الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ما زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور [آل عمران:154] وقد تحدثنا في الليلة الماضية عن قوله تعالى: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا وأن التعبير بـ(على) أَنزَلَ عَلَيْكُم يدل على أنه قد تغشاهم، واستولى عليهم.
وأيضًا يدل قوله: أَمَنَةً نُّعَاسًا على المُلازمة بين النُعاس والأمن؛ وذلك -كما ذكرنا- أن الخائف لا ينام، ولا يُقاربه النوم، ومقدماته التي هي النُعاس والسِنة.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً قدّم هنا ما حقه التأخير، يعني: لم يقل: ثم أنزل عليكم أمنة من بعد الغم؛ وذلك فيه ما فيه من المعاني، والملاحظ البلاغية، فالغم الذي استولى عليهم، ونزل بهم، كان وقعه شديدًا، فأنزل من بعده أمنة نُعاسًا، وهذا أيضًا يجعل السامع يترقب: ما الذي نزل من بعد الغم؟
وكذلك أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا، فالغم هو ما يحصل للإنسان من الحزن الشديد، فإذا اشتد بالإنسان الحُزن، وما إلى ذلك، فإنه يكون غمًا؛ لأن الحزن قد يكون يسيرًا، فلا يحصل معه الغم، فهنا ذكر الأمنة، فالأمن يُقابل الخوف، فذكر النُعاس مع الأمنة، والحزن يحصل معه النوم، وهذا كثير، لكن الخوف هو الذي يُزايل النوم، فكان ذلك نعمة من الله عليهم، وكان المقام يقتضي ذلك -والله تعالى أعلم-، حيث كانوا -كما ذكرت في الليلة الماضية- يترقبون رجوع المشركين الذين عزموا على استئصالهم، فحصل عندهم خوف بسبب ذلك، مع الحزن على ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجراح، وفوات النصر، فكل ذلك اجتمع عليهم، فكان غمًا اغتمت به قلوبهم ونفوسهم وأرواحهم، فذكر الله -تبارك وتعالى- هذه الأمنة التي تُقابل الخوف؛ وذلك -والله تعالى أعلم- تسبب تخصيصه، وهو المطلوب؛ لأن هذا الخوف يجعل الإنسان يترقب، بخلاف الحزن، فيجعله في حال من السكون والخمود والخمول والإخلاد إلى الأرض، أو إلى الراحة، لكن الخوف يجعله مترقبًا متوثبًا يُزايله النوم ومقدماته، فإذا حصل له النُعاس، كان كمن ليس به خوف، كأنه قار بين أهله في أمن ودعة، والإنسان في آمن ما يكون من أحواله يُصيبه النُعاس، وخثورة النوم، ومقدماته، ويعتريه هذا الضعف البشري إلى أن يغيب الإدراك.
ثم أيضًا هذا الأمن الذي جعله الله في قلوبهم كان إكرامًا لمن وقع لهم ذلك، ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ ولاحظ كيف فسر الأمنة بالنُعاس، ففيه دلالة واضحة على ما ذكرت من الملازمة بين الأمرين.
وأيضًا كما ذكره بعض أهل العلم، كالطاهر بن عاشور -رحمه الله-، وقد أشرت إليه في الليلة الماضية: من أن أول ما يحصل من مزايلة الحُزن والغم لقلب الإنسان يكون بعد أول نومة، فتكون حاله بعدها ليست كحاله قبلها، فهذا مبدأ خفته على النفوس، فإن النومة تُضعف أثره[1].
