الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
في هذا السياق الذي يتحدث فيه القرآن عن غزوة أُحد قال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون [آل عمران:121-122] كل هذا في بداية المعركة، إلى أن قال الله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون [آل عمران:130] فهذه الآية جاءت في سياق الحديث عن وقعة أُحد، يُخاطب الله -تبارك وتعالى- بها أهل الإيمان، حيث يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا لكن ما علاقة الربا بغزوة أُحد؟ في الحديث عن آيات الصيام قال الله -تبارك وتعالى- في وسطها: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ [البقرة:186] وقلنا هناك في سورة البقرة بأن ذكر الدعاء بين آيات الصيام يدل على أن الدعاء في حال الصوم له مزية، فهو من مواطن أو الأحوال التي يُستجاب الدعاء فيها، كما جاء في الحديث: ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم[1]، وهنا الحديث عن الربا في ثنايا غزوة أحد، فما وجه الصِلة بينه وبين هذه الآيات؟ يمكن أن يُجاب عن هذا السؤال بجوابين قريبين -والله تعالى أعلم-:
الأول: ما جاء في بعض المرويات: أن عمرو بن أقيش، وهو رجل من الأنصار، كان له ربا وأموال يطلبها من بني عمه، فجاءهم، فسأل عنهم، فقيل له: هم في أُحد، والرجل لم يُسلم بعد، فجاء إلى أُحد فلما رأوه، قالوا: إليك عنا يا عمرو، ظنوا أنه جاء يُطالب بالربا، فذكر لهم أنه أسلم، فقاتل معهم[2]، ثم ذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بأن هذا الرجل مات فدخل الجنة، وما صلى لله صلاة[3]، ويقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: ما زلت أبحث عن مناسبة ذكر آية الربا في وسط ذكر قصة أحد، حتى وقفت على هذا الحديث، فكأنها نزلت فيه، فترك الربا، وخرج إلى الجهاد فاستشهد، أو أن ورثته طالبوا بما كان له من الربا، فنهوا عنه بالآية المذكورة"[4]، يعني: بعضهم يذكر أن ذلك سبب النزول، وهذه الرواية حسّن بعض أهل العلم إسنادها، فإذا ثبتت فيمكن أن تكون هذه الآية نزلت في ثنايا الآيات التي تتحدث عن غزوة أحد، بسبب هذا الرجل؛ لما جاء إلى أرض المعركة، وهو يُرابي، والرجل له أموال عند بني عمه من الأنصار، فلما رأوه ظنوا أنه جاء يطلبها، هذا وجه.
الوجه الثاني في الجواب: وهو أن يُقال: بأن هذه الآية تتحدث عن غزوة حدث فيها هزيمة للمسلمين، وكان ذلك بسبب معصية من بعض الرُماة، وليس من جميعهم، حيث خالفوا أمر رسول الله ﷺ لهم بالثبات في مواقعهم على جبل الرُماة، فهنا يذكر لهم أمرًا لا يتفق مع تأييد الله لعباده، ونصره لهم بحال من الأحوال، وهو أكل الربا، فهؤلاء آكلو الربا يستنزلون ألطاف الله، ويرجون تأييده ونصره، فأعلمهم الله بالحرب، فقال: فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] فكيف يُنصرون والله حرب لهم؟ فهذا من أعظم الأسباب الموجبة للخذلان والهزيمة في المعركة، فجاءت هذه الآية يُخاطب الله بها أهل الإيمان، ويُحذرهم وينهاهم من الربا، والربا أصله الزيادة؛ ولذلك يُقال: ربى الزرع، بمعنى: زاد، وأيضًا كما قال الله -تبارك وتعالى-: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [فصلت:39] يعني: ارتفعت بالنبات إذا نزل عليها المطر، فالربا: زيادة مخصوصة بالمال بغير وجه شرعي.
لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً أضعافًا مضاعفة؛ لأنهم كانوا إذا جاء الأجل يقولون له: تقضي أم تُربي؟ فيزيدون عليه، فمع تكرر ذلك يتحول أصل المال الذي هو القرض إلى أضعاف في المطالبة.
وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى؛ من أجل أن يتحقق لكم الفلاح، بنيل المطلوب، والنجاة من المرهوب.
ففي قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا هذا الخطاب باسم الإيمان، يدل على أن أخذ الربا لا يتفق مع الإيمان، والمؤمن يستجيب لربه -تبارك وتعالى-.
