الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ما زال الكلام متصلاً فيما يُستخرج من المعاني والهدايات من قوله -تبارك وتعالى-: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون [آل عمران:104] وقد ذكرنا طرفًا من هذه الهدايات والمعاني في ليلة مضت، فأول ما أمر الله -تبارك وتعالى- به: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ الدعوة إلى الخير، هي أول هذه المأمورات، وقلنا: بأن الأمر الأصل أنه للوجوب، وأن (من) هنا في الآية بيانية، وليست تبعيضية، فذلك فرض على الأمة أن تقوم بوظيفة الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، وأن تكون هذه الأمة أمة دعوة قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] فكل بحسبه، يدعو الرجل أهل بيته، ومن تحته يده، وجيرانه، كل بما أعطاه الله -تبارك وتعالى-، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ كونوا أمة داعية إلى الخير.
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وذكر الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بعد الدعوة إلى الخير، فذلك واجب على الأمة أن تتحقق به، وهذا دلت عليه نصوص كثيرة، كما لا يخفى، وقد جاء اللعن لبني إسرائيل لما ضيعوا ذلك، في قوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُون كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:78-79] فدل ذلك على أنه واجب، وبعض أهل العلم يقولون: إن عطف الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على ما قبله من الدعوة إلى الخير أنه من قبيل عطف العام على الخاص، أي: أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر عام، وقد لا يكون كذلك، فيمكن أن يُقال -والله أعلم-: بأن ربنا -تبارك وتعالى- قد أمر بالدعوة إلى الخير وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ فهذا عام، وليس الذي بعده أعم منه، فالدعوة إلى الخير تكون بالدعوة المباشرة بالأمر والنهي، وتكون بذكر محاسن الإسلام، والدعوة إليه، وتكون بذكر فضائل الأعمال الصالحة، والترغيب فيها، وتكون بجذب القلوب إلى الله -تبارك وتعالى-، وتحبيب الناس بطاعته، وما إلى ذلك من الأساليب التي يحصل بها الصلاح والإصلاح، وذلك لا يقتصر على الأمر والنهي وحدهما، وإنما ذلك من جملة أمور، تدخل تحت هذا العموم يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ فالدعوة إلى الخير تكون بالدعوة المباشرة، سواء كان ذلك بأمر أو نهي، أو نحو ذلك، أو كان ذلك بترغيب أو ترهيب، أو كان ذلك بالتأليف ونشر العلم، وبيان الأمور التي يحصل بها صلاح المجتمع، فكل ما يدخل تحت ذلك هو من الدعوة إلى الخير، وكذلك دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وهذا رأس ذلك، ودعوة العصاة، وأهل الاستقامة إلى لزوم الاستقامة، والصراط المستقيم، وتثبيت الناس على الهدى، وتعليم الناس الأخلاق والسلوك الصالح الذي رسمه الإسلام لأتباعه، وتربية الناس على هذه المعاني عمليًّا، كله من الدعوة إلى الخير، هذا عام، ثم قال: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ فهذا هو الخاص، فيمكن أن يُقال: إنه عطف الخاص على العام لأهميته، وهذا له نظائر في كتاب الله -تبارك وتعالى-، والعكس كذلك، قد يُذكر خاص ثم يُعطف عليه العام.
فهنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل فيه الأمر بالمعروف إذا كان واجبًا، أو من قبيل المستحب، بل ويدخل في عمل المحتسب ما هو دون ذلك، يعني: قد لا يكون من قبيل المسنون أو الواجب؛ وذلك مما يكون من حفظ المروءات، وما يحصل به كمال الإنسانية، وما إلى ذلك من المحافظة على الأعراف الصالحة، ونحو هذا، فهذا يدخل في عمل المحتسب، وإن لم نقل بأن ذلك من قبيل الواجب، أو من قبيل المسنون، ثم يدخل أيضًا في النهي عن المنكر: النهي عن الحرام، وترك الواجبات، والنهي عن المكروهات وإن لم تكن محرمة، والنهي عن المشتبهات.
والقصد أنه يدخل في عمل المحتسب ما هو دون ذلك، كالنهي عما يُخل بالمروءات، ويُزري بالإنسان، ولا يتفق مع كمال إنسانيته ومروءته، والعلماء يقولون في بيان معنى الحسبة التي هي وظيفة من الوظائف الشرعية، كما هو معلوم في السابق: هي أمر بمعروف ظهر تركه، ونهي عن منكر ظهر فعله، بهذا القيد، عرفها بهذا كثير من أهل العلم، وإن لم يكن ذلك موضع اتفاق، لكن كوظيفة حسبة يقولون: أمر بمعروف ظهر تركه، ونهي عن منكر ظهر فعله، فعبروا بالظهور.
