الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يقول الله -تبارك وتعالى-: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِين [آل عمران:137].
قَدْ خَلَتْ أي: قد مضت، مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فهذا خطاب للمؤمنين، يأمرهم بالاعتبار والاتعاظ بما جرى لمن قبلهم؛ لما أصيبوا في يوم أُحد، فهو يُسليهم ويُعزيهم، ويُخفف مصابهم، قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ والسُنن المقصود بها الطرائق الإلهية الجارية، التي لا تتبدل ولا تتغير، وسُننه -تبارك وتعالى- في هذا الخلق، قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ قد مضت؛ وذلك ما جرى على الأمم قبلكم من أهل الكفر بالإهلاك، ومن أهل الإيمان بالنصر والتمكين بعد الامتحان والابتلاء، فكانوا يُبتلون ويُمتحنون، وتكون العاقبة لهم.
فهي سُنن جارية في الصراع بين الحق والباطل، فهذه لا يمكن أن تزول، فيبقى الحق وحده، أو يبقى الباطل وحده، بل لا بد من وجود هذا وهذا، وتوجد المدافعة، ويداول الله الأيام بين الناس، كما سيأتي.
فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِين أي: سيروا في الأرض بقلوبكم، وأجسامكم، ناظرين نظر اعتبار، بما حل بأولئك المكذبين، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِين وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُون [الصافات:137-138] فكانوا على طريقهم في أسفارهم يرون مواضع أولئك وديارهم، التي قد خلت من أهلها، وعمها عذاب الله -تبارك وتعالى-، فهذا معنى الآية على سبيل الإيجاز.
ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: الحث على الاتعاظ والاعتبار بما جرى لمن قبلنا، فهذا كتاب مفتوح يقرأه ذو البصائر والعُقلاء، فيتعظون ويعتبرون، وينظرون في عاقبة هؤلاء المكذبين، ويتعرفون ما حل بهم من عذاب الله ونكاله وبأسه الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، فهذا السير يتوصل به إلى ذلك.
وفي هذا الاعتبار أيضًا: إثبات القياس؛ لأن القياس هو نوع من الاعتبار، والقياس أن يُلحق فرعًا بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما، فهنا ينظر فيما حل بأولئك المكذبين، ثم يرجع إلى نفسه، فيزجرها عن فعلهم ومواقعته؛ لئلا ينزل به ما نزل بهم، فسُنة الله لا تتبدل، وسُننه لا تُحابي أحدًا، فذلك الذي يكون فيه الاعتبار والاتعاظ، فيحصل بذلك إثبات ما ذُكر.
وأيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِين فإذا كانت هذه سنته الجارية التي لا تتحول ولا تتبدل في الذين مضوا، فهي كذلك فيمن يأتي بعدهم، فإن المكذبين وأعداء الرُسل، سيضمحلون، ولن يتحقق مرادهم وغايتهم من إطفاء نور الله ، وستكون عاقبتهم إلى خسار، فهذه سنته الجارية، وهذا يحصل به الطمأنينة لأهل الإيمان، فتسكن نفوسهم، ولا يحصل لهم انزعاج بسبب ما يرون عند أهل الباطل من قوة وقدرات وإمكانات، أو ما يرونه عليهم من انتفاشة لباطلهم، فإن ذلك سرعان ما يزول ويضمحل، فالحق هو الذي يبقى، والباطل زاهق، وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81] "زهوقًا" على وزن فعول، أي: كثير الزهوق والذهاب والاضمحلال والزوال، فلا بقاء له، فالحق هو الثابت، فالبقاء للحق، وليس للباطل، مهما تبهرج، وتزين، وحصّل من الأتباع، فإن هؤلاء كالقشة سرعان ما يتلاشون، ويتلاشى باطلهم، وانظروا إلى الأمم المكذبة السابقة، هل ترى لهم من باقية؟! كلهم قد فنوا وزالوا، وزال باطلهم واضمحل، ولكنها سنة الله في الصراع بين الحق والباطل، بقي دين الله ظاهر، بقي الحق ظاهرًا عبر هذه القرون الطويلة الممتدة.
وكما أن هذه الآية تبعث على الطمأنينة لأهل الإيمان ليطمئنوا إلى حقهم، وأنه باقي منصور، وأن هذا الباطل سيتلاشى وينقشع، كذلك فيه نوع تحذير للمؤمنين؛ لئلا يغتروا بالباطل، فينجرفوا معه؛ وذلك ربما اغترارًا به، وبأهله، وبما عندهم من القُدر والإمكانات، ونحو ذلك، فكأنه يقول لهم: هذا سيزول، وسيزول أتباعه، فإياكم أن تغتروا، وأن تكونوا في جمعهم، وحشد الشيطان وحزبه.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِين ترك ذلك لهم، ولم يذكر هذه العاقبة ما هي؟ ولكن الواقع شاهد فيها، وديارهم باقية، وقد قص القرآن أخبارهم في مواضع من كتاب الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه-، فقد كانت عاقبتهم الهلاك.
وأيضًا هذه الغلبة لأهل الحق على أهل الباطل إنما هي بالصبر والتقوى التي أمرهم بها بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ [آل عمران:125] فهذا هو أساس النصر، وهو أعظم مقوماته، الصبر والتقوى لله -تبارك وتعالى-، فيقول: انظروا إلى ما كان فيما مضى من عواقب هؤلاء وهؤلاء.
فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِين وهذا السير المأمور به في الأرض للاعتبار والاتعاظ، لا يكون لكل أحد، والله تعالى أعلم، بمعنى أنه من كان كامل اليقين، كما قيل:
وليس يصح في الأذهان شيء | إذا احتاج النهار إلى دليل[1] |
فمن كان عنده يقين وإيمان، فلا يحتاج إلى أن يذهب ويُسافر، وينظر في ديار المكذبين والمَعذبين، فإنه قد لا يُشرع له السفر إليها، باعتبار أن النبي ﷺ لم يقف حينما أتى على ديار ثمود، بل أسرع -عليه الصلاة والسلام-، ونهى أصحابه أن يدخلوا على هؤلاء المعذبين، حيث قال ﷺ: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم[2]، ولاحظ أنهم ما كانوا يقصدون السفر إليها، لكن في مقفله ﷺ من غزوة تبوك أتوا في طريقهم على ديار ثمود، أرض الحِجر، ولم يقف النبي ﷺ، وبيّن لأصحابه المشروع في مثل هذا، وهو ألا يدخلوا إلا أن يكونوا باكين أو مُتباكين، كراهية أن يُصيبهم ما أصابهم، فالعذاب قد ينزل، وهذه الأرض وهذا الموضع من مظان العذاب؛ ولذلك نهى النبي ﷺ أن يُستقى من آبارهم إلا من بئر الناقة، وأمر بالقدور التي أوقدت، والعجين الذي عُجن من تلك الآبار أن يُجعل علفًا للدواب، وهذا يعني: أن شؤم الكفر يصل إلى مياههم وتُربتهم ونباتهم وبيوتهم، فهذا نسأل الله العافية؛ فلا يُستغرب هذا؛ وانظر إلى الذبيحة وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121] فهذه التي تُذبح، ويُذكر عليها اسم معبود سوى الله -تبارك وتعالى- يسري ذلك إليها، فتكون نجسة، ولا يحل أكلها بحال من الأحوال، فإذا ذُكيت على اسم الله، صارت طاهرة، فهذه الأشياء لا شك أنها تؤثر في الحيوان والنبات والماء والجماد، فكيف ببني آدم وقلوبهم؟!
فالأمر الوارد في القرآن في السير في الأرض، إنما يُرشد إليه من كان عنده نوع شك أو تردد، فيُقال له: اذهب وانظر لترى بعينك، أما من كان ثابت اليقين، فلا حاجة له بذلك؛ ولذلك لا يُشرع السفر إلى أرض ديار المعذبين.
ويُقال: إن علي لما أتى على أرض الخسف ببابل أسرع وتلثم، ويقول بعض الفقهاء: بأن النبي ﷺ حينما أسرع في وادي مُحسر، بين مِنى ومُزدلفة، أن ذلك هو الموضع الذي أُهلك فيه الفيل، لكن هذا لا يثبت أنه موضع إهلاك الفيل، فعلى كل حال هذا هو المشروع، من الذي له أن يُسافر ويذهب ويسير إلى آخره؟ هو الذي عنده شك.
ثم يُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ هذا يدل على أن السفر لغير هدف صحيح، كالنظر والاعتبار، أو التجارة، أو صِلة الرحم، أو نحو ذلك: عبث، يترفع عنه العاقل، فيكون تضييعًا للمال والجهد والوقت من غير طائل، فأحيانًا تكون رغبة جامحة عند الإنسان أن يُسافر، وأحيانًا قد تكون هذه الرغبة أن يُسافر خارج البلاد، ولو كان إلى بلد ليس فيها شيء من جمال المنظر، ولا هواء عليل، بل بلد قد تكون كئيبة، فيذهب لشيء في النفس أننا سافرنا، فهذا لا شك أنه ليس من شأن العاقل أن يفعل ذلك، وإنما تكون أعماله لهدف صحيح، يذهب لتجارة، أو إلى صلة رحم، أو إلى شيء معُتبر.
فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ وأيضًا هذا يدل على أهمية علم التاريخ، وأنه علم، وذكرت كلامًا لابن خلدون وغيره، وحاصل ذلك أن العلماء يقولون: إن الذي ينظر في التاريخ كأنه مُمتد العُمر، يعني: كأنه عاش القرون الماضية، عاش ألف سنة أو عاش عشرة آلاف سنة، أو نحو ذلك؛ لأنه اطلع على ما جرى لهم من خير وشر، ومحبوب ومكروه، وما صدر عنهم مما أوجب لهم ندمًا، أو أوجب لهم سعادة، فإذا نظر الإنسان في التاريخ يكون كأنه قد عاش هذه المدة الطويلة، فاعتبر وانتفع؛ لأن عمر الإنسان قصير، والتجارب التي يمكن أن يمر بها في حياته ليتعظ ويعتبر قليلة مهما كانت، والناس إذا رأوا رجلاً عاش مائة سنة، أو نحو ذلك ربما يشعرون أنهم ظفروا بشيء له شأن، فيسمعون منه، ويسألونه عن أشياء كثيرة، مما جرى ومضى، طيب فكيف بمن نظر في القرون الماضية التي لا تُعد بمائة، ولا بمائتي سنة، ولا بألف سنة، ولا بألفي سنة؟! ولهذا يُقال: العقل نوعان: عقل غريزي، فهذا ما يودعه الله في قلب عبده، ويتفاضل الناس في ذلك، وهناك عقل مُكتسب بالتجارب والخبرات والنظر والمعرفة والاطلاع، وما أشبه ذلك، فهذا مما يكتمل به العقل، فإذا نظر الإنسان في تاريخ الماضيين وما وقع لهم، فيكون ممن حنكته الوقائع والتجارب والأحوال، وهذا أمر لا يخفى، فيتعرف على أسباب نهوض الأمم، وأسباب خراب العمران، والهلاك، وما إلى ذلك.
هذا وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- البيت للمتنبي في شرح ديوان المتنبي للواحدي (ص:249).
- أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب برقم (433) ومسلم في الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم برقم (2980).