وقوله: يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ هؤلاء هم أهل النفاق، وربما يكونوا معهم أيضًا بعض ضعفة الإيمان، فهؤلاء قد أهمتهم أنفسهم، وليس لهم هم ولا شأن إلا السلامة لأنفسهم، فلا يعنيهم ما يقع للنبي ﷺ، ولا لأصحابه، ولا يعنيهم ما يحصل لهذا الدين، الذي أراد المشركون القضاء عليه، فهؤلاء قد أهمتهم أنفسهم، لكن المراد من قوله: أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ هم هؤلاء الذين آمنوا وصدقوا، وكانوا صادقين في إيمانهم، وكان مقصودهم هو إعزاز الدين، والذب عنه، فعوضهم الله -تبارك وتعالى- بالأمن، أما هؤلاء الذين كانوا يترقبون خوفًا على أنفسهم، ولا يعنيهم شأن رسول الله ﷺ، ولا نصر دينهم، فهؤلاء عوقبوا بجنس فعلهم، والجزاء من جنس العمل، فطلبوا الأمن لأنفسهم، فلم يحصل لهم، وإنما حصل لأولئك الذين يبذلون كل مستطاع من أجل دينهم ونبيهم -عليه الصلاة والسلام-.
وأيضًا في هذه المواطن التي يُبتلى بها العباد والبلاد اليوم، ويكون حال المرء كما وصف الله -تبارك وتعالى- أهل الطائفة الأخرى: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ فهذا يُنبغي أن يُراجع نفسه، فإذا كان المُصاب في الدين، ولم يكن للإنسان هم إلا سلامة هذه النفس، فهذا يدل على أن الإيمان في قلبه ليس كما ينبغي؛ ولذلك انظر إلى وصف الله -تبارك وتعالى- للمنافقين إذا حصل الغنيمة لأهل الإيمان، فإنهم يقولون: كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء:73] يعني: كأنه لا يوجد بينكم وبينهم قاسم مشترك من نصر الإسلام، وأن يكون الهدف الواحد هو إعزاز الدين، فهؤلاء لا يعنيهم ذلك، وإنما يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء:73] لكن إذا كانت الأخرى، وأُصيب المسلمون في وقعة، فإنه يقول: قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا [النساء:72] فهو معتز وفرح ومستبشر أنه لم يُشارك، واحتاط لنفسه، فيعتبر أن ذلك من حُسن التدبير، وأن ذلك مما يُغتبط به، فهكذا هؤلاء أهل النفاق، فينبغي على المؤمن أن ينظر في مثل هذه المعاني، وأن يعرض نفسه عليها، وليست الغِبطة هي في أن يسلم الإنسان في ذاته ونفسه إذا كان ذلك يُقابله ضياع الدين، وذهاب الحق، وما أشبه ذلك.
وأيضًا ذكر صفتهم الأخرى الأولى: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يقولون: نفسي نفسي، يطلبون السلامة للنفس، والصفة الثانية هي قوله: يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ فهذا يدل على أن بواطنهم منطوية على أخلاق وتصورات واعتقادات أهل الجاهلية، وهم في الواقع كفار في الباطن، يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ وهذا يدل على أن من ساءت ظنونه بربه -تبارك وتعالى- فذلك يعني أن فيه خصلة من خصال الجاهلية، فالذي يظن بالله الظنون السيئة والكاذبة وأن الله يخذل أولياءه، وأن الله لا ينصرهم، وأن الله يُديل الكفار عليهم إدالة دائمة، وأن العاقبة للكفار، وأن مستقبل المسلمين إلى زوال، وأن دينهم سيضمحل، فإن هذا قد ساء ظنه بالله ، فيظن بالله غير الحق، وكثير من الناس قد يظن ذلك في مثل هذه الأوقات التي يحصل بها ما يحصل من استضعاف المسلمين، وتسلط الكفار عليهم، فيعتقد أن المسألة مسألة وقت، وأن آثار هذا الدين ستضمحل، وأن نُظم الكفار، وفسادهم الاعتقادي والعملي كل ذلك سيعُم أنحاء المعمورة، باسم العولمة، أو بأي اسم كان، وأن العفاف والحجاب والحشمة والحياء والدين كل ذلك سيترحل، وأن الكفار سيفرضون ما أرادوا، فهذا ظن بالله غير الحق، ظن الجاهلية، فالله -تبارك وتعالى- أخبر عن نوره أنه لا يستطيع أحد أن يُطفئه، وأنه مُتمه، فهذا لا يمكن ولو اجتمعت قوى الأرض، ومحاور الشر القديمة والجديدة على إطفاء نور الله ، فإن هذا لا يمكن.
