السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(164) تتمة قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ...} الآية 151
تاريخ النشر: ٢٠ / جمادى الآخرة / ١٤٣٨
التحميل: 459
مرات الإستماع: 848

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

كنا نتحدث عن قوله -تبارك وتعالى-: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِين [آل عمران:151] وقد مضى الكلام على صدر هذه الآية، وما تضمنته من الهدايات والفوائد، وكان آخر ذلك هو إثبات العِلل والأسباب؛ وذلك من قوله -تبارك وتعالى-: بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ يعني: بسبب إشراكهم ألقى الله -تبارك وتعالى- في قلوبهم الرُعب، وعرفنا أن الشرك يكون سببًا للرُعب والمخاوف والقلق والعِلل والأوصاب، التي تُصيب النفوس؛ لأن صاحب الشرك لا يعرف ربه، ولا يثق به، ولا يتوكل عليه، ولا يطمئن إلى وعده، فهو في حال من الاضطراب الدائم، يتخوف من المستقبل، ويقلق على رزقه وأجله وولده، من غير موجب للقلق، فكيف إذا نزل به الضُر، فحاله لا يُسأل عنها.

وقوله -تبارك وتعالى-: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا فقال: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] بالغيبة، ثم قال: سَنُلْقِي فجاء بهذا الالتفات من الغائب إلى المتكلم، ومثل هذا -كما ذكرنا مرارًا- أن فيه تنشيط للسامع، بتلوين الخطاب، بالإضافة إلى فوائد أخرى في كل موضع بحسبه، فهذا مقام -والله تعالى أعلم- يستحق العناية، فالله -تبارك وتعالى- يقول: إن هؤلاء الأعداء الذين يخوفونكم ويُهددونكم ويتوعدونكم، وربما استمالوا بعضكم، أو حصل شيء من الانكسار لآخرين، وحصل شيء من الضعف والاستسلام والخنوع والخضوع أمام هؤلاء الأعداء، فقال: سَنُلْقِي وجاء بضمير الجمع سَنُلْقِي للتقوية والتثبيت وللوثوق بنصر الله -تبارك وتعالى-، وتأييده لأهل الإيمان.

وأيضًا قوله: بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ يدل على إثبات إرادة ومشيئة للإنسان، وأنه ليس بمُجبر على فعله.

وقوله: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا يدل على أن الشرك لا أساس له، فلا دليل عليه، ولا بُرهان، وإنما هو محض اختلاق وافتراء على الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه-، فلا يمكن أن يكون للمشرك حجة على إشراكه، وهنا يرد سؤال: بأن الله -تبارك وتعالى- قال: بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا كيف جاء بهذا القيد؟ فالمقصود: ما لم يكن له سلطان أصلاً، فكونه لم يُنزل، فيعني أنه لا حقيقة له، وأنه لا حجة لصاحبه بحال من الأحوال، وبهذا نعلم أن قوله: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا هذه يُقال لها: صفة كاشفة، كما ذكرنا في عدد من المناسبات، والصفة الكاشفة تكون موضحة فقط، يعني: ليست بمقيدة للموصوف، كما تقول: جاء رجل ذكر، فالرجل لا يكون إلا ذكرًا، فهذه صفة كاشفة، لكن حينما تقول: جاء رجل طويل، أو جاء رجل مؤمن، فهذا يُخرج غير المؤمن، وحينما تقول: جاء رجل كريم يُخرج غير الكريم، فهذه صفة مُقيدة تُقيد الموصوف، وتُخرج ما عدا ذلك، لكن حينما تقول: جاء رجل ذكر، جاءت امرأة أنثى، فهنا لم تأت بجديد، وإنما هذه صفة يُقال لها: صفة كاشفة، وكما ذكرنا في قوله تعالى: اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم [الفاتحة:6] على تفسير الصراط بأنه لا يكون صراطًا إلا أن يكون مستقيمًا، فلا يُقال له: صراط إلا إذا كان موصوفًا بالاستقامة والسعة للمارة، فعلى هذا المستقيم تكون صفة كاشفة؛ لأن الصراط لا يكون إلا مستقيمًا، فهنا قوله: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا يكون ذلك من قبيل الوصف الكاشف؛ لأن الشرك ليس له بُرهان، وليس لصاحبه دليل، فلا سلطان لذلك بحال من الأحوال، فيكون ذلك من قبيل الصفة الكاشفة، وعلى هذا تستطيع أن تقيس على هذا سائر المواضع المُشابهة له، كقوله: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61] فلا يمكن أن يُقال: ممكن أن يُقتل الأنبياء بحق؟ فتقيد قتل الأنبياء هنا بغير الحق، صفة كاشفة؛ لأن الأنبياء لا يمكن أن يُقتلوا بحق، لكن لماذا جيء بها؟ جيء بها للتوضيح، ولتحقيق هذا الجُرم العظيم، إلى غير ذلك من الأمور التي ذكرناها في مناسبات سابقة.

