الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
في هذا السياق الذي يذكر الله -تبارك وتعالى- فيه وقعة أُحد، وما جرى فيها لرسول الله ﷺ وأصحابه، ذكر لهم في ثنايا هذه الآيات هذه التعزية البليغة في قوله -تبارك وتعالى-: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين [آل عمران:139] وقد مضى الكلام على هذه الآية، وبقي من هذه التعزية قوله -تبارك وتعالى-: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين [آل عمران:140-141].
فقوله -تبارك وتعالى-: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ أي: إن أصابكم جراح أو قتل في وقعة أُحد، فأحزنكم ذلك، وشق عليكم، فقد مس القوم قرح مثله.
و(قد) هنا دخلت على الفعل الماضي، فتفيد التحقيق، كما هو معلوم، فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ يعني: هؤلاء الكفار الذين نالوا منكم، وأديلوا عليكم في هذه الوقعة، قد مسهم قرح مثله، فهم أيضًا نالهم من القتل والجراح والأسر، وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ نُصرفها بين الناس، فتتقلب بهم الأحوال، من نصر إلى هزيمة، ومن هزيمة إلى نصر، ومن غنى إلى فقر، ومن فقر إلى غنى، ومن راحة إلى عناء، ومن عناء إلى راحة، ومن صحة إلى مرض، ومن مرض إلى عافية، وهكذا، فالله يُقلب الأيام ويُصرفها بينهم لما له في ذلك من الحكمة البالغة.
وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وليعلم المقصود به: تحقق العلم والانكشاف الذي يترتب عليه الجزاء؛ لأن الله يعلم ما كان ويكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون؟ لكن المقصود هنا وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ العلم الذي يترتب عليه الجزاء، علم الوقوع؛ لأن الله لا يُحاسبهم بمقتضى علمه السابق، ولكن بعد أن يقع منهم الفعل يكون الجزاء والحساب، فيظهر علمه الأزلي، ويكون ذلك واقعًا، ويحصل التمييز بين المؤمنين والكافرين والمنافقين، وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء فيصطفي رجالاً للشهادة، فيكونون عنده بأعلى المنازل. وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين فيدخل في الظالمين الكفار دخولاً أوليًّا، ويدخل فيه الذين ظلموا أنفسهم بقعودهم عن القتال مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
فيُؤخذ من هذه الآية الكريمة من المعاني والهدايات: رأفة الله -تبارك وتعالى- بعباده المؤمنين، حيث يُعزيهم ويُسليهم، ويُخفف مصابهم بمثل هذه الجُمل والعبارات البليغة، إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ يقول: نالهم مثل ذلك، وأنتم على أجر ورفعة، والعاقبة لكم، وإذا حصل القتل لبعضكم، فهؤلاء يصطفيهم الله شهداء عنده، وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:169-171] فهذا كله يكون لهؤلاء الشهداء، فلهم حياة خاصة عند الله -تبارك وتعالى-، وأرواحهم في جوف طير خُضر، تأوي إلى قناديل معلقة في العرش، تسرح في الجنة وفي أنهارها، وتأوي إلى هذه القناديل.
ونلحظ هنا أنه قال: فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وفي الموضع الآخر الذي سيأتي -إن شاء الله- في هذه السورة قال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا [آل عمران:165] والذي عليه الجمهور أن المقصود (بمثليها) أنكم قتلتم سبعين، وأسرتم سبعين في وقعة بدر، والذي حصل في أُحد أن المشركين قتلوا من أصحاب النبي ﷺ سبعين، ولم يأسروا أحدًا، فكان الذي أصابه المسلمون في بدر على الضعف أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا وهنا فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ فوحّده، فيمكن أن يكون هذا باعتبار تشبيه القرح بالقرح من جهة وقوع النكاية والألم، بصرف النظر عن المقادير، وأنه على الضعف، أو غير ذلك، فهنا يقول لهم: هؤلاء أُصيبوا، فهونوا عليكم، والإنسان بمثل هذا يسلو، كما هو معلوم، فإذا تذكر ما أصاب غيره، وما وقع له خف عليه مصابه، فيُقال: هذا الذي وقع بك، وهذا الذي حل بك، وقع لغيرك، ونحو ذلك، فيخف، وهذا معروف، واشتراك الناس في المصائب العامة يُخففها عليهم، بخلاف من ينفرد في مصيبته وبليته، والخنساء كانت ترثي أخاها صخرًا، وتقول:
ولولا كثرة الباكين حولي | على إخوانهم لقتلت نفسي[1] |
فكانت تتسلى بهذا، بينما في النار لا يحصل ذلك بحال من الأحوال، على كثرة أهل النار فلا يسلو بعضهم ببعض، وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُون [الزخرف:39] فكل واحد يشعر أنه مُنفرد بالعذاب، -نسأل الله العافية- من النار، والنجاة منها، ووالدينا وإخواننا المسلمين.
