الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
(154) قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ...} الآية 144
تاريخ النشر: ٢٦ / جمادى الأولى / ١٤٣٨
التحميل: 487
مرات الإستماع: 951

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما عزى الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان بما جرى في وقعة أُحد، هذه التعزية التي عزز فيها نفوسهم، وقوى عزائمهم كان مما قاله الله -تبارك وتعالى-: وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُون [آل عمران:143].

ثم قال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِين [آل عمران:144]، هذه جاءت أيضًا في هذا السياق، وذلك أنه أُشيع أن رسول الله ﷺ قد قُتل يوم أُحد، فثنى ذلك عزائم كثيرين من أصحابه، وترك بعضهم القتال، فالله -تبارك وتعالى- بيّن هذا البيان من أجل أن يثبت أهل الإيمان، وأن يكون اتصالهم بالله -تبارك وتعالى-، وليس ببقاء فرد من البشر مهما علت منزلته، ولو كان الرسول -عليه الصلاة والسلام-.

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ، هو من جنس الرُسل الذين قبله، وهؤلاء مضوا، وانقضوا، أدوا رسالتهم، وما أمرهم الله -تبارك وتعالى- به على أكمل الوجوه وأتمها، ولكن الله لم يجعل لهم الخُلد أَفَإِن مَّاتَ، بانقضاء أجله، أو كان ذلك بالقتل الذي قد يُقدره الله على بعض عباده إذا حصل هذا، أو هذا، هل يكون ذلك داعيًا إلى رجوعكم عن دينكم؟! أن تنقلبوا على أعقابكم وتتركون الحق الذي جاءكم به، والانقلاب على العقِب يُعبر به عن التراجع، والعقِب كما هو معلوم هو مؤخر الرجل أو مؤخر القدم، ويُقال انقلب على عقبيه يعني رجع القهقرى، أو رجع وترك ما هو فيه.

وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا، من يرجع عن دينه، ويترك الحق الذي جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام- فلن يضر الله شيئا، إنما يضر نفسه، وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِين، فهؤلاء من ثبت، وبقي على دينه فإن الله -تبارك وتعالى- يجزيهم أفضل الجزاء.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ، جاء هنا باسمه، وهذا قليل في القرآن فكأن ذلك يُشعر -والله تعالى أعلم- بحسب السياق ألا يكون الارتباط بشخصه -عليه الصلاة والسلام- وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ، وما قال هنا، وما نبي الله، وما رسول الله إلا من جملة الرسل، وإنما قال وَمَا مُحَمَّدٌ فلا يكون الارتباط بذاته، وإنما يكون الارتباط بالحق الذي أرسله الله به.

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ، وهذا يُعطينا درسًا بليغًا ألا يكون ارتباط الأمة بمتبوع، إذا وجد قاموا بما أمرهم الله به، وإذا قُبض تركوا ما هم عليه من الدين الصحيح، فهذا لا يصح بحال من الأحوال؛ لأن الارتباط إنما يكون بالله وحده، هذا تعليم من الله للأمة ألا تكون مرتبطة في نهضتها، وفي قيامها بما أمر الله به بشخص من الأشخاص، لا ترتبط بالأشخاص، وإنما ترتبط بالحي الذي لا يموت؛ لأن الأشخاص يذهبون، وما عدا الأنبياء لا يؤمن عليهم الفتنة.

ولذلك جاء عن ابن مسعود : "من كان مؤتمًا -يعني مقتديًا- فليقتدي بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"[1]، فقد يهرول الناس، ويُبالغون في تعظيم بعض من يُعجبون به، ولكن حينما يرون أنه قد يتحول، يتغير يُبدل فقد يُسقط بأيديهم، وقد تُصيبهم ردود أفعال، ويشكون في الحق الذي هم عليه، لكن الصحيح أن الإنسان يرجوا للمحسنين، ولا يأمن على نفسه، ولا على غيره الفتنة، ويتشبث بالحق الذي جاء به الوحي.

كذلك وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ، هذا لا شك أنه أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض على الإطلاق، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه الجواب الصحيح أعني بعث رسول الله ﷺ، ويذكر أن من استقرأ أحوال العالم تبين له أن الله لم يُنعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إنعامه بإرساله، فهؤلاء الذين ردوا رسالته هم ممن قال الله فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار [إبراهيم:28]، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ[2].