وقوله -تبارك وتعالى-: لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا ذكر الأكل على وجه الخصوص؛ وذلك يشمل في الواقع جميع أنواع الانتفاع، أو الإتلاف، ورُبما عُبر بالأكل لأنه أكثر وأعظم وجوه الانتفاع، فأكثر مزاولات الناس في معاملاتهم من أجل الأكل، لكن لو أنه انتفع بهذا المال بالسفر، أو قضى دينًا عليه، أو اشترى مركبًا أو دارًا أو ثوبًا، أو رصف الطريق المؤدي إلى بيته، أو اشترى هدية، أو نحو ذلك، فهذا كله داخل في قوله: لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا والعرب تُعبر بالأكل، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء:10] تقول: فلان يأكل أموال الناس بالحرام أو بالباطل، وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] فيُعبرون بالأكل عن الأخذ لأي وجه، سواء كان للأكل، أو لأي نوع من أنواع الانتفاع، أو الإتلاف، فهنا لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا سواء كان ذلك مأكولاً، أو مشروبًا، أو عمارة، أو غير ذلك.
وهذا النهي لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا الأصل أنه للتحريم، ولا شك أن الربا من أعظم المحرمات، وهو من الموبقات، ومن الكبائر، وهذا أمر لا خفاء فيه، وبنص القرآن جاء تحريمه.
وقوله: لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً هنا مفهوم المخالفة غير معتبر، بمعنى لو أن قائلاً قال: نأخذ الربا بغير الأضعاف المضاعفة، وإنما بنِسب قليلة، اثنين بالمائة، أو ثلاثة بالمائة، ولا نأخذ ذلك أضعافًا مضاعفة، فالذي جاء في الآية: لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً إذًا: المفهوم أن أكل الربا من غير هذه الأضعاف لا إشكال فيه، هكذا قد يفهم بعضهم، لكن هذا الفهم غير صحيح، لماذا؟ لأن مفهوم المخالفة هو حُجة لا شك، لكنه لا يُحتج به في عدد من المواضع، وهي نحو سبعة مواضع، ذكرها الأصوليون، منها: إذا جاء النص على وفاق واقع معين، يعني: يتحدث عن حال وقعت، فجاء الحديث عنها، فهنا لا مفهوم له، وذكرنا أمثلة لذلك كقوله -تبارك وتعالى-: وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33] فهذا لا مفهوم له، ولكن الآية نزلت تتحدث عن واقع معين، وهو أن عبد الله بن أُبي كانت له جاريتان، فأسلمتا، وكان يُكرههما على البغاء، والبغاء هو الزنا بأجرة، فنزلت الآية[5]، لو كانت لا تريد التحصن فإنه لا يجوز أن يُمكنها من الزنا، لكن هنا الآية تتحدث عن واقع معين، وهو في جاريتين أرادتا التحصن، فكان سيدهما يضربهما على ذلك.
وهكذا في قوله: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28] فلو قال قائل: نحن لا نتخذهم من دون المؤمنين نتخذهم أولياء مع المؤمنين، يُقال: لا؛ لأن هذه الآية نزلت في قوم اتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، لكن لا يجوز اتخاذ الكافرين أولياء مطلقًا، سواء مع المؤمنين، أو من دون المؤمنين، فلا مفهوم له.
كذلك قوله -تبارك وتعالى-: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى يعني: أقرب، أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] بمعنى: أن الآية نزلت في حال معينة، وتتحدث عن واقع معين، وهو أن بعض ضعفاء النفوس كان يتعرض للجواري إذا خرجت في وقت المغرب، أو هدأ الناس في الظلام، ونحو ذلك، فربما تعرض لها فغمزها، أو نحو ذلك، فالله أمر المؤمنات الحرائر أن يُدنين عليهن من جلابيبهن، فقال: ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] يُعرف أنها حُرة، فلا يجرئ عليها أحد، ولا يلتبس حالها بالأمة التي قد يتجرأ عليها هؤلاء ضعفاء النفوس.
فلو قال قائل: إن الحجاب شُرع من أجل أن تُعرف، فلا تُؤذى، فإذا كان يجلب لها الأذى، فإن عليها أن تخلع الحجاب؛ لأن هذا خلاف مقصود الشارع؟ كأن يكون هذا الحجاب أو النقاب مثلاً سببًا للأذية والسخرية والتصفيق والتصفير من قِبل السفهاء من الكفار وأعداء الله إذا ذهبت إلى بلادهم أو غير ذلك من أنواع الأذى؟
الجواب: لا، لماذا؟ لأن هذه الآية جاءت تتحدث عن حال وواقع معين، فلا مفهوم لها، فإذا كانت تؤذى بسبب الحجاب، فلا يجوز لها أن تخلعه، بل عليها أن تُحافظ على حجابها، وأن تقر في بيتها، كما أمرها الله ، وأن تصبر على دينها، فهذا لا مفهوم له، وتجد للأسف من يروج لمثل هذا، مع أن هذا مقتضى الصناعة الأصولية.
