لأن هذا سيعمل على خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة، وقد يجد له تبعًا من الناس، ثم بعد ذلك هؤلاء يكونون طائفة، وهكذا تبدأ البدع، تبدأ صغيرة ثم بعد ذلك ما تلبث أن تتعاظم، ولذلك انظروا مثلاً إلى الطُرق الصوفية كيف بدأت؟ بدأت بجوانب من الزُهد لربما كان بعض الممارسات فيها على غير هدي النبي ﷺ ربما كردود أفعال لمظاهر الترف التي وجدت في تلك القرون، لما بدأ الترهل في الأمة، والانغماس في اللذات والنعيم والشهوات، وجد ردود أفعال، فلزم بعضهم ألوانًا وضروبًا من الزُهد لربما كان كثير منها على خلاف ما دل عليه الشرع، ثم لم تلبث تلك المزاولات حتى صارت طوائف وفرقًا وطرقًا متباينة، فهذه الطريقة كذا، وهذه الطريقة كذا، وهذه الطريقة كذا، كما تعم للأسف العالم الإسلامي من المحيط إلى حدود الصين، انتشرت هذه الفرق، وكانت من أعظم أسباب ضعف الأمة، وتسلط الأعداء.

انظروا هذا مثال في جانب واحد، وهي الفرق الصوفية، ويُفترض أن ذلك من قبيل الاختلاف في السلوك، لكنه لم يقف عند هذا الحد، وأما إذا نظرت إلى المذاهب الكلامية التي كان الاختلاف بين أربابها بالاعتقادات، فذلك باب واسع، تفرقت الأمة إلى الفرق كما أخبر النبي ﷺ: وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث، وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة[4]، وصارت الفرقة الواحدة تتشعب إلى فرق، يُكفر بعضها بعضا، فهذا هو التفرق المحرم المذموم، ولهذا يُقال: "كل ما يؤدي إلى التقاطع والتدابر والتفرق والاختلاف فإنه محرم، ويجب الأخذ على يد أصحابه، ولا يُقال هذه حرية"، وإنما يجب الأخذ على يد هذا من أجل أن لا يُفسد الدين، ولا يُفسد أيضًا الأمة، ويورث فعله التفرق والاختلاف.

ولو نظرتم إلى التاريخ كيف بدأت هذه الفرق لربما بكلمة واحدة، كقول واصل بن عطاء في المعتزلة: "أرى أنهم بمنزلة بين المنزلتين[5]، يعني: يسمونه الفاسق الملي صاحب الكبيرة"، ثم لم تلبث هذه حتى صارت أصلاً من أصول خمسة تميز بها طائفة وهي المعتزلة، ثم انشعبت وانقسمت اثنتي عشرة فرقة -أعني: المعتزلة- يُكفر بعضهم بعضًا، وهكذا أيضًا تجد ذلك واقعًا بسبب عمل رجل واحد، حتى في العبادات لو نظرت مثلاً صلاة التسابيح كيف بدأت؟ أول ما بدأت انظر مثلاً إلى بيت المقدس أول ما صُلي فيه صلاة التسابيح، ثم بعد ذلك صارت دينًا يوالى عليه ويُعادى في بعض الأوقات، وكان الذي ابتدأها واحد.

فالمُرجئة بدأت بكلمة نُرجئ أمرهم إلى الله، يعني: الذين تقاتلوا من أهل الشام والعراق في الفتنة، نُرجئ أمرهم إلى الله، كلمة في ظاهرها لا إشكال لكنها حُملت على محامل، وكذلك أيضًا لربما كان ابتداء ذلك بمحبة تحولت إلى غلو، مثل محبة علي وأهل البيت، فهي محبة شرعية، فأهل البيت نحبهم لقرابتهم كما نُحبهم لإيمانهم، ولكن ذلك تحول إلى لون آخر حتى صار دينًا يُخالف ما جاء عن الله، وعن رسوله ﷺ.

وقل مثل ذلك فيما كان عليه الخوارج لا حكم إلا لله، كلمة قيلت بسبب التحكيم، ثم تحولت بعد ذلك إلى تكفير للصحابة، بل كفروا أنفسهم، وقالوا رجعنا إلى الإسلام وتبنا، وكفروا الأمة أجمع، وصاروا يستحلون الأموال والدماء والأعراض، يأخذون النساء سبايا، كفار.

