الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي هذه الآيات التي ابُتدئ الحديث فيها عن غزوة أحد: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون [آل عمران:121-122]، هذا الحدث الذي وقعت فيه الهزيمة وحصل فيه التساؤل عن سبب ما جرى، وهكذا أيضًا هذا التضعضع الذي حصل منذ البداية حيث هم هؤلاء بالرجوع عن رسول الله ﷺ، فالله -تبارك وتعالى- يُذكر عباده بالنصر الذي حصل في يوم بدر وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون [آل عمران:123]، جاء هذا التذكير في هذا السياق الذي يتحدث عن غزوة أحد عن وقعة حصل فيها هزيمة وهي أول هزيمة تقع للمسلمين، وهذا أيضًا التراجع والتردد الذي حصل لهؤلاء من الأنصار أعني بني سلِمة وبني حارثة وهما الطائفتان كما سبق.
فهنا يُذكرهم بنصره المؤزر في يوم بدر: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ معاشر المؤمنين ببدر على المشركين، وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ على ضعف، وقلة عَدد، وقلة عُدد، وقد خرجوا غير مُتهيئين للمعركة ولا مستعدين للقاء العدو، وإنما خرج مع النبي ﷺ من خف من أصحابه من أجل أن يأخذوا عيّر قريش التي كانت مع أبي سفيان -رضي الله عنه وأرضاه-، فهذا الذي حصل مع اجتماع هذه الأسباب التي لا ينتج في العادة من مجموعها النصر ثم يتحقق هذا النصر الكبير المؤزر الذي صار مفخرة في التاريخ، وصار من شاركوا في تلك الغزوة خيار المؤمنين، يكفي أن يُقال في التزكية: وهو ممن شهد بدر، هو من أهل بدر، هو بدري، ليُعرف مكانه ومنزلته بين أهل الإسلام، فهؤلاء أعلى الطبقات في المؤمنين.
فَاتَّقُواْ اللّهَ بفعل أوامره واجتناب نواهيه، لعلكم تشكرون نعمه، من أجل أن تكونوا شاكرين، وقد مضى في بعض المناسبات أن "لعلّ" من أهل العلم من قال هي في كل موضع في القرآن للتعليل أي: من أجل كذا، من أجل أن تشكروا، إلا في موضع واحد وهو قوله -تبارك وتعالى-: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُون [الشعراء:129]، أي: كأنكم تخلدون، هذا الموضع الوحيد بمعنى كأن، والباقي بمعنى التعليل: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون، أي: من أجل أن تشكروا، وهذا له مدلول كما سيأتي في الكلام على الفوائد المستنبطة من هذه الآية الكريمة.
يؤخذ من هذه الآية في ذكر هذا النصر المؤزر في ثنايا الحديث عن وقعة حصلت فيها الكسرة لأهل الإيمان والهزيمة: أن الله -تبارك وتعالى- لطيف بعباده، فهو يُسليهم ويُذكرهم بما حصل لهم من النصر العظيم المؤزر في وقعة بدر، حيث كان الكفار في غاية القوة والشدة، وكان المسلمون في غاية الضعف ثم يتحقق هذا النصر مما يدل على أن ثمرة التوكل على الله -تبارك وتعالى- والصبر والتقوى هو النصر والمعونة والتأييد، التقوى والصبر والتوكل هو الذي يحصل به النصر على الأعداء، وهذا الأمر قد وقع شيء مما يُخالفه في وقعة أحد، حيث لم يصبر هؤلاء الرماة في مواطنهم ومواقعهم لما رأوا النصر يتحقق للمسلمين في أول الوقعة وقعة أحد، كذلك أيضًا أولئك الذين هموا بالرجوع من الجيش هؤلاء لم يكن صبرهم تامًا، ولم يكن عندهم من التوكل على الله -تبارك وتعالى- ما كان عند رسول الله ﷺ ومن كان معه ممن لم يرد عليهم هذا الوارد أصلاً.