وهكذا على قول طائفة من أهل العلم من المفسرين في قوله: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [الأنعام:38] فالطائر لا يطير إلا بجناحيه، وكقوله: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة:79] والكتاب لا يُكتب إلا بالأيدي، وكقوله: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [آل عمران:167] فهذه كلها من قبيل الوصف الكاشف.

كذلك فإن هذا الذي أخبر الله عنه، ووعد به بقوله: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الصيغة تدل على المستقبل، وأن ذلك يكون لجميع الكفار في كل زمان ومكان، فـ(الذين) في قوله: فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ صيغة عموم، والعموم -كما ذكرنا في بعض المناسبات- يتوجه إلى أربعة أمور: عموم الأفراد، وعموم الأحوال، يعني سواء كان ذلك في حال قوتهم، أو في حال ضعفهم، وفي حال امتلاكهم للثروة والسلاح والجيوش والقوة، أو في حال ضعفهم، فالرُعب يُلازمهم، وكذلك عموم الأمكنة، وعموم الأزمنة، أربعة أشياء في كل مكان، وفي كل زمان، وفي كل حال، وفي كل فرد من هؤلاء الكفار، فكل من أشرك فالرُعب هو ما ينتظره، والرُعب المقصود به الخوف الشديد الذي يملأ قلب صاحبه، وإذا امتلأ القلب به لا يكون للإنسان قُدرة على التركيز، ويكون في حال من التشتت، ويكون مُهيئًا للهزيمة، وهذا الوعيد لهم يتضمن الوعد لأهل الإيمان، فإن الله حين يُلقي في قلوب هؤلاء الكفار الرُعب، فذلك نصر من الله لأهل الإيمان، ينصرهم بإلقاء الرُعب في قلوب الكفار؛ ولهذا قال النبي ﷺ: نُصرت بالرُعب مسيرة شهر[1]، يعني: إذا كان العدو على مسيرة شهر فهو في حال من الرُعب والخوف والاضطراب.

وقوله هنا: سَنُلْقِي بنون الجمع مع قوله في سورة الأنفال: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ [الأنفال:12] بالمُفرد، فيقول: هناك ذكر الطاهر بن عاشور في كتابه (التحرير والتنوير): أن الإفراد يُناسب السياق هناك في سورة الأنفال؛ لأنه قال: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ [الأنفال:12] فلو قال: سُنلقي في قلوب، قد يتوهم أن الذي يُلقي هو الله والملائكة[2]، يعني المجموع، والواقع أن الملائكة لا يفعلون ذلك، إلا بأمر الله ، فهم عباد مُسخرون؛ ولهذا قال عن نزول الملائكة: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى [آل عمران:126] فقط، مع أن الله قد يُكلفهم بتكاليف منها: إلقاء الرُعب، كما جاء أنه لما فرغ النبي ﷺ من الخندق أتاه جبريل، وهو يغتسل -عليه الصلاة والسلام- فسأله: وضعتم السلاح، وأخبره أن الملائكة لم تضع أسلحتها، وأخبره بأنه سيتقدمهم إلى قُريظة، الذين نقضوا العهد، ومالؤوا الأحزاب، قال: فإني مُزلزل بهم[3]، فقال النبي ﷺ لأصحابه: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة[4].