وذكرت لكم في عِبر من التاريخ أن هؤلاء غزوا المدينة، وأخذوا بنتًا لعثمان  فلما كاتبهم الخليفة في ذلك حتى استرجعها بالفداء، قام عليه أصحابه، قام على هذا الرجل أمير هؤلاء، فكفروه، كيف أسلم الكفار هؤلاء جارية من سبي المسلمين، المسلمين يعني الخوارج.

وهكذا -أيها الأحبة- إذًا كل من يدعوا إلى التفرق، والاختلاف، ويُثير هذه القضايا، وما أكثر ذلك اليوم عبر وسائل الإعلام الجديدة، وسائل التواصل، ونحو ذلك، هؤلاء الذين يُمزقون الأمة لمجرد اجتهادات من خالفهم في الاجتهاد، فروا عرضه فريًا، ورموه بالعظائم والقبائح حتى شاعت العداوة والبغضاء بين الناس، وصارت القلوب مليئة بالغِل، ونحو هذا، هذا أمر لا يقع إلا من سفيه، لا يعرف مراد الشارع ومقاصد الشريعة، أو أن ذلك يقع من أصحاب دسائس، وما أكثر المعرفات التي لا يُعرف من وراءها، ولكن هو إما جاهل يفعل فعل الأعداء أو أنه عدو قد تردى بلبوس أهل الإسلام وتكنى بكنية توهم أو تُشعر بذلك، وهو ذئب أطلس يُفرق ولا يجمع، ويُحرض ويُشتت، ويُثير العداوات ويؤلب هؤلاء على هؤلاء وهؤلاء على هؤلاء حتى يُشعل نار العداوة بين الأمة، هذا أصبح للأسف واسعًا، من قبل، لربما يدور مثل ابن السوداء، أعني: عبد الله بن سبأ، يدور بين البصرة والكوفة ومصر، ونحو ذلك؛ ليُحرك القلوب، ويُثير الفتنة، ويُفسد بين الناس.

لكن اليوم لا يحتاج أن يُسافر لا إلى الكوفة ولا إلى البصرة ولا إلى مصر، وإنما بيد كل أحد من الناس هذا الجهاز، وهو في بيته يكتب ما شاء، ثم بعد ذلك يكون ذلك المكتوب وقودًا لتلك العداوات، وموديًا إلى مزيد من التفرق، والاختلاف، والانقسام، فيجب الأخذ على يد هؤلاء الذين يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون، ليس لهم شأن إلا التفريق وإلقاء العداوات بين الناس، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال.

وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ فهذا يدل على الحرص على الاجتماع والحذر من التفرق، فالاجتماع نعمة عظيمة من الله -تبارك وتعالى- يحصل به من قوة الأمة وتمكينها وبسط نفوذها وهيبتها ما لا يُقادر قدره، بخلاف التفرق.

وكذلك أيضًا فإن قوله: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ هذا أخذ منه بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنهم لا يجتمعون على باطل[6]، وذلك لو أنهم اجتمعوا على باطل لوجب اتباع الحق المُتضمن لتفرقهم، كيف يقع ذلك منهم! وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا هل يجتمعون على باطل؟ سيجتمعون على شيء يؤدي إلى التفرق.

وكذلك يؤخذ من هذه الآية وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ هل يُفهم من هذا الذي ظاهره العموم كما قلنا: وَلاَ تَفَرَّقُواْ النهي عن التفرق في المسائل الفرعية مما يكون موضعًا للاجتهاد في الأحكام والفقه، ونحو هذا؟ الجواب: لا، وإنما ذلك فيما يورث التدابر والتقاطع، ولهذا الضابط الذي يذكره أهل العلم كالشاطبي وغيره: بأن التفرق المذموم، والاختلاف المذموم الذي نهى الشارع عنه، وجاءت النصوص متضافرة، تقرير ذلك هو الذي يورث التدابر والتقاطع، الصحابة اختلفوا في اجتهادات في المسائل الفقهية وغيرها، واختلفت اجتهاداتهم في مسائل وراء ذلك، ووقع بينهم القتال إلا أنهم لم يتحولوا إلى طوائف وفرق ومذاهب وآراء؛ فهذا مثلاً علوي، وهذا عباسي، وهذا زُبيري، وهذا طلحي، وهذا عثماني، ونحو ذلك، إنما كانوا أمة واحدة، فهذا أصل، وأساس في التفريق بين الاختلاف المحرم والاختلاف السائغ، الاختلاف السائغ ما كان مبناه على اجتهاد.