ثم كذلك في قوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ، حيث افتتحت هذه الآية بهذه اللام المفيدة للقسم، وقد التي تفيد التحقيق لاسيما وقد دخلت على الفعل الماضي، نَصَرَكُمُ، فهذا نصر حقًّا، وهو نصر عظيم، فالله يقول: "والله" كأنه يقول والله؛ لأن هذه اللام تدل على قسم مُقدر محذوف، وقد تفيد التحقيق فهذا تأكيد آخر، القسم يفيد التوكيد، وقد تفيد التوكيد.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون، وهذا أيضًا يؤخذ منه أن التذكير بالنِعم مطلب من المطالب الشرعية ولذلك شواهد كقوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9]، إلى غير ذلك من الشواهد الدالة على هذا المعنى، فهنا يُذكرهم: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ، من أجل استحضار نِعمه، واستحضار هذه النِعم يوجب الشكر والتقوى لله -تبارك وتعالى- فإن أهل العقول والإيمان إنما يُقابلون نِعمه بالشكران، ولا يُقابلونها بالتمرد عليه واستعمال ذلك في معصيته ومحادته ومحادة رُسله -عليهم الصلاة والسلام-.
فالنصر الذي حصل في بدر يوجب لكم التقوى فاتقوا الله؛ لأنه هنا: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ، فهذه الفاء تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي تفيد التعليل أيضًا فاتقوا الله، يعني: فهذا النصر الذي حصل يوجب التقوى، وهكذا يكون شأن المؤمن حينما يُمكن الله له وينصره على عدوه ويكبت ذلك العدو فإن هذا لا يُقابل بالفسوق والمجون والعتو على الله -تبارك وتعالى-، وإنما يُقابل بالخضوع والشكر، النبي ﷺ لما دخل مكة دخلها منتصرًا على عدوه الرئيس الذي امتدت عداوته مدة طويلة متطاولة منذ أن بعث الله نبيه ﷺ إلى السنة الثامنة للهجرة في مدة تزيد على عشرين سنة، ما تركوا شيئًا في الكيد له والصد عن سبيل الله إلا فعلوه، ثم يدخل -عليه الصلاة والسلام- مكة مُطأطًا رأسه ما دخل -وحاشاه- دخول الجبارين فإن الكثيرين لربما يخرج عنهم ويصدر عنهم من التصرفات والأفعال في أوقات وساعات ولحظات النصر وما يعقب ذلك من الأفعال ما يكون خارجًا عن حد التقوى، فيظهر من الأشر والبطر وأنواع البغي والعلو ورؤية النفس والافتخار، وما إلى ذلك من الكِبر والتيه والتعاظم والأوصاف التي لا يحبها الله هذا بعد النصر، فكيف في وقت الحرب، لا شك أن ذلك من باب أولى الاخبات والاستكانة لله ، والتقوى له وترك الذنوب والمعاصي لاسيما المُجاهرة بذلك من أجل استمداد ألطافه ورحماته، ومن أجل استمداد النصر الذي لا يكون إلا لأهل التقوى، فالنصر لا يكون للمُجّان والفُساق، وأهل المعاصي والكبائر والجرائر لاسيما الذي يُجاهرون بها، معصية واحدة في أُحد أدت إلى هزيمة لجيش هم خيار أهل الأرض، ومعهم رسول الله ﷺ، فكيف بمن هم دونهم بمراحل؟! ومع ذلك التقوى تترحل، والمعاصي يُجاهر بها، هذا لا يُرجى معه نصر بحال من الأحوال، أبدًا، لا يمكن.
فهنا الله -تبارك وتعالى- يُذكر عباده بهذه النعمة من أجل تحقيق التقوى، من أجل تحقيق الشكر لله .
كذلك أيضًا هذا النصر الساحق الذي حصل في وقعة بدر كان لاشك مُبهرًا حتى إن النبي ﷺ بعث زيد بن حارثة مولاه إلى المدينة يُبشر بالنصر، فلما سمعه بعض المنافقين وضعفاء الإيمان قالوا: لقد لقي ما أذهله عن عقله، يعني: لقي من الشدة والخوف بقتل أصحابه لقي من البأس ما أذهله، يعني: صار يهذي، يقول: انتصرنا، وقُتل فلان، وُقتل فلان، ويُعدد كبراء المشركين الذين قتلوا ورموا بالقليب، ويُعدد من أُسر من صناديدهم، هذا أمر غير معقول، ويقولون: الرجل أُصيب بعقله، يقول أسامة ابنه أسامة بن زيد يقول: "فتبعت أبي حتى دخل البيت فقلت: يا أبتي! أحقًا ما تقول؟ قال: إي والله"، يعني هذا أمر ما صدقه الناس، كلام خارج عن المقاييس والمعايير المادية لكن النصر من الله، فئة قليلة حفاة ضُعفاء ما خرجوا لحرب كما قال الله : كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُون [الأنفال:6]، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7]، لكنها إرادة الله -تبارك وتعالى-.
