الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما ذكر الله -تبارك وتعالى- المتقين الذين أُعدت لهم الجنة، فقال: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين [آل عمران:133] شرع في بيان أوصاف المتقين، فقال الله -تبارك وتعالى-: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين [آل عمران:134].
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ذكر العفو، وكما ذكرنا في بعض المناسبات بأن العفو يدل على معنى المحو، يقال: عفت الريح الأثر، أي محته، ولم يبق له شيء، فهذا يدل على أن هذا العفو يقتضي ألا يبقى في نفس الإنسان شيء تجاه من أساء إليه.
ثم لاحظ أيضًا أن قوله -تبارك وتعالى-: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ العفو لا يكون عن الإحسان، الإحسان يُقابل بالشكران، ولا يُقابل بالعفو، وإنما الذي يُقابل بالعفو هو الإساءة، وكثير منا يغفل عن ذلك، فإذا أساء إليه مُسيء فأراد أن ينتقم، فإذا ذُكّر قال: هو أساء إليّ، وهو أخطأ في حقي، ولا يمكن أن أعفو عنه، هو لا يستحق العفو، وهو الذي ابتدئ الإساءة، فأين موضع العفو إذًا؟! إذا كان الإنسان يحتج بترك العفو على أن ذاك قد أساء، إذًا يُعفى عمن؟! والنصوص الكثيرة في الكتاب والسنة الدالة على العفو وفضله، وما إلى ذلك، متى يكون إعمالها؟! تُعمل مع من؟ مع المحسنين؟! تُعمل مع المسالمين له، والذين لم يصل إليه منهم إحسان، ولا إساءة؟! إنما يكون إعمالها مع من أساء، فهذا أوانها وموضعها، ولكن الكثيرين يغفلون عن هذا المعنى، وينسى ذلك كله، ويرى أن الانتقام هو السبيل الوحيد أمامه تجاه هذا الإنسان المُسيء، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قدوة في هذا الباب.
وأيضًا هذا العفو مُقيد فيما إذا كان مصلحة، وهو الغالب، لكن أحيانًا قد يكون العفو في غير موضعه، بمعنى أن هذا العفو يكون مُجرئًا لهذا المُسيء على الطغيان، فذلك لمن لا يرعوي، وتكون إساءته بحيث إنه يستحق عليها التأديب والعقوبة؛ ليكف شره وأذاه عن الناس، ففي مثل هذا الموضع إذا كان العفو يدفع الطرف الآخر إلى مزيد من الإساءات والأذى للخلق، ففي هذه الحالة يمكن أن لا يكون العفو في موضعه، والله -تبارك وتعالى- في جميع المواضع، حث على الدفع بالتي هي أحسن، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [المؤمنون:96] وحث عباده على العفو، فالانتقام بالمثل، ورد السيئة بمثلها هذا عدل، والعفو أكمل، وهو من مراتب الفضل وفوقه -كما سيأتي- الإحسان، لكن في موضع واحد، قال الله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُون [الشورى:39] في صفة أهل الإيمان الذين امتدحهم الله -تبارك وتعالى-، وهذا لا يُنافي النصوص الأخرى الكثيرة التي تُثني على العافيين، كهذه الآية، وتحُث على العفو.
إذًا ما موضع قوله: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُون [الشورى:39]؟ يمكن أن يكون موضعه -والله تعالى أعلم- على ما إذا كان العفو يورثه مذلة، فالمؤمن لا يكون ذليلاً، فإذا كان العفو يورثه مذلة ومهانة، فمن الناس من تكون إساءاته من قبيل الإذلال لأهل الإيمان، فمثل هذا لا يصح العفو في حقه، فالمؤمن يكون عزيزًا.
وفي مثل هذه الحال يمكن أن يُطالب المظلوم، ومن أُسيء إليه باستيفاء حقه بالطُرق المشروعة، يترافع إلى المحاكم، ونحو ذلك، ولا يتنازل، فهذا إذا كان يورثه مهانة ومذلة، فالانتصار هو الأكمل، وبعض أهل العلم ذكر في معنى الآية غير هذا، لكن كأن هذا هو الأقرب في محمله، والله تعالى أعلم.
