الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
في هذا السياق تتحدث الآيات عما جرى في وقعة أُحد، حيث جاءت هذه التعزية لأهل الإيمان، وجاء أيضًا المُعاتبة على صنيعهم في ذلك اليوم، من المعصية والاختلاف والتنازع، الذي أورثهم الضعف والوهن والفشل، وذكر الله -تبارك وتعالى- أيضًا سبب ذلك، وهو إرادة الدنيا، فقال: مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثم وصف حالهم في الوقعة، حيث انهزموا، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون [آل عمران:153].
فقوله: إِذْ تُصْعِدُونَ أي: اذكروا ما كان من حالكم في الوقعة، حيث أخذتم تُصعدون في الجبل فارين من أعدائكم، وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ أي: لا تعرجون على شيء، ولا تلتفون لأحد؛ لما أنتم فيه من الذهول والخوف، والنبي ﷺ ثابت في ميدان المعركة، يدعوكم في أُخراكم، فهم أداروا ظهروهم، وانطلقوا منهزمين، والنبي ﷺ صار هو الآخر؛ لأنه ﷺ لم يفر، فكان موقفه وموضعه في هذه الحال في أُخراكم، يعني: أنه يُناديهم من خلفهم، فيقول: إليّ عباد الله، وهم لا يلوون على شيء، فَأَثَابَكُمْ غُمًّا بِغَمٍّ أي: جازاكم الله -تبارك وتعالى- أن أنزل بكم غمًّا وضيقًا، لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ من نصر وغنيمة، ولا ما أصابكم من القتل والجراح والهزيمة، والله خبير بجميع أعمالكم، لا يخفى عليه منها شيء.
فقوله: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ يدل على ضعف الدواعي البشرية، يعني: هذا أكمل وأفضل جيل، ومعهم النبي ﷺ أفضل الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ومع ذلك ولوا مُدبرين لا يلوون على أحد، والنبي ﷺ في الآخر يدعوهم: إليّ عباد الله، وقد يتبادر الواحد منا لأول وهلة أنه لو كان موجودًا لصار ثابتًا، ولكان يضرب بالسيف بين يدي رسول الله ﷺ يذب عنه الأعداء، لكن حينما يتذكر أن هؤلاء أفضل منه بمراحل، وأنه لا مُقارنة بيننا وبينهم في الإيمان والصبر والثبات، ومحبة الله ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومع ذلك يقول عنهم: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وقد جرى مثل ذلك في وقعة حُنين، حيث قال الله تعالى: ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِين [التوبة:25] حتى مع كثرة ذلك العدد، حيث بلغوا ما يقرُب من اثني عشر ألفًا، ومع ذلك انهزموا، ولم يبق مع النبي ﷺ إلا نحو عشرة، أو دونهم بقليل، وهم الذين ثبتوا مع رسول الله ﷺ، والباقي انهزموا، وفيهم أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وهؤلاء خيار الصحابة، وهؤلاء الذين انهزموا في أُحد فيهم من أهل بدر، فهذا يدل على أن الإنسان مهما بلغ في اليقين والإيمان، ونحو ذلك، إلا أنه قد تغلب الدواعي البشرية، ويحصل منه الضعف والهزيمة، وإلا فالمتبادر أن هؤلاء يريدون الجنة، وما عند الله ، فيتهافتون على الموت، ولكن ليس الخبر كالمعاينة، وفي وقعة الخندق أصاب الناس خوف شديد، مع برد وجوع، فكان النبي ﷺ في عسكره يقول: من يأتيني بخبر المشركين؟ في البداية ضمن له العودة، ولم يقم أحد، وفيهم أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-، والمتبادر بالنسبة إلينا أن النبي ﷺ لو قال هذا لتسابقنا، ولكن هيهات، إذا أراد الإنسان أن يعرف مقامه الحقيقي يُقارن نفسه بهؤلاء الكبار، فلم يقم أحد، فقال: ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فقال حذيفة: فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فقال حذيفة: فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فقال حذيفة: فسكتنا فلم يجبه منا أحد، وفيهم أبو بكر وعمر، بينما لو كان الواحد منا ينظر إلى نفسه سيقول: لأذهبن ولو حبوًا، ولو كنت في غاية الضعف والعجز والمرض والوهن؛ لأنه رفيق النبي ﷺ في الجنة، إلى أن قال النبي ﷺ: قم يا حذيفة، فأتنا بخبر القوم قال: فلم أجد بدًا إذ دعاني باسمي أن أقوم[1]، فلم يجد بُدًا من شدة الخوف والبرد من إجابة رسول الله ﷺ، لكن حينما ذهب حتى رجع كأنه في حمام يعني من الدفء، فكان في حفظ الله ورعايته إلى أن رجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فالإنسان قد يظن في نفسه أنه قد بلغ مرتبة يمكن أن يبذل الكثير، لكن إذا جاء الجد تبين ضعفه وعجزه، وتبين حجمه الحقيقي، فنسأل الله أن لا يفضحنا؛ ولهذا كان الإمام أحمد -رحمه الله- حينما يُذكر له الثناء والإطراء يقول: "نحن قوم مساكين، ويقول: نحن نعيش في كنف الله وستره، ولولا ذلك لافتضحنا"[2]يعني: لو كشف الله ذلك عنا لافتضحنا، هذا يقوله الإمام أحمد -رحمه الله-! فالإنسان إذا تركه الله مع دواعيه البشرية، سواء كان ذلك في ميدان المعركة، أو كان في المعركة الأخرى في جهاد النفس والشهوات، ونحو ذلك، فإنه قد يضعف، فقد يضعف أمام المال، أو أمام العدو، أو شهوة النساء، أو أمام دواعي النفس أيًّا كانت؛ لأن كل إنسان له من الدواعي ما يجذبه، فهذا ينجذب للمال، وهذا ينجذب للشهوات الأخرى، ولكن قد يظن الإنسان أنه ثابت، فإذا عرضت له تلك العوارض انكسر، وظهر ضعفه، إن لم يلطف ربه -تبارك وتعالى- به؛ ولهذا فإن الإنسان يسأل ربه دائمًا العافية في الدين والدنيا والآخرة، فهذه العافية لا يمكن أن يستغني عنها أحد؛ ولهذا قال النبي ﷺ: لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف[3]، فنسأل الله أن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، فالعبد يسأل ربه دائمًا التثبيت والتسديد، ويقول: اللهم اهدي قلبي، وسدد لساني، ونحو ذلك، وشيخ الإسلام -رحمه الله- كان إذا أراد أن يُلقي درسًا، كان يقول: "اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أحول وبك أصول، وبكل أقاتل" فأين هذا ممن يأتي وهو واثق من نفسه، أو يصعد المنبر ويقول: أنا كلي ثقة بالنفس، ونحو ذلك؛ ولذلك تجد كبار الخطباء إذا قرأتم في كتب الأدب، ونحو ذلك ربما يستغلق عليه الكلام، ويقف أمام المنبر، وهو خطيب، ولا يستطيع أن يتكلم بكلمة، وقد يوكل الإنسان إلى نفسه بأدنى من هذا، يعني: يُقدم أحد القراء الكبار أمثال الكسائي عند الخليفة العباسي، فيُخطئ في سورة من قصار السور، فيقول له الآخر: هل هذه سورة يُخطأ بها؟! فُقدم في المجلس الآخر هذا القائل -وأظنه الكسائي- وهو إمام في العربية والقراءة، ولما