السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(116) قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ...} الآية 106
تاريخ النشر: ٠٦ / ربيع الآخر / ١٤٣٨
التحميل: 516
مرات الإستماع: 1118

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما نهى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين عن مشابهة من تفرقوا واختلفوا في الدين بقوله: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم [آل عمران:105] قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك مُبينًا ذلك المصير والمآل الذي يصيرون إليه: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون [آل عمران:107] فهذه الآية تذكر حال هؤلاء، وما يصيرون إليه في ذلك اليوم.

ويكون ارتباط الكلام بالآية التي قبلها هكذا: ولهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، متى يكون هذا العذاب العظيم؟ في ذلك اليوم الذي يحصل به بياض الوجوه، وسواد الوجوه، فيكون اليوم المذكور في أول هذه الآية هو الظرف لذلك العذاب العظيم.

ومعنى هذه الآية الكريمة: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ يعني يوم القيامة، تبيض وجوه أهل الإيمان، وتسود وجوه أهل الكفر.

ثم قال الله : فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يعني: هؤلاء الذين اسودت وجوههم في ذلك اليوم يُقال لهم توبيخًا: أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ وحُذف القول لأنه معلوم، والقرآن يطوى فيه الكلام، كما هو معلوم، فيكون ذلك مقدرًا ثقة بفهم المخاطب أو السامع، يعني: فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم، أي: فيقال لهم: أكفرتم، فهذا معلوم، فاختُصر.

أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ بعضهم يقول: بعد إيمانكم يعني بعد ما أخذ الله عليكم الميثاق بالإيمان، فاخترتم الكفر بعد ذلك، ووجه ذلك أن ظاهر الآية العموم في كل من اسودت وجوههم وهم الكفار، وهل يختص حالهم بنوع منهم، وهم أهل الردة، كما قد يُفهم من قوله تعالى: أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فيكون ذلك خاصًا بنوع من الكفار وهم المرتدون، لكن ظاهر العموم في الآية، والاقتصار على الصنفين، فلا ثالث لهما فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ هذا الذي حدا ببعض أهل العلم إلى القول بأن المقصود بذلك: أنهم اختاروا الكفر على الإيمان، وقد أخذ الله عليهم العهد والميثاق بذلك، وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى [الأعراف:172] الآية، فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون يعني: بسب كفركم، فالباء هنا تفيد السببية.

يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ أن الناس في ذلك اليوم يصيرون إلى فريقين: فريق تبيض وجوههم، وفريق تسود وجوههم، فريق في الجنة، وفريق في السعير، وهذا بخلاف المعتزلة الذين يقولون بوجود طائفة ثالثة، في منزلة بين المنزلتين، الذي يسمونه الفاسق الملي، فهم لا يحكمون بكفره من جهة الاسم، فلا يسمونه كافرًا، هذا في باب الأسماء، وأما من جهة الأحكام فيُخلدونه في النار، فأشبهوا الخوارج من جهة الحكم، وخالفوهم في الاسم؛ لأن الخوارج يقولون: كافر، ومُخلد في النار، وهؤلاء يقولون: في منزلة بين المنزلتين، وهو مخلد في النار، فالله يقول: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ.

هل تُحمل هذه الآية على أهل البدع يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ؟ إذا كانت البدع مُكفرة فإنهم يدخلون في ذلك، وهذا يتفق مع قوله: أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يعني البدع الغليظة المُكفرة المخرجة من الملة، وأما ما لا يُخرج من الملة، فإن ذلك لا يصدق عليه قوله: أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون لكن لا شك أن الإنسان في ذلك اليوم وقبله أيضًا في الدنيا وفي البرزخ تكون حاله بحسب ما هو عليه من الإيمان والتقوى، ولزوم الصراط المستقيم، والبُعد عن أضداد ذلك، فإذا نقص من إيمانه وتوحيده، إما بالبدع والضلالات والأهواء، أو كان ذلك بسبب المعاصي والذنوب، فذلك يكون نقصًا في مرتبته في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الدار الآخرة.

