السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
(162) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا...} الآية – وقوله: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ...} الآيات 149-150
تاريخ النشر: ١٠ / جمادى الآخرة / ١٤٣٨
التحميل: 596
مرات الإستماع: 1142

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِين ۝ بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين [آل عمران:149-150].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ أي: الذين أذعنت قلوبهم، وأقرت وانقادت جوارحهم، إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي: إن تطيعوا الكفار على اختلاف مللهم وطوائفهم من اليهود والنصارى وطوائف المشركين، يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ يعيدونكم إلى الكفر ثانية، ويُضلونكم عن الهدى الذي جاء به الرسول ﷺ، فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِين فترجعوا بالخسران المُحقق والهلاك في الدنيا والآخرة.

بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين [آل عمران:150] أي: أن الله هو ناصركم، وهو وليكم، وليس هؤلاء الكفار، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين فلا يُحتاج مع نصرته إلى أحد.

فهذا الخطاب الذي اُفتتحت به هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ يدل على منزلة الإيمان وفضيلته، وهو أيضًا موطئ لما بعده، فإن المُخاطبة بذلك تقتضي أن هذا الإيمان يمنع من طاعة هؤلاء الكفار ولا يتفق مع إيمانكم، وأيضًا فهذا الخطاب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ خطاب محبب إلى النفوس، فخاطبهم بمثله، ومن ثَم فإن من خاطبه غيره يأمره وينهاه ويعظه ويُذكره، وما إلى ذلك، ينبغي أن يتوخى الخطاب المناسب الذي يحصل معه القبول والاستجابة، فيكون ذلك مدخلاً إلى قلبه، ولا سيما أن الإيمان مقتضٍ للامتثال، فإن الإيمان يعني الاستجابة لله ولرسوله ﷺ ولا بد، فيقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ فانتقل في الخطاب من التوبيخ واللوم والعتاب إلى التحذير، ففي الآيات السابقة ذكر الله -تبارك وتعالى- فيها عزاءً لطيفًا رقيقًا لأهل الإيمان، وكان من ذيول ذلك العزاء أنه ذكرهم بحال من قبلهم وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [آل عمران:146] فما الذي حل بكم، حينما أُشيع أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قد قُتل، فهو مُضمن للتوبيخ، فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين ۝ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين ۝ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين [آل عمران:146-148] بعد ذلك جاء التحذير، وجاء هذا التحذير في موضعه اللائق المناسب بعد الانكسار في أُحد، ويُذكر في بعض كتب التواريخ والسير والتفسير -ولا أعلم أنه يثبت من جهة الإسناد أم لا؟ - ولكنه قد يُذكر من باب الاستئناس: أن بعضهم -وربما من قِبل ضعفاء الإيمان- أشار عليهم في ذلك اليوم لما أُشيع أن النبي ﷺ قد قُتل أن يرجعوا إلى دين آبائهم[1]، فقتْل النبي ﷺ ليس بالأمر السهل، لكن هل هذا يعني الرجوع إلى دين الآباء بعده ﷺ؟! ولذلك لما توفي النبي ﷺ ارتد أكثر العرب، كما هو معلوم، ولم يبق إلا أهل مكة، ثبتهم سهيل بن عمرو العامري ، ومعلوم أنه ممن أُسر في يوم بدر، وكان خطيبًا مفوهًا، فأراد عمر أن يقلع ثنيتيه من أجل ألا يقف خطيبًا في مقام يذم فيه الإسلام والرسول ﷺ، فذكر له النبي ﷺ لعله يقف موقفًا تحمده عليه، فوقف حينما توفي النبي ﷺ بأهل مكة، ووعظهم وذكّرهم بأنهم آخر من دخل في الإسلام، فلا ينبغي أن يكونوا أول من يرجع عنه[2]، فثبت أهل مكة بسبب تذكيره وموعظته -رضي الله عنه وأرضاه-، وهو السفير في صُلح الحديبية، كما هو معلوم، وكذلك أيضًا بقي أهل المدينة على الإيمان، وبعض أهل هذه الناحية من بني عبد القيس، فهؤلاء الذين ثبتوا، وباقي العرب ارتدوا، منهم من تبع مسيلمة، ومنهم من تبع سجاح، ومنهم من تبع الأسود العنسي في اليمن، ومنهم من رجع إلى عبادة الأوثان التي كانوا عليها، إلى غير ذلك من اختلاف أحوالهم، لكن يجمعهم الردة عن الإسلام، فذلك المقام الذي حصل فيه هذا الأمر من الهزيمة، وإشاعة أن النبي ﷺ قد قُتل، وسبحان الله كأنه يُمهد لوفاة رسول الله ﷺ، مع ما بينهما من السنين، فهو موقف هزهم، ولم يكن له حقيقة، فتكشف عن لا شيء، لكن تبيّن فيه ضعف بعض النفوس، وجاء هذا الدرس الذي لقنهم إياه ربنا -تبارك وتعالى-، وهو درس للأمة على مدار التاريخ، ودرس للأجيال أن لا يرتبطوا بالأشخاص.

فهنا يُحذرهم ويقول لهم: ترجعون إلى ماذا؟ أولئك الذين كانوا قبلكم ثبتوا غاية الثبات على ما وقع لهم من القتل لنبيهم على قراءة، أو ما وقع فيهم من القتل الذي قد استحر، ومع ذلك لم يحصل منهم التراجع، فهؤلاء الكفار إن أطعتموهم أعادوكم إلى الضلالة والكفر، فالله -تبارك وتعالى- بهذه الآية يُحذرهم.