اُعترض عليه في مسألة في النحو، أخذ منديلاً وبصق فيه، وقال: ما عند النُحاة -يعني من النحو- لا يبلغ بصقتي هذه" وهو مُتبحر في العلم، فقُدم للصلاة في المجلس الآخر، فأخطأ في الفاتحة، وهو إمام جبل، فالإنسان لا ينظر إلى نفسه، ولا يلتفت إليها سواء كان ذلك في حفظه، أو كان في علمه، أو كان في خطابته، أو فصاحته، أو في كتاباته، أو تأليفه، وما إلى ذلك، ففي التأليف ربما أخطأ الإنسان أحيانًا في اسمه، على غلاف الكتاب، هذا موجود، ويحصل، ويُراجع الكتاب مرارًا، والاسم خطأ، ولا يتفطن له، أليس يذهل الإنسان أحيانًا عن بعض الأشياء، فيبحث عن نظارته مثلاً، وهو لابسها، وأحيانًا يبحث عن جهازه الهاتف المحمول وهو بيده، وهو يبحث عنه في كل مكان، هذا يحصل، وأحيانًا يبحث الإنسان عن قلمه وهو في أُذنه، ويبحث عنه بحثًا مُضنيًا، وأحيانًا يبحث عن الشيء في كل مكان وهو أمامه، كيف زاغ عنه البصر، فالإنسان ضعيف، فالله يُريه ضعفه تارة بالمرض فينكسر، ويعرف أنه ضعيف، وتارة بما يقع له من شدائد ومصائب في مواقف وحوادث، أو نحو ذلك، نسأل الله العافية للجميع، فترى هذا الإنسان الذي تظن أنه من أقوى الناس، وأثبت الناس مثل الطفل مُضطرب ومنهار وضعيف، يبكي بُكاء الطفل لا يدري ماذا يفعل؟ وقبل ذلك يظن أنه جبل، وربما لا يستطيع الكثيرون ممن هم تحت إدارته أن يتكلم معه، أو أن يقترح عليه، أو نحو ذلك، ويأتي أمر ربما يثبت فيه من هو دونه بمراحل، وتجد هذا الإنسان في غاية الانهيار والانكسار.
فالمقصود أن هؤلاء أصحاب النبي ﷺ هم كبار، ومنزلتهم عالية، لكن الكبار ينهزمون في هذه الوقعة، والله يذكر ذلك، ويصفه بهذا الوصف: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ يعني: كائنًا من كان، ولو كان النبي ﷺ؛ لأنه كان يدعوهم، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ولاحظ جاء بوصف الرسالة الذي يوجب الاستجابة، ومع ذلك لا يلوون على أحد، كل واحد يريد النجاة لنفسه؛ ولذلك فإن المنهزم لا يلوي على شيء، ومالك بن عوف النصري قائد هوازن لما خرج إلى أرض حُنين، بين مكة والطائف، أخرج النساء والذراري، وأخرج الإبل والبقر والغنم، يعني أخرج أموال الناس، وجعلها صفوفًا، وجعل النساء خلف الرجال، وجعل الصبيان خلفهم، ثم جعل هذه الأموال: الإبل والبقر والغنم، فجيء بدُريد بن الصِمة، وهو منهم، ولكنه كان شيخًا كبيرًا قد عمي، وهو رجل مُجرب في الحرب، فقال: ما لي أسمع رُغاء البعير، وثُغاء الشاة، وخوار البقر، وبُكاء الصغير؟ يعني: الأطفال، فقالوا: إن مالك بن عوف قد أخرج الناس بذراريهم وأموالهم؛ لئلا يفروا، بحيث تكون خلفه كل شيء، فيثبت حتى الموت؛ لأن زوجته وأولاده وأمواله خلفه، أين يفر ويترك هؤلاء؟ فأصدر دُريد بن الصِمة صوتًا بنبرة بفمه، بطريقة المُستهزئ، الذي يُصدر صوتًا بالفم، قال: رويعي شاة، ورب الكعبة، يعني: هذا ليس بقائد حرب، وإنما رويعي شاة، فإن المُنهزم لا يلوي على شيء، ولا يرده شيء، ولما كلم مالك بن عوف في ذلك أصر، وأقسم أنه إن لم يُستجب له في ذلك ليتكأن على السيف، يعني حتى يقتل نفسه، فالشاهد أنهم فعلاً لما انهزموا، ولوا مدبرين، وتركوا كل شيء، فكانت غنيمة باردة، نساء وأطفال وبهائم، جاءوا بها، فلا تحتاج إلى بحث، أو الذهاب إلى الطائف من أجل الاستحواذ عليها، فقد جاء بها إليهم، وفر المقاتلون لا يلوون على شيء، وتركوا الأهل، هل بعد هذا شيء؟ وهم كانوا رُماة، لا يكاد الواحد منهم يُخطئ الرمية، وكمنوا في مضايق حُنين لأصحاب النبي ﷺ، حتى وصف النِبال التي في الكمين، كأنها مطر تُزعزعه الريح، من كثرتها، أي: مثل المطر وهو ينزل، والريح قوية فكأنه مطر تُزعزعه الريح، ومع ذلك انهزموا هذه الهزيمة الساحقة لما ثبت النبي ﷺ، وعشرة معه تقريبًا، وأمر العباس أن يُنادي: يا أصحاب السمُرة، ويا أصحاب سورة البقرة، فعطفوا عليه عطفة البقر على ولدها : لبيك، لبيك، حتى اجتمعوا إلى النبي ﷺ، وهو على بغلة بيضاء، يُقال لها: دُلدُل، وهي التي أهداها إليه المقوقس، وهي بغلة لا تُحسن الكر والفر، وهو ثابت، ويقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب[4]، وهؤلاء يرمون بهذه النِبال ويصوبون كل أحد، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يُعرف بنفسه، ويقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فهذه هي الشجاعة المُفرطة، وثبت، فعطفوا عليه عطفة البقر على ولدها، ثم اجتلدوا، فتطاول النبي ﷺ، ورآهم يجتلدون، فقال: هذا حين حمي الوطيس[5]، وفي رواية: الآن حمي الوطيس[6]، فذهبت مثلاً، فكان أول من قال ذلك رسول الله ﷺ، ثم انتصروا هذا الانتصار الساحق، فهذا كان في حُنين، ولاحظ لم يبق إلا نحو عشرة، وفي أُحد ما رجعوا إلى النبي ﷺ في أرض المعركة، بل أمعنوا في الفرار، فوقعت تلك الهزيمة؛ لأن الله أراد ذلك.
وبهذا نعلم -أيها الأحبة- أن المسلم لا ينبغي أن يركن لنفسه بحال من الأحوال، سواء كان مُجاهدًا، أو كان داعية، أو كان في أي ميدان من الميادين، فلا يركن إلى نفسه، أما هذا الذي يبدو في أرض جهاد، كأنه يهز الجبال ويُحركها، وربما يتحدث عن نفسه وبأسه وشدته وقوته، ونحو ذلك، ويركن إليها، ويستعرض ذلك، فمثل هذا قد يوكل إلى نفسه، حتى فيما سوى ذلك، فالنبي ﷺ يقول: لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة، وكلت إليها[7]، فالإنسان حينما يستشرف ليكون له قيادة وريادة، إلى آخر هذه الأمور، قد يوكل إلى نفسه، وحينما يُصارع ويُنافس ويتهافت على تحصيل مثل هذه الولايات، قد يوكل إلى نفسه، سواء كان ذلك طلب إمارة، أو طلب قضاء، أو غير ذلك.
هذا وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب برقم (1788).
- حلية الأولياء (9/181).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس برقم (2966) ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء برقم (1742).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب من قاد دابة غيره في الحرب برقم (2864) ومسلم كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين برقم (1776).
- أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين برقم (1775).
- أخرجه أحمد برقم (1776) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور برقم (6622) ومسلم في كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه برقم (1652).