السبت 18 / شوّال / 1445 - 27 / أبريل 2024
(133) قوله تعالى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ...} الآية 120
تاريخ النشر: ٢٦ / ربيع الآخر / ١٤٣٨
التحميل: 495
مرات الإستماع: 899

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما نهى الله -تبارك وتعالى- عن اتخاذ البطانة من الكافرين، وبين حال هؤلاء الكفار من جهة العداوة التي يُبطنونها: لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُون [آل عمران:118]، بهذا السياق ثم ذكر محبة المسلمين لهم، وفي مقابل ذلك هؤلاء لا يُحبون المسلمين، ولا يُحبونكم، وهكذا في الإيمان: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران:119]، كل ذلك مما يوجب النُفرة منهم والمُباعدة من اتخاذهم بطانة.

ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- أيضًا من أوصافهم التي توجب مُباعدتهم: إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيط [آل عمران:120]، من شدة عداوتهم أنكم معاشر المؤمنين إذا نزل بكم المحبوب والمرغوب من الغنيمة والنصر على الأعداء، ونحو ذلك فإن ذلك يُحزنهم ويسوؤهم، وإذا وقع بكم المكروه من هزيمة وجراح وقتل وأذى إلى غير ذلك فإن هؤلاء يفرحون ويُسرون بذلك، ثم قال الله -تبارك وتعالى-: وَإِن تَصْبِرُواْ، على طاعة الله -تبارك وتعالى-، وترك معصيته، وعلى أقداره المؤلمة، تصبروا على دينكم، وتتقوا الله -تبارك وتعالى- بفعل ما أمر واجتناب ما نهى: لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، وإن هذا الكيد الذي يكيدون، والكيد هو العمل لإيصال الضرر بالخفاء، لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيط فإن الله -تبارك وتعالى- عالم بجميع أعمالهم محيط بذلك كله وسيُجازيهم عليه.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات والمعاني والفوائد في أوصاف هؤلاء: إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا، هذا أخذ منه أهل العلم ضابط العدو، من هو العدو؟

وهذا يذكره الفقهاء أيضًا في باب الشهادات، من الذين لا يُمكن من الشهادة عليك؟ إذا كان بينك وبينه عداوة، ما ضابط هذه العداوة؟

هو من يفرح بمساءتك، ويحزن لمسرتك، إذا حصل لكم أمر تغتبط به وتُسر، حصل لك رفعة، حصل لك ظفر فإن ذلك يُحزنه، وإذا حصل لك إخفاق فإن ذلك لا شك يُفرحه، فالله -تبارك وتعالى- ذكر هذا المعنى، فيصلح أن يكون ضابطًا في تحديد العداوة والعدو فيكون بهذه المثابة.

إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا، الفرق بين العبارتين: في الحسنة قال: إِن تَمْسَسْكُمْ، وفي السيئة قال: تُصِبْكُمْ، فذكر بعض أهل العلم لطيفة في هذا المعنى: وذلك أن هؤلاء يسوؤهم أدنى ما يصل إليكم من الخير والإحسان والحسنات، فهذا يسوؤهم ولو كان قليلاً؛ لأن المس تمسسكم يعني ولو كانت يسيرة، ولو كانت عابرة تسؤهم، وأما في المصيبة فما الذي يُفرحهم؟ وَإِن تُصِبْكُمْ، فالإصابة أقوى من مجرد المس يعني المصيبة التي تتمكن منكم وتنزل بكم ويشتد ذلك عليكم، تشتد وطأتها، فهذه تسُرهم ويُفرحوا بها، فهذا وجه في هذا التعبير في الحسنة وفي السيئة، يسوؤهم أدنى ما يصل إليكم من الخير، ويفرح حينما تكون المصيبة عظيمة فيغتبطون بذلك ويُسرون، ولم تكن هذه المصائب والبلايا التي تنزل بالمسلمين سببًا للعطف من قِبل هؤلاء، أو خفة ضراوة العداوة في نفوسهم، وإنما يكون ذلك سببًا لفرحهم، وهذا أشد ما يكون من العداوة، بينما قد يكون بين الناس شيء ولكنه غير متمكن فإذا وقعت الشدة صار بعضهم لبعض، وكان ذلك سببًا لانعطاف قلوبهم على أولئك الذين وقع بهم البلاء، ولربما كان ذلك سببًا لزوال وذهاب العداوات أعني وقوع المصائب، أما هؤلاء فلا، هم على حال أخرى.

