الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لم يزل الحديث متصلاً عن قوله -تبارك وتعالى-: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِين [آل عمران:152].
وقلنا: إن هذه الآية جاءت في سياق الحديث عن أُحد، وما جرى لأهل الإيمان من هزيمة وجراح وقتل، فالله -تبارك وتعالى- عزاهم في الآيات السابقة، وبيّن لهم مصابهم من أين جاء؟
ففي هذه الآية يذكر الله -تبارك وتعالى- صدق وعده لأهل الإيمان في أول المعركة، حيث كان النصر حليفهم، فكانوا يحسُون الكفار، ويقتلونهم قتلاً ذريعًا، ثم بعد ذلك صرفهم الله -تبارك وتعالى- عنهم، بعد أن تنازعوا واختلفوا وعصوا؛ مما أدى إلى الفشل.
فقال الله تعالى: مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ فهذه الإرادة هي التي ينبني عليها سلوك الإنسان، فهذا الذي يُريد الآخرة يكون حاله على الطاعة والانقياد، ويكون في حال من الجد والاجتهاد في طلب مرضاة الله -تبارك وتعالى-، ولا يلتفت إلى مطلوب آخر.
وأما من كان يريد الدنيا، فهذا قد تقع منه المخالفة، وقد يتبع هواه، ويكون في حال دون الأول.
مِنكُم مَّن يُرِيدُ وهذا خطاب لأصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، في وقت مبكر، وهو في وقعة أُحد، يعني كان ذلك في أوائل الهجرة، فكانت إرادة الدنيا موجودة في بعضهم، حتى قال بعضهم متعجبًا من ذلك: إنهم ما كانوا يظنون أن فيهم من يريد الدنيا، حتى نزلت هذه الآية، فهذا هو سبب ما وقع من المعصية والتنازع.
مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ فهذا كأنه تعليل لما سبق، وهذا يدل على شأن الإرادة التي يكون مبعثها القلب، فالقلب هو مبعث الإرادات والنيات والمقاصد والمحبة والكراهية، وما أشبه ذلك، فإذا كان القلب صحيحًا سالمًا من الآفات ومن حب الدنيا، كانت أعمال الإنسان على حال من الاستقامة، وإذا كان في القلب التفات إلى شيء من تلك المطالب الدنية، وقع منه المخالفة بحسب ذلك؛ ولذلك يتفاوت الناس -كما نُشاهد- تفاوتًا كبيرًا، فمنا من يكون على حال من الإذعان والخضوع والإخبات، ومنا من يكون على غير ذلك، وأيضًا كان ذلك كما ذكر الله : وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ [آل عمران:154] فلما حصل مثل هذا الابتلاء ظهر ما في النفوس مما تنطوي عليه، مما لا يظهر إلا بحال الابتلاء، فإن النفوس تكون في حال الدعة والأمن والراحة، ونحو ذلك على شيء من الاستكانة غالبًا، ثم إذا حصل الابتلاء حصل التمحيص.
ثم أيضًا إذا كان في أصحاب رسول الله ﷺ في ذلك الوقت المُبكر مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا مع ما لهم من السابقة، فهؤلاء لا شك أنهم سبقوا إلى الدخول في الإسلام، وبذلوا وجاهدوا -رضي الله عنهم وأرضاهم-، ومع ذلك كان فيهم من يريد الدنيا، فذلك في غيرهم لا شك أنه أوفر وأكثر.
وكما ذكرنا أن إرادة الدنيا لا يلزم أن تكون إرادة المال، فهناك أشياء يُبذل المال من أجل تحصيلها: كالشرف، والرئاسة، والصدارة، والتقديم، والتعظيم، والشُهرة، وما شابه ذلك، فهذه تُبذل الأموال من أجل تحصيلها، والوصول إليها، كما هو مشاهد، فإرادة الدنيا قد تكون إرادة للقيادة والرئاسة والزعامة، وقد تكون إرادة للشهرة أو المدح والثناء والإطراء، وكل ذلك من أسباب الخذلان والهزيمة والانتكاسة والتراجع، سواء كان ذلك في ميدان الحرب، وهو أبلغ، أو كان ذلك في ميدان الجهاد الآخر، وهو الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، فيضعف أثر الكلمة والعلم والتعليم، ويخفت وهجه، فتكون تلك الجهود التي تُبذل ضعيفة الأثر، وقد تكون معدومة الأثر، إذا كان المراد الدنيا، وقد يكون هذا على مستوى الأفراد، وقد يكون على مستوى المجموع الذي يقوم بعمل من الأعمال، فالأفراد كالذي يكتب تغريدة، أو يكتب في مدونة، أو غير ذلك، أو يظهر في لقاء إعلامي، أو يصعد ويرتقي منبرًا، فإذا كان مريدًا للدنيا، فإن تلك الكلمات والكتابات والمزاولات تكون عديمة الأثر، ولو كان الكلام مصفوفًا منمقًا بليغًا، فإنه لا أثر له.