فهذا درس كبير لأهل الإيمان، هؤلاء الذين وقع عندهم هذا التردد في يوم أحد لهم عبرة بما جرى في يوم بدر، حتى الذين بقوا بعد رجوع رأس المنافقين بثلث الجيش كان عددهم يقرُب من ضعف أهل بدر فما الفرق؟، يعني: يُفترض أن تكون المعركة لصالحهم فالأرض أرضهم ويعرفونها معرفة تامة، وما قطعوا لذلك شقة بعيدة، وما نالهم كبير تعب، خرجوا من بيوتهم إلى ناحية في المدينة فمؤهلات النصر في أُحد أقوى، ومع ذلك ومع ارتفاع المعنويات بعد النصر الساحق في بدر وقعت هذه الهزيمة بسبب معصية واحدة، هذا درس للأمة بالأخذ بالأسباب المادية المشروعة مع التقوى، التقوى لله -تبارك وتعالى- فهي الأساس، لا يُهمل الإعداد المادي ولكنه ليس كل شيء، في بدر لم يكن هناك ثمة إعداد يُكافأ ما يُقدمون عليه من ذلك اللقاء لهذا العدو التاريخي في ذلك الوقت، ومع ذلك كانت تلك النتائج المُذهلة.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون، فهنا كلما كان الإنسان أعظم تقوى كان ذلك أقرب للشُكر؛ "لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه"، والشكر أن يُقابل نِعم الله بالخضوع والطاعة فيلهج اللسان بشكره وذكره، ويلهج القلب أيضًا باستحضار نِعمه وتتحرك الجوارح بالعمل بطاعته.
أفادتكم النعماء مني ثلاثة | يدي ولساني والفؤاد المحُجبا[1] |
يعني: أن الشُكر يكون على هذه الثلاثة.
فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون، فأعظم الناس شكرًا أعظمهم تقوى، وهذه المقارنة هنا في: وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ، تحقق لهم النصر لكن حينما يكون الافتخار والتعاظم قد يحصل الهزيمة، ففي وقعة حُنين: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِين [التوبة:25]، حيث قالوا: لن نُغلب اليوم من قلة، انظر إلى هذا العدد الكبير في يوم حنين الذين خرجوا مع النبي ﷺ من المدينة عشرة آلاف، ومن خرج معه من أهل مكة هؤلاء يقربون من الألفين يعني مجموع العدد اثنا عشر ألف مقاتل، وهؤلاء كما قال النبي ﷺ: لن نهزم اليوم من قِلة[2].
إذن الخلل في ناحية أخرى، الالتفات إلى النفس، النظر إلى الإمكانات والقدرات التي عنده ونحو ذلك، فهناك أذلة وانتصروا، وفي حُنين كثرة فانهزموا، فهي تقوى الله -تبارك وتعالى-، هي طاعته والاستجابة لله ولرسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقد قال بعض السلف: "الشكر تقوى الله تعالى"[3]، واحتج بهذه الآية، فالمتقي هو الشاكر لنعمة الله، ومن لم يكن متقيًا لم يكن شاكرًا، وقد ذكر هذا البيهقي -رحمه الله- في كتابه: "شُعب الإيمان"[4]، فهذا واجب على العبد فَاتَّقُواْ اللّهَ، هذا أمر والأمر للوجوب، وهذا يدل على أن التقوى من الشكر، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون، بل هي حقيقة الشكر إذا فعل الإنسان ما أمره الله به بقلبه ولسانه وجوارحه، وترك ما نهاه عنه فيكون بذلك شاكرًا.
هذا وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/128).
- أخرجه البزار في مسنده (13/128)، برقم (6518).
- شعب الإيمان (6/309)، برقم (4241).
- شعب الإيمان (6/309)، برقم (4241).