وهكذا لو تأملنا هذه التسلية في هذه الآية الكريمة، نجد أن ذلك قد تحقق، وتصرف من وجوه متعددة، فذكر الحِكم المترتبة على هذا الذي وقع فهو وإن كان مؤلمًا إلا أن الله -تبارك وتعالى- لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، فمن ذلك: أن هذه الدنيا يُعطى منها الجميع، المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فيداول الأيام بين الناس، فالكفار قد يحصل لهم نصر، وقد يحصل لهم غنى، وقد يحصل لهم عافية، وصحة في الأبدان، ولكن هذا متاع قليل، وهم لا يُدالون دائمًا على أهل الإيمان، فيُنصرون نصرًا مستمرًا، وإنما هو مؤقت، ثم بعد ذلك تكون العاقبة للمؤمنين، ومثل هذا لا يُقاس بمعاييرنا، بسنة أو عشر أو عشرين أو مائة، وإنما ذلك إلى الله وحده، وتأمل التاريخ الطويل، وما جرى فيه، أين فرعون وهامان وقارون؟ وأين العُتاة على الله -تبارك وتعالى- وعلى رسله من قوم نوح وهود وصالح وقوم لوط، ومن جاء بعدهم؟ أين مضوا؟ وهكذا في هذه الأمة أين جيوش الظلام التي غزت المسلمين من الصليبيين والتتر؟ فكل هؤلاء انقشعوا، وهكذا من يأتي سينقشع، والله يداول الأيام بين الناس، أما الآخرة فهي لأهل الإيمان خالصة، والكفار ليس لهم فيها إلا الشقاء والعذاب الأبدي السرمدي، أما الدنيا فهي قصيرة، والنصر فيها لأهل الإيمان بحسب العاقبة، ولكن قد يحصل لهم انكسار وهزيمة في بعض الأوقات، ولكنها لا تستمر، والعاقبة للمؤمنين، والكفار على ما ينالهم من أنواع اللذات، ومن تحصيل الأولاد والأموال، وما إلى ذلك، فإن هذا من جملة ما يُعذبون به، فالله -تبارك وتعالى- يُعذبهم بهذه الأموال والأولاد، وهذا مُشاهد في الحسرات والشقاء الذي يعيشونه، وتمتلأ به نفوسهم المستوحشة، ويشعرون بضيق وكرب وشدة؛ ولذلك تجد حالات الانتحار عندهم إحصاءات كبيرة، إضافة إلى ما يُعانون من الأمراض النفسية، فتجد الجيش ينتصر بحسب المعايير المادية، ويستولون على البلاد، ويعيثون فيها الفساد، ومع ذلك المصحات والأطباء يُصاحبون هذا الجيش، وتجد أن أقوى فرق هذا الجيش تدريبًا يُعانون من الأمراض النفسية والعقلية، وإذا أردوا أن يُدخلوهم معركة يعطوهم من العقاقير، ونحو ذلك، ما يجعل الواحد منهم يُقدم، وربما يلجئون كثيرًا إلى المُسكرات والمُخدرات، من أجل أن ينسى هذه الحال التي يعيشها، فلا تغتر بظاهر مموه، يظن من ينظر إلى هؤلاء أنهم في حال يُغبطون عليها، والواقع أنهم لا يُغبطون، فهم في عذاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة.
فالمقصود -أيها الأحبة- أن الشِدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة يحصل الكشف عن خبايا النفوس، ومخبآت الضمائر، ويتميز الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، ويتميز بذلك أهل الإيمان حقًّا، والمتوكلون على الله -تبارك وتعالى-، فيتمحص الصف، كما سيأتي.
وهكذا أيضًا فإن الله -تبارك وتعالى- قد يمتحن عبده المؤمن؛ ليعلم إيمانه، العلم الذي يترتب عليه الجزاء، وإلا فالله يعلم الخفايا والخبايا، ولا يخفى عليه خافية، كما سبق، فيمتحن الله عبده لينظر كيف يكون مقاله وفِعاله، هل يكون حامدًا؟! وهل يكون صابرًا؟! وهل يكون راضيًا، أو يكون متسخطًا جزعًا معترضًا على قدر الله -تبارك وتعالى-؟ وهذا الامتحان تارة يكون بالمصائب والآلام والمكاره، وتارة يكون بالعطاء الدنيوي، فإن الله -تبارك وتعالى- يُقلب العباد، وَنَبْلُوكُمْ يعني: بهذا وهذا، بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ [الأنبياء:35] فكل ذلك مما يُبتلى به العبد.