ومن أقرب العِبر أنه وجد في بعض البلاد التي حُجب عنها كل خير، وكان زعيمها يتبجح أمام الآخرين بأنه استطاع أن يُجفف منابع الدين، فبمجرد ما زال صار الناس يُقبلون على دين الله ، حتى لم تعد المساجد تتسع لهم، فكانوا يجتمعون في ملعب رياضي من أجل سماع محاضرة، وربما اجتمعوا على شاطئ البحر، وفي أماكن مفتوحة؛ لأنه لا يوجد مكان يسع هؤلاء الناس، فمن أين جاء هؤلاء بعد تجفيف المنابع عشرات السنين في ذلك البلد؟ أليست هذه عبرة، وأن هذا الدين يحمل قوة ذاتية، وأنه إذا حاول أحد أن يحجُب هذا النور فبمجرد زواله، فإن هذا النور يُشع بالقلوب والنفوس والأرواح، بطريقة مُذهلة، فيرجع الناس إلى دين الله ، ويذهب ذلك الغُثاء والزبد الذي أُلقي به عبر تلك العقود المتتابعة، أليست هذه عبرة؟! بلى.
والاستعمار حين يبقى في بلاد يبقى ربما لمائتي سنة أو أكثر من هذا، وحصل هذا في إندونيسيا بقي الاستعمار أربعمائة سنة، وفي الجزائر بقي الاستعمال مائتي سنة، وفي مصر بقي الاستعمار نحو مائة سنة، ثم ماذا؟ كان بعض زعماء هؤلاء الكفار يقول: بأنه جاء لطمس معالم الدين، وجاء لهدم الكعبة، وتغطية القرآن بحجاب المرأة، وذهب هذا، وبقي القرآن، وبقي حجاب المرأة، والحجاب يرجع وينتشر، وفي إندونيسيا وغيرها ينتشر الحجاب وغير الحجاب، والناس يُقبلون على دينهم بعد أربعمائة سنة من التضليل، هذه عبرة عظيمة، والكفار يُدركون هذا؛ ولذلك أصبحوا الآن في حال تُشبه حال المُصاب في عقله، فلا يدرون كيف يتصرفون؟ فداسوا على شعاراتهم التي لطالما تغنوا بها من الحرية وحقوق الإنسان، وغير ذلك، كل هذا ذهب، ضجت أرواحهم ونفوسهم التي يملأها الشرك، والمُظلمة بالكفر، حينما يرون نور الله ينتشر، فهذه الهجمة التي ترونها على دين الله إنما مبعثها أنهم يرون أمرًا لا قِبل لهم به، ومن الذي يستطيع أن يقف أمام دين الله ، هذا ليس من الأديان المُحرفة الفاسدة، وليس من وضع البشر، وإنما هو دين الله، فإذا تولى قوم استبدل الله آخرين، ولا يزال الله -تبارك وتعالى- يغرس غرسًا لهذا الدين، ويأتي رجال وهم في أصلاب آبائهم ينصرونه ويُعزونه، وينتشر ولو كره الكافرون، وأخبر النبي ﷺ: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها[2]، فمن الذي يستطيع أن يحجب هذا؟! كل مائة سنة يأتي من يُجدد، ويمسح ويغسل ذلك الرُكام والعلائق التي ألقاها هؤلاء المُضللون، فهذا الأمر لا خوف عليه، ولا نقلق على دين الله ، لكن نحن نقلق على أنفسنا وحالنا، ما هو ثباتنا؟ وكيف بذلنا لهذا الدين العظيم الذي للأسف يعرفه الكفار معرفة أعظم من معرفة كثير من المسلمين، هم يعرفون عظمته، وعندهم دراسات وإحصاءات دقيقة في انتشار هذا الدين، سواء كان ذلك برجوع المسلمين إليه، أو كان باعتناق غير المسلمين لهذا الدين، فينبغي على المؤمن أن يعتز بإيمانه ودينه.
ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينصر دينه، وأن يُعز كلمته، وأن ينصر أولياءه، وأن يُذل الشرك وأهله، إنه سميع مُجيب.
ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- التحرير والتنوير (4/133).
- أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة برقم (4291) وصححه الألباني.