وقوله -تبارك وتعالى-: إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ، حسنة نكرة في سياق الشرط، نحن عرفنا في عدد من المناسبات أن النكرة في سياق الشرط أو النفي أو النهي أو الاستفهام تُفيد العموم إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ، يعني: أي حسنة تسؤهم، سواء كانت في دينكم، أو كانت في دنياكم، كانت في أجسادكم، أو كانت في أولادكم، أو كانت في أموالكم، أو في غير ذلك تسؤهم.

وَإِن تُصِبْكُمْ، فهذه أيضًا نكرة في سياق الشرط "سيئة" أصابكم مكروه سواء كان ذلك في ميدان الحرب والمعركة من هزيمة وقتل وجراح، أو كان ذلك بخسائر مالية أو كان ذلك بأوصاب وعِلل وأمراض وأدواء تنزل بالأمة فيكثر الموتى والبلاء، أو كان ذلك بآفات سماوية تُصيب الزروع أو غير ذلك فهذا كله مما يُفرحهم: وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا.

وأيضًا الحسد لا يكون على العدم، يعني الذي يكون في حال من الفشل والتأخر والتراجع والانحطاط والضعف لا يُحسد، يُحسد على ماذا؟! إنما الحسد يكون على الكمالات فهؤلاء يعرفون قدر هذه النعمة العظيمة النبوة انتقلت من بني إسرائيل إلى هذه الأمة: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32]، هذه الأمة وما يتبع ذلك من الملك والعزة، إضافة إلى ما يكون لأهل الإيمان في الآخرة من الجنة والنعيم المُقيم كل ذلك فهم يحسدون على هذا كله، بل يحسدون على أجزائه كما حسدونا على التأمين: قول آمين في الصلاة كما أخبر النبي ﷺ[1].

والله -تبارك وتعالى- يقول: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [النساء:54]، فالحسد إنما يكون على الكمالات، وأما عادم الكمالات فإنه لا يجد حاسدًا، قد يجد أعداء ولكن الحسد إنما يكون على المزايا والفضائل والكمالات، وكلما ازدادت هذه الكمالات ازداد هذا الحسد وكثُر هؤلاء الحُساد، ولكن الطريق كما ذكر الله -تبارك وتعالى-: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، هؤلاء الذين هم بهذه المثابة لا يمكن أن يوثق بهم، هم يحسدونكم على عطاء الله وفضله، ويفرحون بالمصائب التي تنزل بكم، فكيف يوثق بهم وبرأيهم فهم أعداء؟!، العداوة كامنة في قلوبهم متربصون بكم، فالطريق ما هو؟ هؤلاء أعداء لا يتوقفون عن الكيد وطلب الإساءة فالطريق هو ما ذكر الله: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا.

فهذا هو الطريق الذي تحصل به العِصمة والحماية لهذه الأمة من كيد أعدائها، أنت لا تستطيع أن تمنع هؤلاء الأعداء من الكيد، أو أن تُزيل العداوة التي في نفوسهم فهذه قضية لا نملكها ولكن علينا أن نتعرف على الطريق والسبيل الذي يحصل به دفع هذه الشرور والكيد الموجه للأمة، هؤلاء يكيدون لكم بكل مستطاع، يُحرضون الأعداء، يشوهون سُمعة الأمة، يحاول الضرر بكم في أفكاركم، في مجتمعاتكم، في بث الأمراض التي تُصيب الإنسان أو تُصيب النبات أو تُصيب الحيوان، هؤلاء كل سبيل إلى الفشل يسعون إليه وأنت لا بد أن تعرف الطريق للحصانة من هذا الكيد، كيف يلجأ الإنسان إلى رُكن عظيم وأصل منيع يمنعه من كيدهم وأذاهم وشرورهم؟ كيف تنجو الأمة من مثل هذه الشرور الموجهة إليها من أعداء لا يتوقفون في محاولة صدها عن النهوض، وإيقاعها في كل محنة وبلية حتى تتعثر، فلا تخطوا خطوة إلى الأمام؟ فالصبر والتقوى: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا.