كذلك أيضًا قد يبتليه بقُرب المعصية، مما يكون قريب المنال؛ لينكشف حاله وتقواه، ومراقبته لله ، وهذه الدنيا كما يقول الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- في بعض مذكراته وذكرياته: "ارتفاع وانخفاض، وامتلاء وفراغ، فقر بعد غنى، وغنى قد يأتي بعده الفقر، لا العالي يبقى فوق، ولا الواطي تحت، ولا يدوم في الدنيا حال"[2].
وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ فهذه المداولة والتعاقب هو محك، لا يُخطئ، كما قيل، وميزان لا يظلم، فالرخاء كالشدة، وهناك من يصبر في حال الرخاء ويتماسك، وهناك من يطغى، وهناك من يكون في حال الشدة منكسرًا منهارًا، ولكنه في حال الرخاء على حال من الاستقامة، فالله يُقلب الناس كما يُقلبهم في الحر والبرد، ولا بد لهم من ذلك، فالنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء، ولا تستخفها السراء، فهي متجهة إلى الله -تبارك وتعالى- في كل أحوالها، فهذه الدنيا دار قُلب، كثيرة التقلب؛ وذلك -والله أعلم- كما ذكر بعض أهل العلم؛ لئلا يركن إليها الإنسان، هذا من حكمة الله، وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ من أجل أن لا يركن إليها، ولا يتمسك بها، ولا يثق بدنياه، فلو كانت دائمًا في حال راحة ونِعمة؛ لتعلقت القلوب بها، ونُسيت الآخرة، ولو كان فيها الامتحان الدائم والبلاء والألم والشدة؛ لكانت عذابًا لا يُطاق، ولكن الله يجمع لهم بين هذا وهذا، فتارة يُسرون، وتارة يألمون، وتارة يكونون في حال فرح، ويجتمع الأحبة، وتُحلق النفوس، وتارة يكونون في حال من الترح والحُزن، فيجتمع الناس لتعزيتهم، وهناك يجتمعون لتهنئتهم، ولو أن هذه المشاهد قُلبت وسُرعت لرأيت هذا الذي في حسرة وألم ومحنة وبلية بعدها إذا قلبت الصفحة في سرور وفرح وحبور، يزوج ولده، أو يتزوج، أو نحو ذلك، وتجده ضاحكًا باشًا مبتسمًا، وهكذا الذي يرقد على السرير ربما يحصل له من اليأس والبؤس ما الله به عليم، ويظن أن هذا نهاية المطاف، لكن لو قُلبت الصفحة، ورأى نفسه يذهب ويرحل ويُسافر، وما إلى ذلك لخف عنه ما يجد، ولكن الإنسان قصير النظر، قليل العلم، ضعيف العزيمة والقلب والهمة، وهو ضعيف في نفسه، وضعيف في بنائه وجسده، فإذا حصل له المكروه قرب الموت والهلاك وابتأس، فالله -تبارك وتعالى- عليم حكيم، جعل هذه الدنيا بهذه الحال؛ ليبقى الإنسان مرتبطًا بالله ، يلجأ إليه، ولا يتعلق بهذه الدار الفانية، وينسى الآخرة، فإذا حصلت له الغفلة جاء ما يُذكره ويُنبهه، فيرفع يديه ويدعو ويتضرع إلى الله ويقترب؛ ولذلك تسمع من الكثيرين والراشدين: أن البلاء الذي وقع لهم كان نعمة، حيث ذكّرهم وقرّبهم من الله ، وصار لهم من الصِلة بربهم وخالقهم ما لم يكن قبل هذا الابتلاء، يُصرّح الواحد أنه كان في غفلة وشرود، ولكن جاء هذا الابتلاء ليتذكر ويرجع ويرعوي، لكن المُصاب حقيقة هو الذي يُبتلى ولا يشعر ولا يرجع، ولا يُراجع نفسه، ويكون كالبهيمة تنطرح ثم تقوم، وهكذا من غير ارعواء، والله المستعان.
ونكمل الآية -إن شاء الله تعالى- في الغد.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- البيت لها في الكامل في اللغة والأدب (1/16) وشرح ديوان الحماسة (ص:601).
- ذكريات - علي الطنطاوي (1/238).