الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما أمر الله -تبارك وتعالى- عباده باجتناب الربا بقوله: لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون [آل عمران:130] ثم أمرهم بتقوى النار التي أُعدت للكافرين، وأمر بطاعته وطاعة رسوله ﷺ التي هي أصل لكل خير، وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون [آل عمران:132] فذكر هذه الأمور التي تحصل بها النجاة، وتتحقق بها السعادة.
بعد ذلك ذكر ما يتعلق بدار السعادة، وأمر بالمسارعة إليها، فقال: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين [آل عمران:133] لما أمر باتقاء النار التي أُعدت للكافرين وهذا من باب التخلية، وتوقي الأسباب التي توجب العذاب، ذكر بعده ما يتصل بالتحلية، كعادة القرآن، فذكر الجنة؛ لأن المقصود في قوله -تبارك وتعالى-: وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين [آل عمران:131] والـمُباعدة عنها، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] فلا بد للعبد من أمرين من الزحزحة عن النار، والنجاة منها، ولكن ذلك وحده لا يكفي، بل لا بد من أمر زائد عليه، وهو رحمة الله -تبارك وتعالى-، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] فالزحزحة عن النار يحصل بها النجاة من المرهوب، ودخول الجنة يحصل بها تحقيق المطلوب ونواله؛ ولهذا في قوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون [آل عمران:130] قلنا: إن الفلاح هو تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، فالنجاة من النار هو أعظم ما يُطلب الخلاص والنجاة منه، ودخول الجنة مع رحمة الله -تبارك وتعالى- من أعظم المطالب.
قال الله -تبارك وتعالى- هنا: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين [آل عمران:133] "سارعوا" أي: بادروا؛ وذلك حث على المُبادرة إلى اغتنام أسباب الجنة، فهذا أمر بالمُبادرة إلى مغفرة من الله -تبارك وتعالى-، والجنة الواسعة التي عرضها السماوات والأرض، أُعدت للمتقين، الذين يمتثلون أمره، ويجتنبون نهيه، ويجعلون بينهم وبين عذاب الله وقاية.
وقوله -تبارك وتعالى-: وَسَارِعُواْ هذا أمر، والأمر للوجوب، فيجب المبادرة والمسارعة في تحصيل ذلك، والعمل بالأسباب التي يدخل بها الجنة بعد رحمة الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه-.
واستدل أيضًا بقوله: وَسَارِعُواْ طائفة من الأصوليين على أن الأمر للفور، يعني من غير تراخي، فقوله: وَسَارِعُواْ يدل على أن الأمر الأصل فيه المُبادرة، بأن يُبادر العبد إلى الامتثال من غير تراخٍ، ومن هنا كان الحج على الأرجح واجبًا على الفور على المستطيع، يعني: لا يؤخر وهو مستطيع من غير عُذر.
وفي قوله: وَسَارِعُواْ أمر بالمسارعة لكن كما ذكرنا من قبل بأن خطاب الشارع إلى توجه إلى المُكلف في أمر غير داخل في مقدوره، فإنه يتوجه إلى سببه، أو إلى أثره، فهنا هل يمكن للإنسان أن يُشمر ويُطلق ساقيه ليُدرك المغفرة والجنة، هل يمكن هذا؟ ولو كان أقوى الناس وأسبق الناس، ولو ركب أسرع المراكب؟ الجواب: لا، وإنما الخطاب يتوجه هنا إلى السبب الذي به تُحصل المغفرة، ويدخل به العبد الجنة من الأعمال الصالحة، والتوبة، والمُبادرة إلى طاعة الله -تبارك وتعالى-، وفعل مراضيه، فهذا الذي يحصل به المسارعة إلى المغفرة، وعرفنا أن المغفرة تعني الستر والوقاية، فإذا قال العبد: "اللهم اغفر لي" فمعنى ذلك أنه يسأل الستر، كالمغفر يستر الرأس ويقيه ضرب السلاح.
وهنا المغفرة نُكرت وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ وهذا التنكير هنا -والله أعلم- يُفيد التعظيم، سارعوا إلى مغفرة عظيمة، يمحو الله بها الذنوب، ويستر بها العيوب، وكذلك نكرت الجنة وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فهي جنة عظيمة.
ولاحظ أنه فصل بين المغفرة والجنة؛ لأن المغفرة من باب زوال المحذور، والوقاية من تبعة الذنب والعقاب، وما إلى ذلك، والجنة هي المطلوب، فإذا حصل النجاة من المرهوب، وتحقق المطلوب الذي هو الجنة، فذلك كمال النجاة والسعادة والفوز الأعظم، والفلاح الأكبر، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فالجنة إيصال الثواب، والمغفرة زوال العقاب، تقول: اللهم اغفر لي، وارحمني" ففرقٌ بين هذا وهذا، ولا بد من حصول الأمرين.