فإذا كان بهذه المثابة، ومع ذلك أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فغيره من باب أولى، وهذا إنكار من الله -تبارك وتعالى- على من ينقلب على عقبيه، سواء كان النبي متوفى، أو كان قد قُتل، ولم يخُص هنا حال القتل، ولم يذُم هؤلاء إذا مات، أو قُتل على الخوف، أو الحُزن أو وقوع شيء من الرُعب في النفوس، وإنما عاب من عاب في أمر معين محدد، وهو الانقلاب على أعقابهم.

هذا هو الذي أنكره الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية، ما عاب عليهم أنهم صاروا في حال لربما من الخوف أو الحزن أو التضعضع، يتخوفون الأعداء، أو نحو ذلك كما قال أنس -رضي الله عنه وأرضاه-: "دخل رسول الله ﷺ المدينة؛ فأنار منها كل شيء -عليه الصلاة والسلام-، ولما قُبض أظلم منها كل شيء"[3].

ووصفوا حال أصحاب النبي لما قُبض رسول الله ﷺ كالغنم الذليلة، في الليلة الشاتية المطيرة، وارتد من حولهم من العرب، فكانوا في حال لا يُحسدون عليها، حتى نهض الصديق الأكبر ، وحارب المتردين، وهذه منقبة له، وتلا هذه الآية: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ[4] فثبت الناس، فبعضهم كان يتشكك، عمر كان يُنكر ويتوعد من يقول إن رسول الله ﷺ قد مات، وأنه سيرجع، حتى تلا أبو بكر هذه الآية، يقول عمر لما سمعها: لم تعُد قدماي تحملاني، يقول: عُقرت[5]، فأدرك أن النبي ﷺ قد قُبض، وقد ذكر هذا المعنى شيخ الإسلام -رحمه الله- في كتابه جامع المسائل.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة: إضافة إلى فضل أبي بكر الاستدلال بذكر النظائر، ويكون ذلك آكد، وأقوى في البيان والإقناع وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ.

فانظروا إلى الرسل، كانت لهم مهمة محددة أدوها ثم بعد ذلك انتقلوا، فهذا -عليه الصلاة والسلام- من جملتهم.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن النبي ﷺ هو خاتم الرسل؛ لأن الله قال: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ، فـ"أل" هذه تفيد العموم، الرُسل جنس الرُسل، لما يبقى رسول، ولو كان المراد غير ذلك؛ لقال قد خلت من قبله رسل، لكن قال: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ يعني: كل الرسل، فهو آخرهم، وخاتمهم -عليه الصلاة والسلام-.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة الرد على من يدعي من الغُلاة، والصوفية، ونحو ذلك أن النبي ﷺ حي في قبره كحياته في الدنيا، فيأتون إليه، ويشكون إليه الحاجات، ويطلبون منه المدد، والإعانة، والنصر، ونحو ذلك، ويشكون إليه ما نزل بهم، وهذا للأسف كثير من يعتقد هذا.

والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُون [الزمر:30]، فحكم له بالموت، ولو كان على قيد الحياة لما حصل التصرف فيما ترك -عليه الصلاة والسلام-، لذلك لا يجوز لأحد أن يأتي قبره، أو من بُعد عن قبره أن يتوجه إليه بالخطاب، ويطلب منه قضاء الحاجات، ونحو ذلك، هذا لا يجوز، وقبل أن يمُنّ الله على هذه البلاد بدعوة التوحيد، وإقرار ذلك في أرض الحجاز، وغيرها كان هناك موضع توضع فيه هذه الرسائل والخطابات والحاجات، ونحو ذلك، فيأتي الحجيج والزوار، ويكتبون الخطابات للنبي ﷺ يطلبون فيها الحاجات.

وقد جاء في رسالة للإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وهي رسالة جديرة بالعناية وقوية ومليئة بمعاني العزة، يخاطب فيها والي العراق من جهة العثمانيين، فيذكر الشركيات التي كانت موجودة، ونحو ذلك، يقول: "ولما فتحنا الحُجرة النبوية وجدنا من الرسائل والمخاطبات من كبرائهم فضلاً عن غيرهم.

وذكر رسالة لسليم الثاني الحاكم العثماني المشهور، وهو من أقوى الحكام والسلاطين العثمانيين، هذه الرسالة يقول فيها في جملة ما يقول: يا رسول الله مسنا الضُر، وغلبنا عُباد الصليب، ونحو ذلك، ويطلب الغوث، والمدد"، فهذه كانت تُكتب، وهذا من الشرك الأكبر، دعاء الأموات، وسؤالهم مما لا يقدر عليه إلا الله.