والمقصود أن جبريل قال: فإني مُزلزل بهم وهكذا أخبر الله بما حصل لهؤلاء من بني النضير بقوله: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار [الحشر:2] أي: يا أصحاب البصائر، يعني: هذه القلاع والحصون يُقال: إنها خمسة حصون كانت في غاية المناعة، وأيضًا كانت في أرض يصعب السير عليها، حرة، فهي حصينة جدًّا، وكذلك كان عندهم من السلاح والمال، وفي داخل هذه الحصون من الآبار والأقوات ما يستطيعون الامتناع معه مدة طويلة، ومع ذلك فإن النبي ﷺ حينما حاصرهم تهافتوا وسقطوا، فأضاف الله ذلك إلى نفسه، هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا يعني: أن المسلمين كانوا يتصورون هؤلاء لا يمكن الوصول إليهم، وهم أيضًا كانوا واثقين بأنفسهم؛ ولذلك قدم الضمير المتعلق بهم وَظَنُّوا أَنَّهُم لشدة وثوقهم بأنفسهم، ثم جاء بما يتعلق بالمنعة والامتناع بهذه الحصون، مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا من حيث لم يتوقعوا، ولم يخطر لهم في بال، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فصارت هذه القوة والإمكانات والأموال التي أنفقوها على هذه الحصون، هم الذين يقومون بنثلها وتخريبها، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ فهذا أمر الله، وهذه قوته -تبارك وتعالى-، فوعد بإلقاء الرُعب في قلوب الكفار، والعِلة هي الشرك، متى وجد الشِرك فهذا يعني وجود الرُعب، وبرهان ذلك المصحات النفسية التي في بلادهم، ومن جلس مع هؤلاء، واستمع إليهم، وخالطهم، عرف ما يعيشون فيه من القلق الدائم، فهم قلقون، ويلجئون إلى المسكرات كثيرًا، من أجل أن ينسوا عالمهم وواقعهم، مع أن سُبل الحياة والعيش مُذللة لهم.

إذًا -أيها الأحبة- الشرك هو سبب هذه البلايا والرزايا، وسبب الضيق والخوف والقلق والأمراض والعِلل والأوصاب النفسية، وهو سبب لكل شر في الدنيا والآخرة، فسبب الشقاء هو الشرك وما تفرع عنه.

ثم قال: وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِين (بئس) هذه تُستعمل للذم، كما هو معلوم، لكن لاحظ هنا لم يقل: (وبئس مثواهم) وإنما قال: وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِين فجاء بهذا الوصف، وأظهره، وكان بالإمكان الاستغناء عنه بالضمير، فهذا فيه تغليظ وإشعار بأن هذا الوصف الذي هو الظلم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم [لقمان:13] هو الموجب لدخول النار، وجعل هذه النار هي مثوى لهؤلاء الكفار؛ وذلك أنهم وضعوا العبادة في غير من خلق.

ثم حُذف المخصوص بالذم وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِين ماذا؟ النار، فهو محذوف مقدر، معلوم من السياق، وهنا حينما يُقال: بأنها مثواهم هذا يُشعر بالبقاء الأبدي السرمدي، الذي جاء مُصرحًا به في الآيات الأخرى كقوله: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء:169] فإن المثوى هو مكان الإقامة المُنبئة عن المُكث والاستقرار والدوام، بخلاف المأوى، فهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان، لكن المثوى الاستقرار الدائم.

هذا، وأسأل الله أن يُعيذنا وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين من النار.

وأن يجعلنا وإياكم من المتقين الأبرار، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وأن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحُسن عبادته، وأن يرحم موتانا، ويشف مرضانا، ويُعاف مبتلانا، وأن يجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب التيمم رقم (335) ومسلم في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم (521).
  2. التحرير والتنوير (9/282).
  3. زاد المسير في علم التفسير (3/458) وتفسير القرطبي (14/138).
  4. أخرجه البخاري في أبواب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماء برقم (946) ومسلم في الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو... برقم (1770).

مواد ذات صلة