كذلك في قوله -تبارك وتعالى-: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133] كثير من أهل العلم من المفسرين يقولون: "بأنه ذكر العرض ولم يذكر الطول لأن الطول أكثر من العرض عادة، إلا في المربع، فإن طوله كعرضه، فمن عادة العرب أنه يذكرون العرض لبيان السعة، تقول: ثوب عرضه كذا، يعني: لا تسأل عن الطول، بُستان عرضه كذا، يعني لا تسأل عن الطول، فيذكرون العرض عادة؛ ليكون ذلك دالاً على السعة؛ لأن الطول أكثر من العرض، هذه طريقة العرب، والقرآن نزل بلغة العرب، وبمعهودهم في الخطاب، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِين [الشعراء:195] لكن من أهل العلم من قال: بأن الجنة متساوية الطول والعرض، واحتجوا على ذلك بأن النبي ﷺ لما ذكر الفردوس، وأنه أعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن، وهذه الأشياء هي كروية، والجسم الكروي يكون مستويًا من نواحيه جميعًا، فإذا كان عرشه سقف الرحمن، فمعنى ذلك أن طوله كعرضه، هكذا فهم بعض أهل العلم -والله أعلم- ولكن على كل حال مهما يكن فإن ذكر العرض يدل على السعة، فإذا كان عرضها السماوات يعني السماوات السبع، والأرضيين السبع؛ لأنه جمع السماوات والأرض جنس لا تكاد تُذكر إلا مُفردة في مقابل السماوات، التي تُذكر مجموعة غالبًا، فهذا يدل على أنها في غاية السعة أعني الجنة، فإذا كنا نتصور أن الأرض شاسعة وواسعة، فالأرض ليست بشيء بالنسبة للسماء الدنيا، بل بالنسبة للمجموعة الشمسية، أو المجرة، فالأرض ليست بشيء كحبة رمل، فكيف بالسماوات التي هي أوسع من ذلك بكثير، مما لا يمكن أن يتصور، هذا السماء الدنيا فضلاً عن السماوات فوقها؛ لأن الثانية أوسع من السماء الدنيا، والثالثة أوسع من الثانية، وهكذا، وأوسعها السماء السابعة، فهذا لا يمكن أن يُحيط به عقل الإنسان، ولا يمكن أن يتصوره، أو أن يقترب منه فإذا كان النبي ﷺ قال: إن في الجنة لشجرة، يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها[1]، وإذا حسبت هذه المسافة على حساب سير الجواد الموصوف بهذه الصفة: مُضمر وسريع، فكم يقطع في أقل تقدير؟ فإن هذا الحساب ينتج عنه ما يتوقف عنه كثير من الحاسبات العادية، يعني: الرقم لا يمكن أن يُقاس في الأرض، وهذه في ظل شجرة واحدة، إذًا قصور الجنة وأنهارها، كما تبلغ؟! هذا العرض: السماوات والأرض، والنبي ﷺ أخبر: ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة[2] ما بين المصراعين، يعني: ما بين ناحيتي الباب، هذا باب واحد، والجنة لها ثمانية أبواب، وجاء في أحاديث أخرى وصفه بغير ذلك، يعني في المسافة، وقد قال بعض أهل العلم كابن القيم -رحمه الله- بأن هذا الذي يكون بهذا الحساب أربعين سنة لعله الباب الأعظم من أبوابها[3]، وقد قال النبي ﷺ: وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام[4] يعني: الناس يتزاحمون عند الدخول، أربعين سنة تصور هذا الباب، العادة أن العرب يعني في هذه المقاييس في سير الإبل القاصد في اليوم والليلة تقطع أربعين كيلو متر، هذا السير القاصد المعتدل، يعني سير القوافل، هكذا يحسبون؛ ولذلك يحسبون مسافة القصر، ونحو ذلك في السفر بسير الإبل القاصد في يوم وليلة، أو في ليلتين، أو في ثلاث، أو نحو ذلك، فهذا إذا كان في أربعين سنة بهذا الحساب، فكم من آلاف الكيلو مترات مساحة هذا الباب، هذا شيء لا يمكن أن يتصوره العقل، هذا فقط باب واحد، والجنة عرضها السماوات والأرض، وقد تحدثت عن هذا بشيء من التفصيل، في مجلس خاص في الحياة الحقيقية، والكلام عن الجنة والدار الآخرة، وما أشبه ذلك، فهذه الأحاديث تُنبئ عن هذا المعنى، ونحن نتصور الجنة ربما مثل مساحة الأرض، فيها بساتين وأنهار، ونحو ذلك، لا، الأرض هذه كلها بما فيها من الكنوز والجنات والأماكن السياحية التي يذهب إليها الناس والأنهار إلى آخره كلها ما تأتي ولا حبة رمل بالنسبة للجنة، لماذا نقول: ولا حبة رمل؟ لأن الله قال: عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الحديد:21] فإذا كانت السماء الدنيا لا يمكن أن يُقادر سعتها، فكيف بجميع السماوات والأرض، إذًا ما حجم الأرض بالنسبة لهذا كله؟ لا شيء، وأنتم ترون في بعض الصور لأهل الفلك حينما يضعون الأرض بجوار بعض النجوم والكواكب تبدو أمامها كأنها فعلاً حبة رمل، هذا بالنسبة لبعض الكواكب، طيب والسماء؟ هذا أوسع، ولا زالوا يتعرفون ويكتشفون مجرات جديدة في نظرهم، والأمر أوسع من ذلك، فهذه هي الجنة، وهذه هي سعتها، والناس هنا ربما يتزاحمون على شيء من الدنيا، ومن حطامها؟! وربما يبقى الإنسان العُمر حتى يشتري أرضًا بأربعمائة متر، حتى يبني عليها دارًا، وقد لا يُحصلها، وهناك شجرة مائة عام، ومع ذلك نُفرط ونتأخر ونتوانى ونكسل عن طاعة الله، وعن الأسباب الموجبة، أو التي تكون سببًا لدخول الجنة، والنجاة من النار.