فإذا صدر ذلك عن مجتهد مؤهل للاجتهاد، ثم تفرقت أقوالهم، واختلفت آراءهم، فذلك وقع لأصحاب رسول الله ﷺ وذلك يرجع إلى أسباب معلومة ذكرها العلماء في أسباب الاختلاف بين الفقهاء كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"[7]، وذكر غيره كثير في مصنفاتهم في أسباب الاختلاف، لماذا يختلفون؟

هناك أمور ترجع إلى النص، وهناك أمور ترجع إلى الاستدلال، وهناك أمور ترجع إلى المجتهدين، فهنا يُقال: بأن هذه الاختلافات الفرعية الصادرة عن اجتهادات سائغة غير مذمومة، نعم جاء عن ابن مسعود : "الاختلاف شر"[8]، قاله في مسألة فرعية، وهي مسألة إتمام الصلاة في السفر "الخلاف شر" فالخلاف من حيث هو شر لكن ذلك لا يعني ذم المختلفين.

ولهذا جاءت العبارات عن بعض السلف عمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد، وغير هؤلاء عبارات مؤداها: "ما أحب أن أصحاب رسول الله ﷺ لم يختلفوا، إنهم إن لم يختلفوا لم يكن توسعة"[9]، وهذا معنى قول من قال: "اختلاف أمتي رحمة"[10] مع أنه لا يصح رفعه إلى النبي ﷺ والمقصود بذلك مع أن الاختلاف شر أن هذا الاختلاف الذي وقع بين أصحاب رسول الله ﷺ في المسائل الاجتهادية، أن ذلك كان رحمة من جهتين: الجهة الأولى أن ذلك كان توسعة للناس، فهذا يأتي ويسأل هذا العالم ويأخذ بقوله فيُرخص له بهذا؛ فيكون له توسعة، دون من يتتبع الرُخص، رُخص الفقهاء، يذهب يسأل هذا، وهذا، وهذا يبحث عن ما يوافق هواه، هذا لا يجوز، لكن جاء وسأل هذا العالم المجتهد فأفتاه ورخص له بذلك؛ فصار توسعة، الآخر ذهب إلى آخر وسأله، فقال ذلك لا يحل، فتوقف، فصار توسعة لمن أُفتي بالجواز.

والناحية الأخرى التي يُفهم على ضوئها أو تُفهم من قولهم اختلاف الأمة رحمة هو أن ذلك الذي وقع بين الصحابة من الاختلاف في الاجتهادات أنه كان توسعة للمجتهدين من بعدهم لما اختلفوا، لهم أسوة بأصحاب رسول الله ﷺ فدل على أن الحرج لا يلحقهم حينما اختلفت اجتهاداتهم وتباينت، فذلك وقع لأصحاب رسول الله ﷺ ولم يلحقهم الذم، وما عابهم الرسول ﷺ مما وقع في عهده، فدل ذلك على توسعة على المجتهدين، الذين جاءوا بعد الصحابة، هذا معنى عبارات السلف الواردة في هذا الشأن.

فهنا على كل حال هذه الآية لا تدل على تحريم الاختلاف في الفروع، فهذا مما يُحتمل، وقد ذكر هذا المعنى جمع كثير من أهل العلم كالقرطبي، وغيره، وما زال العلماء يختلفون، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

بقي في الآية بقايا من الهدايات، والمعاني، ونحو ذلك أتركها في الليلة الآتية -إن شاء الله- وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.

  1. انظر: مجموع الفتاوى، (22/358)، والسياسة الشرعية، (217).
  2. انظر: الإرشاد في معرفة علماء الحديث، (3/860).
  3. انظر: الأصل الجامع لإيضاح الدرر المنظومة في سلك جمع الجوامع (1/62).
  4. أخرجه أحمد في المسند، برقم (16937)، وهو عند الترمذي بلفظ: ((وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة))، أبواب الإيمان، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، برقم (2641)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5336).
  5. انظر: الفرق بين الفرق، للأسفراييني، (98).
  6. انظر: مجموع الفتاوى، (19/92).
  7. انظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، (9).
  8. هذا الحديث لا أصل له، ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا، حتى قال السيوطي في الجامع الصغير: "ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا. انظر: العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، (91).
  9. انظر: جامع بيان العلم، وفضله، (2/901).
  10. رواه البيهقي في المداخل بسند منقطع عن ابن عباس -رضي الله عنهما- انظر: المقاصد الحسنة، (69/39).

مواد ذات صلة