طيب قبل أن يظهر ترك المعروف، وقبل أن يظهر المنكر، نحتاج إلى وقاية، فالمجتمع يحتاج إلى مبادرات وقائية بتوعية الناس بما يحتاجون إليه، وتبصير الناس بالدين، وتعليم الناس ما يحصل به جماع التقوى، مما لا بد منه من خوف الله ومراقبته ورجائه، وحُسن الظن به، وما أشبه ذلك، مما تُربى عليه النفوس، من أجل أن يكون ذلك حاجزًا لها عن ترك المأمور، وعن مقارفة المحظور، فإذا وجد ذلك توجه الأمر والنهي في هذه الحال، ثم هناك أيضًا معالجات بعد مواقعة المنكر، أو ترك المعروف من التذكير والنُصح، وإن كان قد فات المحل، يعني: إذا كان المنكر قد انتهى، لكن هل يستغني الناس عن مناصحة وتذكير؟ فهذا الإنسان الذي صدر منه هذا المنكر، أو الذي ترك هذا الواجب، كمن ضيع هذه الصلاة حتى خرج الوقت، أو ارتكب منكرًا من المنكرات، أو فاحشة أو نحو هذا، يُترك للشيطان هكذا؟! هذا المنكر سيقوده إلى مُنكر آخر، تفويت هذه الصلاة سيقوده إلى تفويت صلاة أخرى، فيحتاج إلى تذكير ومناصحة، وإن كان محل وموضع للإنكار قد فات، فلا يمكن الاستدراك، وإزالة المنكر؛ لأنه قد وقع، لكن يحتاج بعده إلى تذكير ومناصحة؛ ولذلك تُلاحظون أن الدعوة إلى الخير أعم من ذلك كله، فيكون ابتداء من غير وقوع المنكر، أو ترك الواجبات، وفعل المحرمات، أو ترك المستحبات، أو فعل المكروهات، فيكون مبادرة بإيصال الخير للناس، وتبصيرهم بأمور دينهم، وتعليم الناس ما ينفعهم، فتوجد أمة واعية حافظة لحدود الله -تبارك وتعالى-، فتكون تلك الأعمال والمفاهيم والبصائر سياجًا يحفظها من نزغات ونزوات شياطين الإنس والجن، ويكون سياجًا يحفظها ويحوطها بإذن الله -تبارك وتعالى- من عادية الأعداء؛ لأن هؤلاء الأعداء إنما يتسلطون بسبب جنايات العباد، فإذا ظهرت المنكرات، وتُركت طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ سُلط على الأمة عدوها، فغلبها، وأخذ بعض ما في أيديها، لكن إذا كانت الأمة حافظة لحدود الله، فإنها تكون قوية ثابتة؛ ولذلك ترون المشكلة التي تتكرر دائمًا، وآخر ذلك في بلاد الشام: أن الأمة يُسلط عليها عدوها، لكنها تكون في حالة من الضعف والتفريط والتضييع لحدود الله -تبارك وتعالى-، كترك الصلوات، وفعل أنواع المنكرات، ثم بعد ذلك إذا أُسقط في أيدي الناس قالوا: ما العمل؟ ماذا نفعل؟ نقول: العمل كان قبل ذلك، كان علينا أن نُراجع أنفسنا، ونتقي الله ونتوب ونستغفر، ونعمل بطاعته، ونجتنب معصيته، فذلك هو أساس الثبات والنصر، لكن حينما يأتي العدو، ويجد الأمة في حال من التفريط والتفكك والاختلاف، يجدها لقمة سائغة، فينتهك من حرمتها ما شاء، فهذه الأعمال الوقائية لا تكون أثناء المصيبة، أثناء المصيبة تكون كإطفاء الحرائق، ماذا تُدرك؟! ويكون الناس في شغل شاغل بالحدث؛ ولهذا ذكر النبي ﷺ أن العبادة في الهرج: كهجرة إليّ[1] لماذا؟ أجود ما ذكره أهل العلم في ذلك هو أن الناس ينشغلون بالحدث عن ذكر الله وعن طاعته، فلا يكون لديهم متسع لا في الأذهان والقلوب، ولا أيضًا ما يتبع ذلك، فالقلب ملك الجوارح، فتكون الجوارح عاطلة عن طاعة الله -تبارك وتعالى-؛ ولذلك يذكر بعض الأخيار الصلحاء من أهل الشام من الدعاة إلى الله في أول ما وقعت هذه المصائب والبلايا زاروا بعض المخيمات في بلد مجاور للشام في رمضان، هذا في أول هذه الحوادث، يقولون في ذلك المخيم الذين يصومون رمضان أفراد قلائل من بين آلاف مؤلفة، يقولون: نؤذن والذين يحضرون لصلاة الجماعة أفراد، وأكثر الناس لا يصلون، هذا في أول هذه البلايا والمصائب، كان ذلك في بلد مجاور في بعض المخيمات، بعد ذلك: رجع كثير منهم إلى الله ، ونحو ذلك، ونحن جزء من الأمة، لا نتكلم عن أولئك ونقول: نحن بمنأى عن هذا كله، نحن مقصرون ومفرطون وذنوبنا كثير، لكن المقصود أن يتبصر أهل الإيمان بما يجب، وأن يعرفوا القوة الحقيقية التي يُحاول العدو من شياطين الإنس والجن أن يُفككوها، وهي هذا النسيج من الإيمان والتقوى، من طاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، هذا هو سر قوة الأمة، فإذا حصل ذلك مع اتحادها وتقوى الله وطاعته وطاعة رسوله ﷺ، لا يستطيع عدو ولو اجتمع أهل الأرض أن يقهروها؛ لأن ذلك وعد من الله ، لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120] لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُون [آل عمران:111] فهذه وعود من الله، إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم [محمد:7] ووعد الله لا يمكن أن يتخلف، وهذه الأمة عبر التاريخ لم تنتصر بعتاد وقوى مادية، وإن كان ذلك مما يجب أن يُعد، لكنه بحسب الاستطاعة، وكما ترون أن بضعة آلاف قد دوخوا هذه الجموع والحشود من هؤلاء شُذاذ الآفاق، من طوائف الضلال، ومن وراءهم من أهل الكفر والإلحاد، من اليهود والنصارى وغيرهم، بضعة آلاف شبه عُزل، وأولئك يمُطرون إليهم جحيمًا من السماء، ويوجهون إليهم جحيمًا آخر من الأرض، حتى استوى عندهم الليل مع النهار، ومع ذلك هم في غاية الثبات، كيف لو كانت الأمة في حال من التماسك والاتحاد والتقوى والصبر؟! فهذا كله مما يُحتاج إليه.
وفي قوله: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ عُبَّر بالفعل المضارع الذي يدل على التجدد والاستمرار، فهذه الدعوة مستمرة بلا توقف في كل الظروف؛ لأنها مهنة الأنبياء، وهي أشرف الوظائف على الإطلاق، وَمَنْ أَحْسَنُ [البقرة: 138] يعني: لا أحسن، لأن (من) هنا تفيد الاستفهام الإنكاري، بمعنى النفي، لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله، فإذا قال الله -تبارك وتعالى- وَلْتَكُن هذا أمر، وهو للوجوب، مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ والتنكير في (الأمة) يمكن أن يُقال: إنه يفيد التعظيم.
يَدْعُونَ فهذا يدل على الاستمرار، فالدعوة لا تتوقف، يجب أن توجد وتستمر، سواء كانت الدعوة الموجهة إلى غير المسلمين بدعوتهم إلى الإسلام وإنقاذهم من النار، أو كانت الدعوة موجهة إلى أهل الإيمان، بلزوم طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، وترك ما يُسخطه.