ومع أن الآية تتحدث عن الآخرة لكن لا شك أن أعمال الإنسان وما هو عليه، سواء كان ذلك من الأمور الظاهرة التي يُجاهر بها، ويُظهرها للناس، أو من المُخبئات الخبايا والخفايا التي يُخفيها عنهم، يظهر ذلك في وجهه، ولهذا قيل: "ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحة وجهه وفلتات لسانه"؛ ولذلك فإن العقائد الفاسدة تظهر على وجه أصحابها، ويظهر في تلك الوجوه من الظُلمة ما لا يخفى على من نظر إليها، ولا يحتاج ذلك إلى كثير فراسة، وهذا مُشاهد، فأصحاب البدع الغليظة يُعرف ذلك من وجهه من بين الملايين يعرف أنه من هؤلاء المُبتدعة الضُلال، أو من الطائفة الفلانية، سواء كان في طوائف الرافضة، أو كان في الخوارج، أو في غيرهم، وأحيانًا قد يظهر عليه أثر العبادة، فتجد أثر السجود في وجهه، لكن الوجه مُظلم، لا تُطيق النظر إليه، فلا يزيده ذلك الذي في جبهته وجنبيه إلا ظُلمة -نسأل الله العافية-، بخلاف أهل الإيمان والتقوى والطاعة، ولزوم السنة، فأهل الإيمان كما قال الله : سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29] وقد ذكرت في بعض المناسبات أن الجمهور من العلماء يقولون: إن معنى سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم إشراق الوجه، وأنوار الإيمان، وأنوار السنة والطاعة تظهر على وجه الإنسان، فإذا رآه أحد من الناس عرف أنه من أهل الاستقامة والخير والطاعة، ولو لم يقف على عمله، ولم يدر ما عمل هذا الإنسان.

وقد يكون الإنسان -كما ذكرت- يظهر عليه علامة في جبينه، ويعتقد هو أو غيره أن هذا هو المراد بقوله: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ لكن من رآه عرف أن هذا من أهل البدع، من أهل التصوف، أو كان ذلك من أهل الرفض، أو كان من الخوارج، فإن هذه الوجوه يظهر عليها -نسأل الله العافية- أثر هذه المزاولات والاعتقادات، وما يكون عليه الإنسان من حال وعمل، فهذا يظهر في الدنيا، وكذلك تظهر آثاره في القبر، وكذلك أيضًا في الآخرة من باب أولى؛ لأنها دار الجزاء والحساب.

وهكذا حينما يكون الناس على الصراط يكون لأهل الإيمان من النور بحسب إيمانهم، أما أهل النفاق فإن هذا النور ينطفئ، ويبقون في ظلمة، ثم بعد ذلك يتهافتون في النار، وينادون أهل الإيمان: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] لأنهم كانوا معهم في الدنيا، ولكن الله -تبارك وتعالى- يُميز بينهم في الآخرة، فكما كانوا يُخادعونهم في الدنيا، فكذلك الله خادعهم في الآخرة، فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَاب [الحديد:13]، فـ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ [الحديد:14] نسأل الله العافية، وهذا في أرض المحشر قبل دخول الجنة والنار، والنبي ﷺ ذكر هؤلاء أول زمرة يدخلون الجنة، ووصف وجوههم فهم في غاية الإشراق والإضاءة، كالقمر ليلة البدر، لكن لا يكون ذلك لجميع أهل الإيمان، وإنما يتفاوتون بتفاوت إيمانهم، وأعمالهم، وتقواهم، واستقامة هؤلاء على السنة، ولزوم طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ.

وقوله -تبارك وتعالى-: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ والله -تبارك وتعالى- قال عن الكفار: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه:102] هذا في المحشر، بعض أهل العلم يقول: زُرق العيون، وبعضهم يُطلق الزُرقة على السواد، ولا زال هذا مُستعملاً في بعض البيئات إلى اليوم، يقال: أزرق يعني: شديد السواد، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ [الزمر:60] فسواد الوجه يحصل لهؤلاء الكفار والمشركين على اختلاف طوائفهم ومِللهم ونِحلهم.

فحينما ذكر الله -تبارك وتعالى- الفريقين ابتداء ابتدئ بمن ابيضت وجوههم، فقال: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ثم لما فصل أحوالهم وأحكامهم قال: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فبدأ بالفريق الثاني، ولم يبدأ بالأول، وهذا يسمونه اللف والنشر المشوش والمفرق، أجمل أولاً، ثم فصّل، ولم يأت التفصيل على الترتيب قبله، يعني: في البداية ذكر طائفتين، ولم يذكر أحكامهما يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فهذا يُقال له: لف يعني إجمال، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ فبدأ بالفئة الثانية، يذكر حالها وحكمها، وهم الذين اسودت وجوههم، فجاء التفصيل بعده على غير الترتيب الأول، فهذا يُقال له: لف ونشر، والنشر: التفصيل، ويكون مشوش، أو غير مرتب، وهذا مثال ظاهر له.

وفي قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون [آل عمران:106] لم ينص على خلود هؤلاء في النار، لكن لما ذكر الذين ابيضت وجوههم قال: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون [آل عمران:107] ورحمة الله: هي الجنة، ولا شك أن الكفار مخلدون في النار، لكن فهم بعض أهل العلم من هذا أن رحمته غلبت غضبه، فذكر ما يتعلق بأهل الرحمة، من بياض الوجوه، وأنهم في رحمته، وأنهم خالدون فيها، مع أن أهل النار جاءت النصوص بتخليدهم، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيق ۝ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ [هود:106-107] والنصوص في هذا معلومة كثيرة في كتاب الله، وفي سنة رسوله ﷺ.