فالصبر على كل ما يجب الصبر عليه من طاعة الله -تبارك وتعالى- وترك معصيته، الصبر عن المعصية وكذلك أيضًا الصبر على ما يجب فعله مما يحصل به قوة الأمة، القوة المادية بالجد والمثابرة، وترك التواني والكسل، والقعود عن أسباب النهضة: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، فهذا إذا حصل فإن الأمة تكون في منعة تستدفع بها كيد هؤلاء الأعداء، وإذا كان ذلك يُدفع به الكيد الخفي؛ لأن الكيد هو محاولة إيصال الأذى والضرر بطرق خفية، فالظاهر من باب أولى، أنه يحصل دفعه والتحصن منه إذا تحقق الصبر والتقوى، وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، وذلك كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- بأن الصبر يدخل فيه الصبر على المقدور، يقول: "والتقوى يدخل فيها فعل المأمور وترك المحظور"[2].

الواقع أن الصبر يشتمل على طاعة الله من فعل المأمور وترك المحظور، والصبر على المقدور، لكنه لما ذكر التقوى بعدها فارق بينهما شيخ الإسلام هنا في هذا الموضع في المعنى، فجعل الصبر على المقدور والتقوى بفعل المأمور وترك المحظور، يقول: "فمن رُزق هذا فقد جُمع له الخير كله"، اجتمع له الخير، بخلاف من لم يتق فلم يعمل بطاعة الله ولم يترك معصيته، ولم يصبر على المقدور بل يحتج بالقدر على فعل المعاصي، ونحو ذلك، ولا يصبر إذا ابتلي فهذا يقول: "حال الأشقياء"، وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا.

إذن هذا هو الطريق، الأمة اليوم يُحيط بها أعداء كُثر اختلفت مذاهبهم وعقائدهم ولكن يجمعهم شيء واحد وهو السعي للنيل من هذه الأمة، والله أخبرنا عن المخرج أن نستقيم على أمر الله، أن نُحصن أنفسنا من الداخل فنستدفع عداوة هؤلاء الأعداء من الخارج.

وهذه الحصانة إنما تكون بما ذكر الله -تبارك وتعالى-، وهذا يدل بالتعليق بالشرط: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، كما في القاعدة: "الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه"، وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، يدل على أنه إذا نقص الصبر والتقوى نقصت المنعة والحصانة فيصل إلى الأمة شيء من هذا الأذى والكيد الذي يوجهه هؤلاء الأعداء، فإذا اضمحل صبرها واضمحلت التقوى سُلط عليها الأعداء، وأخذوا بعض ما في أيديهم، فهذا ظاهر من هذه الآية.

ثم قال: إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيط، "بما يعملون" "ما" هذه تفيد العموم، وقدم ذلك في هذه الآية؛ لبيان أن جميع أعمال هؤلاء معلومة له وهو سيُجازيهم أيضًا عليها، بِمَا يَعْمَلُونَ، ولم يقل: والله محيط بما يعملون، وإنما: بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيط، فذكر أعمالهم، فيدخل فيها الكيد الخفي، ويدخل فيها الظاهر، يدخل فيها أنواع الأذى الذي يسعون إلى إيصاله إلى هذه الأمة.

فنسأل الله أن يُخيب مساعيهم، وأن يرزقنا الصبر والتقوى، وأن يُعلي كلمته، ويُعز دينه إنه قوي عزيز، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه ابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب الجهر بآمين، برقم (856)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5613).
  2. انظر: مجموع الفتاوى (2/303).

مواد ذات صلة