الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما ذكر الله -تبارك وتعالى- حال الفريقين الذين ابيضت واسودت وجوههم، وما ذكر الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك من الإشارة إلى آياته المتلوة بالحق على نبيه ﷺ، ونفي الظلم عنه، قال -جل جلاله، وتقدست أسماؤه- بعد ذلك كله: وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُور [آل عمران:109] فله ما في السماوات والأرض ملكًا وخلقًا وتدبيرًا وتصريفًا، كما أن مصير جميع الخلائق في العالم العلوي والسُفلي تصير إليه وحده.
فهذا تفصيل ذكره الله فيما يتصل بمصير الخلائق، وأن ذلك جميعًا لا يخرج عن قبضته وتصرفه، فهم ملكه وعبيده، ونواصيهم بيده، لا يستطيع أحد أن يُخلصهم، أو أن يجدوا ناصرًا ينصرهم من الله -تبارك وتعالى-، كما أنه الغني العزيز، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، لا يمكن لأحد أن يُمارس ضغوطًا، أو أن يشفع لأحد، فتُقبل شفاعته لحاجة لهذا الشافع قد تُغيبها الأيام، أو أنه يتخوف غوائله إذا رد شفاعته، فكل ذلك منتفٍ، كما قال الله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُون [البقرة:48] فلا يستطيع أن يفتدي وَلاَ هُمْ يُنصَرُون لا أحد يُخلصه بالقوة، فلا ناصر، وإلى الله ترجع أمور الخلائق، وسائر الأمور، كما أن الخلق أيضًا يُرجعون إلى الله فيُجازيهم ويُحاسبهم على أعمالهم.
فـ(ما) في قوله: وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ تُفيد العموم، فكل ما في السماوات وكل ما في الأرض له سبحانه، فهذا يدل على الغنى المُطلق الكامل، طيب وهذا الذي بأيدي ملوك الأرض؟ هو عارية، والله -تبارك وتعالى- تصير إليه هذه الخلائق، وما في أيديها، فالله استخلفهم في هذه الدنيا، وجعلهم خلفاء يخلف بعضهم بعضًا ليبتليهم ويختبرهم، ثم بعد ذلك يرحلون، ويبقى لله ميراث السماوات والأرض وحده دون سواه.
وأيضًا تقديم الجار والمجرور في قوله: وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يعني: تقدير الكلام هكذا: وما في السماوات وما في الأرض لله، لكنه قال: وَلِلّهِ فتقديم الجار والمجرور هنا يفيد الحصر والاختصاص، يعني: له وحده دون شريك، لا يوجد أحد يُنازع؛ ولهذا أعظم يوم هو يوم الدين، الدنيا ليست بشيء بالنسبة للآخرة، إذا كان يوم القيامة فقط مقداره خمسين ألف سنة، وكما ذكرنا لكم في العد التقريبي التقديري منذ خلق الله آدم إلى يومنا هذا، إذا عُد ذلك من خلال المروريات التاريخية، وإن كانت لا تثبت، لكن في أعلى التقديرات في الروايات الإسرائيلية المختلفة، فذلك قد لا يتجاوز اثنتي عشرة ألف سنة، منذ خلق الله آدم إلى يومنا هذا، مدة قصيرة، ويوم القيامة فقط مقداره خمسين ألف سنة، دنيا ليست بشيء، فكيف بالخلود الأبدي السرمدي؛ ولذلك قال الله : مَـالِكِ يَوْمِ الدِّين [الفاتحة:4] فأضاف يوم الدين ويوم الجزاء والحساب إليه، مع أن له الدنيا والآخرة، لكن العلماء -رحمهم الله- قالوا: ربما يكون ذلك باعتبار أن ذلك اليوم هو اليوم وما دونه ليس بشيء، فإذا كان يملك ذلك اليوم فما دونه من باب أولى، وقيل: إن ذلك باعتبار أن يوم الدين لا يدعي فيه أحد الملك ألبتة، لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار [غافر:16] فلا يدعي في يوم القيامة أحد ملكًا، وإنما هو لله وحده.