فالنيات -أيها الأحبة- والإرادات عليها مدار القبول عند الله -تبارك وتعالى-، الذي يورث القبول عند الخلق، وكما قال ابن الجوزي -رحمه الله- في عبارة ذكرتها في بعض المناسبات في كتابه (اللُطف في الوعظ): "إذا لم تُخلص فلا تتعب، لو قطعت سائر المنازل -يعني في الحج- لم تكن حاجًّا إلا ببلوغ الموقف"[1]، يعني: الحج عرفة، فكذلك الإخلاص في الأعمال، "العمل صورة، والإخلاص روح"[2]، فهذا كلام صحيح، يحتاج المؤمن أن يستحضره دائمًا، فمهما كان يسعى ويبذل ويجتهد في تحصيل الشهرة والرئاسة، فإنه لا شك لن يكون له قبول ولا أثر؛ لأن نيته فاسدة، وليست القضية أن يُعرف الإنسان في الإعلام، وأن يشتهر بين الناس، وأن يتحدث الناس عن كتاباته، فهؤلاء العلماء الذين كانوا في القرون السابقة اعتبروا بهم، الأئمة الأعلام الكِبار الذين ذكرهم يملأ الدنيا لم يكن عندهم قنوات ولا وسائل التواصل الاجتماعي هذه، ولم يكن عندهم حتى مُكبر الصوت، ولم يكن عندهم مطابع، ولم يكن عندهم معارض يوقعون على مؤلفاتهم لمن يشتريها ويقتنيها، ما كان عندهم شيء من هذا إطلاقًا، وملؤوا الدنيا علمًا وشهرة، ولم يسعوا إليها.
وكذلك يوجد في المعاصرين من هو أبعد ما يكون عن هذه الوسائل، ومع ذلك ذكره على كل لسان، سواء كان من الأحياء، أو كان ممن قضوا ومضوا في العصر الحديث، فحتى العلماء الكبار في هذا العصر الذين كانوا في القرن الماضي فقد أدركوا بعض وسائل الإعلام، ومع ذلك ما كانوا يتهافتون على الشهرة، كالشيخ أحمد شاكر، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وأمثال هؤلاء الكبار، من الذي لا يعرفهم؟! بل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- كان يرفض أن تُسجل دروسه، وكانوا يتوسلون إليه، ويطلبون من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- أن يُكلمه عله يقبل أن تُسجل، وهو آية من آيات الله في العلم والحفظ والاستحضار.
فأقول: لا داعي لهذا الجري خلف الشهرة، والإغراب على الناس، وإظهار التصريحات، أو الفتاوى الغريبة، أو غير ذلك؛ ليتحدث عنها، ويعتلج هذه الشبكة بما فيها، وما حوت بالحديث عن غرائبه وشوارده، وما إلى ذلك، لا حاجة لمثل هذا، ولا حاجة لتوقيع كتاب أمام الجماهير، ولا حاجة للأضواء، إذا قبل الله العبد جعل له القبول في الأرض، وليس المطلوب أصلاً أن يكون للإنسان عند الناس شأن، القضية هل له قبول عند ربه أو لا؟
فما فائدة أن يذهب الإنسان ويجيء والله يمقته، ويمقت عمله، فهذا هو الخسارة الحقيقية، إنما أذكر هذا عِظة لنفسي وعِظة لإخواني؛ لأن هذه الوسائل فتنة، وصار الكل ينطلق، والكل يتجارى معها، ويبحث عن كثرة الأتباع أو المتابعين، إلا من رحم الله -تبارك وتعالى-.
مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا هذا يُقال في صفوف الدعاة، ويُقال في صفوف أهل العلم والمنتسبين إليه، مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ فما يقع من الخلاف المذموم، وهذا التدابر والتقاطع، إنما ذلك لهذا السبب في الأصل، مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا فلو كانت النيات صادقة وخالصة، لانتفى كثير من الشر الذي نشاهده اليوم، وقد أخبرنا النبي ﷺ عن فتن آخر الزمان: بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا[3]، نسأل الله العافية.