فللأسف هذه الأمور كانت فاشية منتشرة، ولا زالت في كثير من بلاد المسلمين كما هو معلوم، فالله يقول: أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ، ولذلك كان الصحابة بعد قبضه -عليه الصلاة والسلام- ما كانوا يأتون إلى قبره، ويسألون الحاجات.

وكان -عليه الصلاة والسلام- يستسقي بهم، فلما قُبض قال عمر : " اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"[6] فقدم العباس ليُصلي بهم صلاة الاستسقاء ويدعوا، فهذا لو كان النبي ﷺ حيًّا لتوجه إليه، ولم يتوجه إلى العباس بن عبد المطلب .

كذلك أيضًا في هذه الآية إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يُزعزعهم عن إيمانهم، أو عن بعض لوازمه فَقْدُ مُعظَّمٍ عندهم، وإنما يكون الاستعداد بما أمرهم الله من القيام بشرعه، وإعداد القوة لأعدائهم، والنهوض بشؤونهم فيما تتطلبه هذه الشؤون كما ذكر هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-[7].

يعني: عليهم أن يعملوا ويجدوا ويجتهدوا، فهذا الذي افترضه الله عليهم، ففقد العظيم فيهم لا يكون سببًا للوهن والقعو أو التراجع أو الانكسار أو ترك العمل المُثمر؛ العمل للدنيا، أو العمل للآخرة، فإذا كان هذا في فقد العُظماء المقدمين فمن باب أولى أن الإنسان لا ينكسر، ولا يترك ما هو فيه إذا فقد عزيزًا عليه، من قرابته، وإنما هذه سُنة الحياة.

فإذا كان الله يقول: أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، فمن الخطأ أن يُبالغ الناس في المصائب والأحزان وفقد الأحبة، ونحو ذلك، حتى إن بعضهم سواء كانت زوجة أو كانت بنتًا، أو غير ذلك لربما تترك الزينة مطلقًا، الحياة كلها، حتى في الأعياد ونحو ذلك؛ يُظهرون الحُزن ولا يُظهرون الفرح، وهذا للأسف يوجد، ويعتقدون أنهم بذلك يُحسنون صُنعا، وأنهم يُقدمون بذلك براهين المحبة لهذا الفقيد، وهذا غير صحيح، هذا مضى.

فإظهار الفرح، ونحو ذلك لا يعني أنهم غير مُكترثين به، لكن هذه سنة الله في الخلق، حتى إن بعضهم لربما يترك المناسبات، وحضور المناسبات، أو يترك تزويج موليته، أو نحو ذلك؛ لأن فلانًا من قرابته قد توفي، وقد يكون مضى على هذه الوفاة شهر، أو أكثر، أو شهور، كأنهم يطالبون الناس أن يبقوا في حال حزن مستمر دائم، وهذا كلام غير صحيح.

بل إن البعض لربما عاف الدار التي كان يسكنها، فهو لا يُطيق البقاء فيها، والنظر إلى المواضع التي كان يجلس فيها ذلك الفقيد، فهذا غير صحيح، فهذه سنة الله في هذا الخلق، فيبقى الناس على حال من التماسك والثبات والقيام بما ينفعهم من أمر دينهم ودنياهم، وأما القعود والترك وإظهار الأحزان، ونحو ذلك مما يثني العزم، ويُقعد عن الفضائل والمكارم، وما ينفع ويرفع فهذا ليس من فعل العقلاء، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (20349)، وأبو داود في الزهد، برقم (132)، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (193).
  2. انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، (5/88).
  3. أخرجه الترمذي، كتاب أبواب المناقب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب في فضل النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (3618)، وأحمد في مسنده، برقم (13829)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم (6600).
  4. أخرجه ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه -صلى الله عليه وسلم-، برقم (1627)، وأحمد في مسنده، برقم (25841)، وصححه الألباني في صحيح، وضعيف ابن ماجه، برقم (1627).
  5. انظر: منهاج السنة النبوية، (6/323).
  6. أخرجه البخاري، كتاب أبواب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، برقم (1010).
  7. انظر: تفسير السعدي، (150).

مواد ذات صلة