فالمقصود أن الله -تبارك وتعالى- هنا قال: وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ فهذا يدل على أن ذلك يختص به، ولاحظ إعادة أيضًا (ما) التي تُفيد العموم مع الأرض، يعني: لم يقل: ولله ما في السماوات والأرض، فيُفهم أن الجميع له، لكن حتى الأرض قال: وَمَا فِي الأَرْضِ فهذا لتقوية العموم وتأكيده، وأن ذلك لا يكون من مجموعهما، أو مجرد مجموع السماوات والأرض، بل كل ما في السماوات وكل ما في الأرض؛ لئلا يتوهم متوهم أن شيئًا يخرج عن ذلك، فجميع ما في السماوات وجميع ما في الأرض، والسماوات ما قدرها؟ وما حجمها؟ إذا كانت السماء الدنيا لا يصل إليها الواصلون من البشر بقدراتهم وإمكاناتهم وعلومهم حتى بمجرد المعلومات إلا ما أخبر الله به، وأوحاه إلى رسوله ﷺ، أما العلوم التجريبية ونحو ذلك من علوم الفلك، فهؤلاء لا يصلون إلى السماء، ولا يدرون، ولا يقتربون من خبرها، أعني السقف المحفوظ وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا [الأنبياء:32] فهذه لا يقتربون منها.
هم يتحدثون عن نجوم وكواكب، ونحو ذلك، مما يشاهدونه، ويغيب عنهم أضعاف أضعاف أضعاف ذلك، تسبح في هذا الكون الواسع، هذه السماء الدنيا فقط، فكيف بالتي فوقها، وهي أعظم منها، والتي بعدها وهي أعظم، والتي بعدها وهي أعظم، إلى السابعة وهي أعظم؟ هذه السماوات، وفوق ذلك عرش الرحمن، فالسماوات والأرض جميعًا بالنسبة للعرش ليست بشيء، فهو أعظم المخلوقات، وأوسع المخلوقات، فإذا كان الكرسي وهو في لغة العرب يُقال: لموضع القدمين، فهذا الكرسي فقط وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قال: وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255] يعني: لا يُثقله حفظ السماوات والأرض، فهذه يُديرها بما فيها من الخلائق، والسماوات والأرض ليست بشيء في هذا الكون الفسيح الشاسع حبة رمل أو أقل من ذلك بما فيها من البشر والقوى والإمكانات والأموال والثروات الإنسان والحيوان والنبات والجماد والغابات، وكل شيء، هذه حبة رمل بالنسبة لهذا الكون الشاسع، بل أصغر من حبة الرمل، والله أعلم.
فإذا كان هذا سعة خلق الله التي لا نُدرك منها إلا أقل القليل؛ وهذا وغيره كله لله ، فمعنى ذلك أنه ينبغي أن تخضع الأعناق لربها وخالقها الذي هذه عظمته، وأن تتوجه القلوب إليه بكليتها في فقرها وحاجتها وسؤالها ألوان المطالب، فإذا اعترى الإنسان ما يعتريه من هم أو مرض أو فقر أو مشكلات أيًّا كانت يتوجه إلى من بيده ملك كل شيء، فحينما يذكر الله: وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يذكرها لماذا؟ من أجل أن يُبين لخلقه سعة ملكه وعظمته، وأنه الذي ينبغي أن يُعبد وحده دون من سواه، هذه المعبودات والأصنام ماذا تفعل؟ وماذا خلقت؟ وما أوجدت؟ وماذا تملك؟ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوب [الحج:73] فهذا الذباب يقع على هذا الصنم والوثن، فيأخذ من الطيب الذي يوضع عليه، أو من هذه الأسمان التي تُراق، أو الذبائح أو غير ذلك، فيأتي الذباب ويأخذ وهو لا يستطيع أن يُخلص ذلك من الذباب، وفي الوقت نفسه فهذا المخلوق الضعيف الحقير لا يستطيع لا هو ولا غيره ولو اجتمع من بأقطارها من الأولين والآخرين، وسخروا جميع الإمكانات والعلوم لن يستطيعوا أن يخلقوا ذبابًا، والله يخلق هذا الخلق، ويُدبره، وكله ملك لله ، فتوجه إلى الله بحاجتك ورغبتك وسؤالك وخوفك ورجاءك وفقرك، وليكن القلب متعلقًا به، متوكلاً عليه، واثقًا به، فكل شيء عنده، وإذا كان كذلك فينبغي أن يُحب، وأن يُعظم التعظيم اللائق به، وأن يُخاف، والإنسان قد يرجو مخلوقًا؛ لأنه لربما يُحسن إليه ويعطيه، أو يخاف مخلوقًا؛ لأنه يعتقد أنه قد يؤذيه، ونواصي هؤلاء جميعًا بيد الله ، ثم يموتون، ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم لا الموت ولا غير ذلك، أما الله فهو الحي الذي لا يموت، وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ [الأنعام:17].