وقال الله -تبارك وتعالى- في ختم هذه الآية: وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون فلما نهى عن الربا، قال: وَاتَّقُواْ اللّهَ لأنه لا يمكن ترك الربا، وهذه الزيادة التي قد تنجذب إليها النفوس، وتطمح إلى أخذ هذا المال إلا بالتقوى؛ ولهذا قال: وَاتَّقُواْ اللّهَ أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، واجعلوا بينكم وبين هذا الربا وقاية بالإعراض عنه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون أي: من أجل أن يتحقق لكم الفلاح، فتنالوا المطلوب، ويحصل لكم النجاة من المرهوب.
وعرفنا أن (لعل) في القرآن، كما قال بعض أهل العلم للتعليل، في كل المواضع، إلا في قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُون [الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، لكن مثل هذا الاستعمال: وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون يدل على أن تقوى الله -تبارك وتعالى- سبب للفلاح، وكما ذكرنا في القاعدة: "أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه" فيكون للعبد من الفلاح بحسب ما عنده من التقوى، فالذي قد تحقق بالتقوى هذا حري بالفلاح بعد رحمة الله ، وضعيف التقوى الذي يتخوض بحدود الله -تبارك وتعالى- ولا يُبالي، فهذا يكون أبعد عن الفلاح، وهذا الفلاح يكون في الدنيا وفي الآخرة، بتحصيل المطالب في الدنيا، والنجاة من المخاوف، وكذلك أيضًا في الآخرة، فمن رام الفلاح -وكل أحد يطلب الفلاح، ويسعى إليه- فعليه أن يتحقق بالتقوى.
فهذه الآية اشتملت على هذا المعنى العظيم، وهو النهي عن أكل الربا، وكذلك أيضًا الأمر بتقوى الله -تبارك وتعالى-، وأنها سببًا للفلاح، وكثيرًا ما يذكر الله التقوى مع الأمر والنهي؛ وذلك أن التقوى إذا تحققت كانت النفس مهيئة للقبول عن الله ، فيستجيب المؤمن إذا كان متحليًّا بالتقوى، وإذا ضعُفت عنده التقوى لو سمع القرآن من أوله إلى آخره، وسمع جميع نصوص السنة الصحيحة، ولو رأى رسول الله ﷺ يخطب، فإنه لا ينتفع، وكان المنافقون يسمعون رسول الله ﷺ، والوحي ينزل، وإذا خرجوا قالوا: ماذا قال آنفًا؟ و أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [التوبة:124] فلا تُحرك شيئًا في نفوسهم، بينما تجد أهل التقوى أصحاب النبي ﷺ يتأثرون، ويستجيبون، وينقادون، أما أهل النفاق فهم يتفرجون، كما قال الله : وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ -نسأل الله العافية- وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كلام جميل، لكن الحال والصفة كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ [سورة المنافقون:4] يعني: أنهم أشباح بلا أرواح، وجسوم بلا فهوم، فهم أهل بلادة في القلوب، لا ينتفعون، ولا يتعظون، والبليد ما زال العرب يقولون له: لوح كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ فهي لا تقوم بنفسها، أو يُنتفع بها، كسقف، أو نحو ذلك، بل هي مسندة، آفة مسندة، متكئة على غيرها، وتعيش على غيرها، فلا يُنتفع بها، تُضيق المكان من غير طائل، أما أصحاب النبي ﷺ فيسمعون الآيات والمواعظ والذكر، فيُثمر ذلك فيهم إيمانًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [سورة التوبة:124].
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي في أبواب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها برقم (2526) وابن ماجه في كتاب الصيام، باب في الصائم لا ترد دعوته برقم (1752) وقال الشيخ الألباني: "ضعيف، وصح منه شطره الأول، لكن بلفظ المسافر، وفي رواية: الوالد، مكان الإمام".
- أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب فيمن يسلم ويقتل مكانه في سبيل الله -عز وجل- برقم (2537) وحسنه الألباني.
- العجاب في بيان الأسباب (2/753).
- العجاب في بيان الأسباب (2/753).
- أسباب النزول ت الحميدان (ص:327) والصحيح المسند من أسباب النزول (ص:150).