ثم أيضًا هذا الخطاب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ يدل على العناية بما سيُذكر بعده، ففيه تنبيه وإيقاظ، فلا بد من شد الانتباه، ومع وصفهم بالإيمان فلا ينبغي لهم طاعة هؤلاء الكفار.

الَّذِينَ كَفَرُواْ فجاء بالاسم الموصول لمزيد من التنفير، ووصفهم بالكفر، يَرُدُّوكُمْ فهذه هي النتيجة، وإِن تُطِيعُواْ شرط، وجوابه يَرُدُّوكُمْ إذًا النتيجة قررها الله -تبارك وتعالى- وبيّنها ووضحها.

وهذا فيه أيضًا التحذير من الخضوع للعدو، والاستجابة له، فهو لا يأمر بخير، ولا يدل على خير، ولا يُشير بخير، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ [النساء:89] وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217] فهؤلاء يسعون لهذا، وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] إذًا: الذي يسعون إليه جاهدين رد المسلمين عن دينهم، وأن يوافقوهم، لكن يوافقوا من؟ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] فاليهود يريدون أن تتبع اليهودية، والنصارى يريدون أن تتبع النصرانية، وإذا اتبعت اليهودية سخط النصارى، وإذا اتبعت النصرانية سخط اليهود، وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ [البقرة:135] فـ(أو) هذه ليست للتخيير، بل هي للتقسيم، لكن هذا من إيجاز الكلام، فاليهود قالوا: كونوا هودًا تهتدوا، والنصارى قالوا: كونوا نصارى تهتدوا؛ لأن اليهود لا يقولون: كونوا نصارى تهتدوا، والنصارى لا يقولون: كونوا يهودًا تهتدوا؛ لأن كل طائفة تُكفر الأخرى وتُعاديها، كما هو معلوم.

فالمقصود أنه هنا في وقت هزيمة وانكسار يُحذرهم من الاستخذاء والضعف والهوان والاستجابة للأعداء، ومُمالأة هؤلاء الأعداء لكف شرهم؛ لأنهم لا يزالون بأهل الإيمان شيئًا فشيئًا، فيستدرجونهم، حتى يوقعونهم في الردة عن دين الله ، والرجوع عن الحق والهدى الذي أكرمهم الله -تبارك وتعالى- به.

ثم قال الله -تبارك وتعالى-: بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين [آل عمران:150] ولاحظ هذا اللطف، فجاء بالتحذير القوي، ثم جاء بعده هذا التولي لأهل الإيمان، بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ أي: بل الله هو ناصركم وليس هؤلاء، فلا ترجو نصرًا من عدوك، ولا ترجو مددًا منه، ولا ترجو قوة وعونًا، وهو لا يفتأ يفعل كل مستطاع، من أجل أن تخضع، وأن تذل، وأن تتراجع.

بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين فهذا فيه شهادة لهم بولاية الله -تبارك وتعالى- لهم، وكذلك أيضًا وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين يمكن أن يُقال: بأن (خير) هذه ليست بمعنى (أفعل) التفضيل؛ لأنه لا مُقارنة بين نصر الله ، وبين نصر غيره إطلاقًا، وما كان من هذا الباب، كما هو العادة يُقال: إن أفعل التفضيل يُراد به مُطلق الاتصاف، آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُون [النمل:59] فلا مقارنة، ولا يمكن ذلك، أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّوم [الصافات:62] فلا مقارنة بين نعيم أهل الجنة ومقيلهم ومقيل أهل النار، نسأل الله العافية.

فهنا وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين فهو الناصر لأهل الإيمان، ولا مُقارب لنصر أحد إلى نصره، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ [آل عمران:160] لا أحد، وإذا استيقن المؤمن هذه المعاني صار ثابتًا، رابط الجأش، عظيم التوكل على الله، كما قال الله -تبارك وتعالى- في صدر سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب:1] حاشاه أن يُطيع الكافرين والمنافقين، ولكن هو خطاب للأمة بشخص رسول الله ﷺ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ۝ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [الأحزاب:1-2] فأمره بأن لا يُطيع هؤلاء، فماذا يصنع؟ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [الأحزاب:2] حسنا لن يتركوه وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب:3] سيستهدفون أهل الإيمان، ويوصلون إليهم أنواع الأذى، ويُجمعون على حربهم، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب:3] فهو الذي يحفظ وينصر ويؤيد، وهو الذي يقوي أهل الإيمان، وهو الذي يخذل أولئك الكفار ويكسرهم، ويدفعهم بما شاء، إن شاء بريح، وإن شاء بخوف؛ ولذلك سيأتي في الآية بعدها: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [آل عمران:151] يعني: يقول: لا تكترث بهم، سأتولاهم، وسيأتي الكلام على هذا -إن شاء الله-، لكن الوقت أوشك، والحديث عن الآية التي بعدها يطول.

فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. التفسير الوسيط للواحدي (1/502) والجامع لأحكام القرآن (4/232).
  2. مرآة الجنان وعبرة اليقظان (1/64) وشذرات الذهب في أخبار من ذهب (1/158) وأسد الغابة ط العلمية (2/585).

مواد ذات صلة