ولاحظ هنا في ذِكْر الجنة والمغفرة قال: وَسَارِعُواْ لكن في طلب المعاش، ونحو ذلك هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15] لكن للأسف أن الكثيرين يقلبون هذا الميزان، فيكون المُسارعة للدنيا، انظر إلى الناس وهم يخرجون الساعة السابعة، أو قبلها، أو بعدها، والطُرق مزدحمة، وأحيانًا تبقى في طريق واحد بلا مُبالغة أكثر من ساعة ونصف؛ لكثرة الزِحام، كأنك في الحج، وصلاة الفجر تمشي لا يكاد يوجد في الطرقات أحد، وليس عند الإشارات أحد؛ لماذا هذه المفارقة؟! لأن المسارعة للدنيا، والبُطء في عمل الآخرة، والله المستعان.
ولهذا يقول الشاطبي -رحمه الله-: بأن العبادات الشاقة، ونحو ذلك يتكرر الأمر بها في القرآن كثيرًا، والحث عليها بطُرق مختلفة، فمثلاً الصلاة: حث الشارع عليها، بألوان الطرائق في الحث، وكذلك الإنفاق، والزكاة، ونحو هذا، لكن فيما يتعلق بالأمور التي غُرزت في الإنسان، ورُكبت فيه، وصارت جِبلة، كالأكل، والشرب، والنكاح، يقول: لا تكاد تجد في القرآن الحث عليها، والأمر بها[5]؛ لماذا؟ لأن دواعي الناس متوفرة على طلبها، لا يحتاجون إلى حث من أجل أن يأكلوا، لكن يمكن أن يرد خطاب على سبيل الامتنان عليهم بما رزقهم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا [البقرة:168] هذا على سبيل الامتنان، لكن الحث: كلوا، ولا تتركوا الأكل، ونحو ذلك، لم يأتِ؛ لأنه لا يحتاج الناس إلى الوصية على هذا، وهكذا في النكاح لا يحثهم على النكاح: انكحوا النساء؛ لأن هذا غريزة، ولكن يُحذرهم من الفجور والزنا وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المعارج:29-30] هذا الذي يُخشى منه، فما توفرت فيه دواعي الناس، فإن الشارع لا يُكرره، ولا يحث عليه حثًّا، كما يحث على ما يشق عليهم من العبادات؛ ولهذا من الخطأ في ظني -والله أعلم- أن يتحول الدعاة إلى مُدربين وحاثين للناس، وتعليمهم: كيف يجمعون المال؟ وكيف ينكحون؟ وكيف يتمتعون بالأكل والسياحة واللذات، وما أشبه ذلك، فهذا غير صحيح، الدعاة إلى الله يدلون الناس على الله، وعلى الطريق الموصل إليه، وعلى الجنة، وأما الأكل والأمور هذه، فإن الناس لا يحتاجون إلى من يوصيهم عليها، فدواعيهم متوفرة على تحصيلها.
وأيضًا في قوله: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ دليل على أن الجنة موجودة ومخلوقة الآن، وقد تحدثت عن هذا، في مجلس قريب، ودلائل ذلك معروفة.
كما يدل قوله: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ على اعتناء بالمُعد، ويدل أيضًا على أن المتقين هم أهل الجنة، هذه الآيات، وكما ذكرنا في القاعدة: "الحكم المعلق على وصف، يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه" فبقدر التقوى يُرجى للعبد من رحمة الله، ودخول جنته، وإذا نقص من تقواه خُشي عليه، ومن ثَم فإن العبد يحتاج إلى أن يُراجع نفسه في هذا الوصف، هل هو مُحقق للتقوى أو لا؟ والتقوى معروفة: ألا يجدك حيث نهاك، وألا يفقدك حيث أمرك، وأن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله وقاية، بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار برقم (6553) ومسلم في الجنة وصفة نعيمها باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها برقم (2827–2828).
- أخرجه مسلم كتاب الزهد والرقائق برقم (2967).
- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص:59).
- أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق برقم (2967).
- الموافقات (3/387).