وقوله -تبارك وتعالى-: وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين هذه مرتبة أعلى من العفو، العفو أصله المحو -كما ذكرنا-، فلا يبقى في نفسه شيء، ولا يصل إلى ذاك منه ما يكره، ولا ينتقم لنفسه، لكن الإحسان أعلى من هذا، وهو أن يُحسن إلى من أساء إليه، فهذه مرتبة عالية، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم [فصلت:34] وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم [فصلت:35] فالذي حبس نفسه وصبر فهذا أكمل، والنفس شرود، وتريد الانتقام، والغضب يغلبه، فيحتاج إلى تصبير للنفس، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم [فصلت:35] فيكفي هذا في ترويض النفوس على الإحسان إلى الناس، والإحسان إلى من أساء أيضًا، فهذا يقلب عداوته إلى محبة، وقد ذكر الحافظ ابن كثير والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمهما الله-: بأن العدو من الجن لا تنفع مصانعته، وإنما السبيل إلى الخلاص من شره الاستعاذة منه؛ ولهذا قال: وَإِمَّا يَنـزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَـزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [فصلت:36] فلا خلاص من شياطين الجن إلا بالاستعاذة منهم[1]، وأما شياطين الإنس، فإن الإحسان إليهم يكون مؤثرًا في دفع عداوتهم، بل واستجلاب محبتهم، كما يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: "يقول هذا لطيب أصله، أعني الآدمي تنفع مصانعته، فتتحول هذه العداوة إلى موالاة بسبب الإحسان"[2]، وهذا كثير، وقد ذكرت نماذج من هذا في مجلس خاص بعنوان: أخلاق الكبار، كيف تُرد هذه الإساءات بالإحسان؟ وكيف يتحول هذا المسيء إلى ولي حميم بسبب هذه المُقابلة الحسنة؟ ولو أردنا أن نورد نماذج من هذا لطال المجلس.
ثم إن الإحسان هنا: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ لا يقتصر على الإحسان إلى من أساء، بل الإحسان بعموم أنواعه وصوره؛ لأن الله لم يُقيد ذلك بنوع دون نوع، أو بباب دون آخر، والله يحب المحسنين في العبادة، والإحسان في العبادة: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، فالإحسان مع الله، والإحسان إلى الخلق بالكلمة الطيبة، والمال، والعلم، والرأي والشفاعات، وما إلى ذلك، كل بحسبه لا تحقرنّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلِق[3]، فمن طلاقة الوجه تبسمك في وجه أخيك، فهذا صدقة، وهكذا جميع صور الإحسان الداخلة فيه.
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وهذا كما قلنا في القاعدة: "بأن الحكم المعلق على وصف، يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه" فبقدر ما يكون من تحقيق الإحسان يكون للعبد من محبة الله ، وفي هذا أيضًا إثبات صفة المحبة لله ، فهو يُحب المحسنين، وهو يُحَبْ، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] فإذا علم المؤمن أن الله يُحب من يتصفون بالصفات الكاملة، فذلك يدفعه إلى التخلق بها، والامتثال والتطبيق والعمل، فهذه من آثار العقيدة الصحيحة على أصحابها، وهكذا فإن هذه المذكورات في هذه الآيات من قوله: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين [آل عمران:133-134] من أدلة أهل السنة والجماعة على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين من هم؟ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء إلى آخره، وقد قال النبي ﷺ: الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان[4]، فالصلاة إيمان، والصوم إيمان، والحج إيمان، والصدقة إيمان، والكلمة الطيبة إيمان، وإماطة الأذى عن الطريق إيمان، والإعارة إيمان، والقرض إيمان، وبر الوالدين إيمان، وصلة الأرحام إيمان، كل هذا إيمان، فمن أراد أن يُكمل الإيمان فعليه أن يُكمل شرائع الإسلام المتعلقة بالقلب، أو اللسان، أو الجوارح، وكل ما كنت أكثر تطبيقًا وامتثالاً واستجابة، فإنك تكون أعظم إيمانًا وأكمل؛ ولذلك فالناس يتفاوتون في الإيمان بهذه الاعتبارات التي معها، وعلى رأسها ما يقع في قلب العبد، ويقر به من الإقرار والانقياد والإذعان، والتصديق الانقيادي، وما إلى ذلك، بالإضافة إلى أعمال القلوب التي جنسها أشرف من جنس أعمال الجوارح، كالخوف من الله، والرجاء والتوكل والمحبة والإنابة والرغبة والرهبة، ومراقبة الله -تبارك وتعالى-، والحياء منه، والصبر والشكر والرضا، والتوبة فإن مبدأ التوبة من القلب، وهو الندم على ما فات، ولا تصح توبة بمجرد اللسان، فهذه كلها من الإيمان، فإذا كمّل العبد هذا في قلبه، وفي لسانه، وفي جوارحه، فإنه يكون أكمل إيمانًا من غيره، هؤلاء هم المتقون، والذين يكون الواحد منهم قد حقق التقوى.
أتوقف عند هذا.
وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (9/190).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (9/190).
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء برقم (2626).
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان برقم (9) ومسلم في الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها برقم (35).