وقوله: مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ هذا كأنه تفصيل لما أُجمل في قوله: وَتَنَازَعْتُمْ على أي شيء كان هذا التنازع؟ وما مبناه؟ وما منشأه؟ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ، وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ على أي شيء كان ذلك؟ وهذه المعصية وقعت على ماذا؟ الجواب: لوجود من يريد الدنيا، فتركوا مقامهم على جبل الرُماة، وانطلقوا يجمعون الغنائم، فهذا درس لأهل الإيمان في كل زمان.
وكذلك أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ هذا يجعل المؤمن دائمًا يحذر، ولا يأمن على نفسه بحال من الأحوال؛ لأنه لا شك دونهم بمراحل، فمن الذي يأمن على نفسه، ويثق بقصده ونيته، ويقول: أنا لا أريد الدنيا؟!
وكذلك فإن قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ مع قوله: لِكَيْلَا [آل عمران:153] وقوله: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ [آل عمران:154] هذا كله للتعليل، واللام هذه لِيَبْتَلِيَكُمْ لِكَيْلَا [آل عمران:153] وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ [آل عمران:154] تدل على التعليل، فهذا يدل على إثبات الحكمة والتعليل في أفعال الله -تبارك وتعالى-، فعل ذلك ليبتلي وليختبر وليُمحص، فهذا من اعتقاد أهل السنة والجماعة، والله لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، ومن أسمائه الحكيم، وهو متضمن لهذه الصفة، وهذا التعليل كثير في القرآن، في آيات الأحكام وفي غيرها.
ثم تأمل هذا التعقيب البديع لما ذُكر، وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ جاء باللام، وجاء بـ(قد) الداخلة على الفعل الماضي وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ليدل على التحقيق، فهذا العفو حينما ذكره الله بعد ما سبق إرادة الدنيا لدى بعضهم، والمعصية والفشل والتنازع، قال: وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ فهذا فيه تطمين لنفوس أهل الإيمان، ويدل على رحمة الله بهم مع ما وقع، فالله -تبارك وتعالى- عفى عنهم، والعفو يتضمن المحو؛ ولذلك ليس لأحد أن يقدح بأصحاب رسول الله ﷺ بمثل هذا، فالله بعد أن عاتبهم، أخبر أنه قد عفى عنهم، وهذا من تلطفه بهم.
فهنا ذكر العفو بعد المعاتبة في حق الصحابة ، وأبلغ منه ما قاله الله تعالى في حق رسول الله ﷺ، حيث قدم العفو على المعاتبة، عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43] وذلك في سورة براءة، حين أذن للمنافقين في التخلف عن غزوة تبوك.
وكذلك أيضًا في ذكر العفو عنهم دلالة على صدق إيمانهم؛ لأن الله -تبارك وتعالى- إنما يعفو عن أهل الإيمان.
وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِين ومن فضله -تبارك وتعالى- عليهم: أن لا يُقدر على أهل الإيمان إلا ما كان فيه الخير لهم، فما يقع من الشدائد والمكاره يكون خيرًا لهم، ويكون فيه التكفير لذنوبهم وخطاياهم، ويكون فيه التمحيص للنفوس، ويحصل لهم بسبب ذلك من التربية الإيمانية، ورفع الدرجات -على الراجح- بسبب الابتلاء.
وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِين فهذا كالتأكيد لما ذكر قبله من قوله: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152] فعفوه -تبارك وتعالى- من فضله عليهم، وكذلك فإن ذكر الفضل هنا مُنكرًا وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ يدل على التعظيم، فهو ذو فضل عظيم.
ولم يقل: (والله ذو فضل عليهم أو عليكم) وإنما قال: عَلَى الْمُؤْمِنِين فأظهره في موضع الإضمار؛ وذلك يدل على التشريف والتكريم، والشهادة لهم بالإيمان، ويدل أيضًا على أن الإيمان هو موضع التشريف، أو هو سبب التشريف والتكريم.
ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِين يعني: لإيمانهم؛ وذلك يكون لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ويكون لغيرهم في كل زمان ومكان، فالإيمان هو سبب الجزاء الحسن، والألطاف الربانية التي تنزل بالعباد، وتحصل لهم، وكل ذلك يدل على مكانة أصحاب رسول الله ﷺ، حيث أخبر بالعفو عنهم، وشهد لهم بالإيمان، بخلاف المنافقين.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُعاملنا وإياكم بعفوه وفضله، وأن يرحمنا برحمته، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وأن يُعيينا على ذكره وشكره وحُسن عبادته.
اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- اللطف في الوعظ (ص:27).
- اللطف في الوعظ (ص:27).
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن برقم (118).