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ فإذا كان ذلك ملكًا لله -تبارك وتعالى- فهذا يعني أن الله إنما يريد إصلاح وصلاح هذه الأملاك، فشرع لها ما يكون به صلاحها، فمن فهم غير ذلك، وأن الشريعة تأتي بالضرر، أو أن الإسلام يأتي بالشر أو الفساد والإفساد في الأرض، أو نحو ذلك، فهو لم يفقه عن الله -تبارك وتعالى-، ولم يُعظم الله حق عظمته، هذه أملاكه، فشرع لها ما يكون به قيامها وصلاحها، ويتحقق بها مصالح الخلق إذا صاروا على هذا النهج الذي رسمه لهم، وسلكوا صراطه المستقيم، فعندها تستقيم أحوال العالم، وإلا وقع الخلل، كما قال الله : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41].
كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُور وقوله: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ [آل عمران: 108] لاحظ هنا لفظ الجلالة كرره ثلاث مرات، ولم يذكر الضمير اختصارًا للكلام، يعني لم يقل: وما الله يريد ظلمًا للعالمين، وله ما في السماوات وما في الأرض وإليه ترجع الأمور، فالإظهار في موضع الإضمار هذا من الناحية البلاغية لا غُبار عليه، هي جُمل مستقلة، ولو كانت متجاورة، وكذلك هنا يُفيد فائدة وهي إظهار العظمة، فهذا أحسن من ذكر الضمير، والكناية عنه؛ لأن هذا مقام بيان سعة ملك الله ، وأن كل شيء بيده، وتحت قهره وتصرفه، وأنه يُدبر أمر العالم.
كذلك أيضًا فإن هذه الآية الكريمة قد ذُيلت بهذا التذييل: وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُور ولاحظ التقديم هنا الجار والمجرور وَإِلَى اللّهِ فلم يقل: وترجع الأمور إلى الله، مما يدل على الحصر، يعني تُرجع إليه وحده دون ما سواه، وإذا كانت الأمور تُرجع إليه، فينبغي أن يُحتكم إليه وحده، وأن يكون هو المُشرع للخلق والعباد، فلا يُشرع لهم أحد سوى الله -تبارك وتعالى-، أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] فكل شيء في هذا الكون له، وإليه ترجع الأمور، فكيف يفتات عليه أحد من خلقه، فيكون مشرعًا للعباد، ويريد أن ترجع الأمور إليه وإلى تشريعاته المخالفة لشرع الله .
و(الأمور) في قوله: وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُور دخلت عليه (أل) التي أفادت العموم، فكل الأمور مرجعها إلى الله -تبارك وتعالى-، وهذا مما يدخل تحت اسمه الواسع، فتُرجع كل الأمور إليه ، الدقيقة والجليلة، والأمور هنا المقصود بها جمع أمر.
ولم يقل مثلاً: يُرجع الناس الأمور، أو نحو ذلك، وإنما قال: تُرْجَعُ بناه للمجهول، فينبغي أن يكون ذلك الإرجاع من الجميع، وهذا يفيد معنى تفويض الأمور لله ، ويُفيد التوكل عليه، فإذا كان كل شيء يرجع إليه، وله ملك كل شيء، فهو الأول والآخر، مُبتدئ كل خير منه، ومبدئ الخلق منه -تبارك وتعالى-، وهو الآخر، فهو الذي يرث ذلك جميعًا، فمنه المبدأ، وإليه المنتهى، وإذا كان الأمر كذلك، فإن العبد لا يسعه إلا أن يستسلم الاستسلام الكامل بقلبه ولسانه وجوارحه، فيكون عابدًا ذاكرًا خاضعًا لله .
هذا وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.