وفي تعريف هذا اليوم بحصول بياض وجوه، وسواد وجوه يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ يُفيد تهويل شأن ذلك اليوم، فهو يوم عظيم، ينقسم فيه الناس إلى طائفتين وفئتين وحالين، فهؤلاء تبيض وجوههم، وهؤلاء تسود وجوههم، ولا شك أن هذا اليوم عظيم، وأشق وأشد يوم، وهو اليوم الذي يُعطى فيه الإنسان كتابه بيمينه أو بشماله، وما يلقاه الإنسان بعد ذلك من السعادة أو الشقاء والعذاب، فهو امتداد لهذا، فإذا كان من أهل السعادة ففي الجنة، وفي رحمة الله -تبارك وتعالى- يتقلب بنعيمها، وإذا كان من أهل الشقاوة ففي النار، فهو لا يزداد إلا بؤسًا وشقاء، وهذا -نسأل الله العافية- لا شك أنه يُفيد الترهيب لأهل التقصير والعصيان والشر والفساد والكفر.

وفيه: أيضًا الرجاء لأهل الطاعة والإيمان والتقوى، فهو مرغب لهم بما ينالهم في ذلك اليوم، وما يكونون عليه من بياض الوجوه، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ يمكن أن يكون قدم هؤلاء ثانيًا، يعني بعد أن ذكر بياض الوجوه أولاً، هناك أن رحمته غلبت غضبه، فقال: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ويكون قد قدم الأشرف، ثم بعد ذلك قدم الذين اسودت وجوههم عند التفصيل والنشر فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يمكن أن يكون هذا -والله تعالى أعلم- باعتبار الجمع بين الترغيب والترهيب، فقدم الذين ابيضت وجوههم، تغليبًا لجانب الرحمة، وتشريفًا لهم، ثم ذكر هؤلاء بعدهم، ويمكن أن يكون ذُكر هؤلاء فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، بين الترغيبين، يعني: بين ذكر بياض الوجوه أولاً، ثم بعد ذلك قال: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون [آل عمران:107] فيكون قد حذر من حالهم، وعن السير في هذا الطريق والمسلك، وجمع بين الترهيب والترغيب.

وفي قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ يتحدث عن غائب، ثم وجه الخطاب إليهم: أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فهذا يُقال له: التفات، يعني تحول الخطاب من الغائب إلى المخاطب، وهذا لا شك أنه من ضروب البلاغة، وأنشط للسامع، ومن التفنن في الكلام، ثم أيضًا يمكن أن يكون قد توجه فيه من الغائب إلى المخاطب لما ذكر العلة التي أوقعتهم، وأودت بهم إلى هذا المصير البائس، أَكَفَرْتُم على سبيل التوبيخ والتقريع، ولم يقل: أكفروا بعد إيمانهم، وإنما قال: أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فهذا أشد وقعًا على النفوس.

وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون جاء بصيغة الأمر، والمقصود بذلك الإهانة، والتبكيت لهم.

ثم التعبير عن ألم العذاب بالذوق فَذُوقُواْ كأن العذاب لما صار يطال الإنسان من جميع جوانبه، ويصل إلى ظاهره وباطنه، صار بمنزلة الذوق؛ لأنه يجد ألمه وأثره كما يجد من يذوق طعم الطعام في فمه أو لسانه، فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون والباء هذه تفيد السببية، أي: بسبب كفركم.

ولاحظ هنا كُنْتُمْ في الماضي باعتبار أنهم كانوا كذلك تَكْفُرُون فهذا مضارع، يدل على الاستمرار، فهم مستمرون بالكفر؛ ولهذا فإن البعض يقول: إن هؤلاء قد يكفر الواحد منهم سبعين سنة، أو خمسين سنة، في مدة العمر، أو أقل أو أكثر، فكيف يُعذب العذاب الأبدي السرمدي، فهؤلاء كما قال الله : وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ [الأنعام:28] فهم عازمون على الكفر، ماضون فيه، مستمرون في ذلك إلى آخر لحظة من أعمارهم، ولو ردوا لعادوا إليه ثانية، ولا شك أن العزم المُصمم يُنزل منزلة الفعل، فهذا الذي قد عزم على الكفر مدة حياته، ولو مُد له في العُمر لبقي عليه، فمثل هذا يُعامل معاملة من جرى ذلك منه أبدًا؛ وذلك لعزمه وإصراره عليه، وتمسكه به.

ويدل قوله: بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون على كمال عدل الله -تبارك وتعالى-، ويدل على أن الكفر هو الذي يوقع الإنسان في الخلود في النار.

ودلّ قوله: فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا على وجود التعليل في أحكام الله -تبارك وتعالى-، وهذا كثير في القرآن، وله صيغ وصور متعددة، ولو جُمعت لظهر منها مُجلدات، فالتعليل في كتاب الله -تبارك وتعالى-كثير، سواء كان ذلك في الأحكام الشرعية، أو كان في الأحكام الكونية القدرية.

أكتفي بهذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مواد ذات صلة