ولاحظ التعريف في الْخَيْرِ (أل) هنا للجنس، فيشمل كل الخير، والخير أوسع ما يكون من العبارات، أو الألفاظ الدالة على كل ما يُحبه الله ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، لم يُقيد هنا بالأمور الكبار والأصول العِظام، وإنما قال: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ فالدعوة تكون إلى رأس الأمر، وهو التوحيد، وهو دعوة الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وهو أهم المهمات، وأعظم الواجبات، وهو أولها، فأول واجب على المُكلف: توحيد الله -تبارك وتعالى-، ثم أيضًا ما يندرج بعد ذلك من فرائض الإسلام وشرائعه الكبار، كإقام الصلوات، وسائر أركان الإسلام، وهكذا ما يُقيم الضروريات، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات، على طريقة مُحكمة، يُراعى فيها ما ينبغي مراعاته، ولتكن الدعوة شاملة، فلا يجوز لأحد من الأمة أن يُفرق جمعها، بأخذ بعض الدين، وترك بعضها؛ فهذا الذي وقع فيه أهل الكتاب، فكانوا شيعًا، حيث أدى بهم ذلك إلى العداوة والبغضاء، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، فصاروا في حال من التدابر والعداوات التي لا تنقضي، فإذا أخذت الأمة بعض الدين، وتركت بعضه، أو أخذ بعض طوائف الأمة بعض الدين، وتركوا بعضه، حصل بسبب ذلك فساد عريض، وحصل الاختلاف والتفرق، وهذا لا يجوز، وإنما يؤخذ الإسلام بشموله، كما جاء عن الله وعن رسوله ﷺ، بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى، مع التشرف بحمل الدعوة، والانتساب إليه، هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ [الحج:78] فيكفيهم الانتساب إلى الإسلام والسنة شرفًا، بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى، وشعارات يُضيق فيها ما وسعه الله .
وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ كل الخير، وعبّر في قوله: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ بالفعل المضارع، فما يكفي أن يقول الإنسان: أنا أمرت مرة، أو نهيت عن المنكر مرة، لا وَيَنْهَوْنَ لأن المنكر يتجدد، ولا يزال يوجد، وجد في مجتمع النبي ﷺ، ويوجد في سائر المجتمعات، فيحتاج الناس إلى أمر ونهي، من أجل أن لا يتجذر هذا المنكر ويترسخ، ثم بعد ذلك يصعُب انتشاله واقتلاعه، فإذا سكت الناس فإن ذلك مؤذن بذهاب وضياع العلم الصحيح، فينشأ جيل يعتقدون أن هذا من دين الله ، فينشأ عليه الصغير، ويهرم الكبير، وربما والوا وعادوا عليه، وصار راسخًا في أذهانهم وقلوبهم وعقولهم.
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ هنا دخلت (أل) على المعروف، كل معروف، سواء كان واجبًا، أو كان مستحبًا، لكن يُراعى في ذلك التدرج الذي ينبغي أن يُلحظ، لكن أن يُترك من دين الله وشرائع الإيمان شيء باعتبار أنه تافه كما يُقال، أو لا شأن له، أو نحو هذا، فهذا غير صحيح؛ لأن الله أمر بهذا المعروف أن يؤمر به، وأن يُنهى عن المنكر، كل المنكر، ولم يستثن، وهكذا وصل إلينا هذا الدين، فالنبي ﷺ بيّن كل شيء، مما أوحى الله إليه، وأمره بتبليغه، فهذا هو اللائق.
ولاحظ هذا الختم وهذا التذييل وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون "وأولئك" الإشارة هنا للبعيد؛ لعلو مرتبتهم، ثم دخول ضمير الفصل بين طرفي الكلام بين المبتدأ والخبر يُفيد تقوية نسبة الفلاح إلى هؤلاء، ثم دخول (أل) الْمُفْلِحُون على الخبر، والتعبير بالجملة الاسمية تدل على الثبوت، ودخول (أل) على الخبر يدل على أنهم قد استحقوا الوصف الكامل من الفلاح، وعرفنا في بعض المناسبات أن الفلاح هو تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، فكأنه يقول: لا مُفلح إلا هؤلاء، وهؤلاء هم أهل الفلاح الذين يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فيكون النقص الداخل على العبد من الفلاح بحسب تفريطه في هذا الباب، لماذا؟ لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقصه بنقصانه، فإذا كان القيام بهذه الوظائف الشريفة فلاحًا، فمن قصر فيها كان ذلك نقصًا في فلاحه، والله المستعان.
على كل حال لاحظ هذه الآية والتي قبلها كما قلنا والتي بعدها وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا [آل عمران:103] فكأنه يقول: إذا عرفتم هذا، فجدوا واجتهدوا في دعوة الناس إلى هذا، الخير الذي عرفتم قدره وقيمته، وذقتم طعمه بعد تلك المرارة التي عانيتم منها طويلاً من الضلال والتشرذم والتفرق والكفر، وما إلى ذلك.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب فضل العبادة في الهرج برقم (2948).