الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
في هذا السياق الذي يذكر الله -تبارك وتعالى- فيه وقعة أُحد، وما جرى لأهل الإيمان، ويذكر منشأ ذلك، وسببه المُباشر، والسبب البعيد العميق، فقد ذكر الله -تبارك وتعالى- السبب المُباشر، وهو التنازع والمعصية والفشل الذي يكون بسبب ذلك، ثم ذكر السبب البعيد السبب الذي يكون سببًا للخذلان، العبد أحوج ما يكون إلى ألطاف الله -تبارك وتعالى- ونصره، فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيم [آل عمران:155].
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ الذين فروا في هذه الوقعة وانهزموا، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ جمع أهل الإيمان وجمع أهل الإشراك، إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ، إنما أوقعهم الشيطان في هذا الأمر، في هذا الذنب، بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ببعض جناياتهم وأعمالهم السابقة ومعاصيهم التي قارفوها، وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ، أي: أنه تجاوز، ومحى ذلك.
ثم ذكر اسمين يتضمنان وصفين بهذا الختم لهذه الآية مما يصلح للتعليل إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيم كثير الغفر، يستر، ويقي العبد شؤم المعصية، والتبعات التي تلحقه من جرائها، حليم، لا يُعاجل بالعقوبة.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات، والفوائد أن الله -تبارك وتعالى- حكم، عدل، فالله لا يظلم الناس شيئا، وإنما كان ذلك بسبب جناياتهم.
ثم يؤخذ منه أيضًا أثر الذنوب على الثبات، هنا الثبات في أرض المعركة، فكان ذلك سببًا لانهزامهم، وتوليهم؛ لأن ذنوبهم، وجرائرهم أوقعتهم في ذلك، لم تؤهلهم للثبات، فلم يصمدوا أمام عدوهم، فهذا معلوم من أثر الذنوب، والذنب يجُر الذنب، ويدعوا إليه، ويكون له من الآثار القريبة والبعيدة في الدنيا والآخرة ما لا يخفى.
فهذه الذنوب تكون سببًا على المستوى الخاص للتعثر والخذلان، وقلة التوفيق، وعدم الثبات أمام عدوه من الإنسان من الناس في أرض المعركة، وعدم الثبات أيضًا أمام عدوه الشيطان، فالشيطان يقوى عليه، فإذا وقع في الذنب طمع فيه، فقاده ذلك إلى ذنب آخر، وإلى مقارفة جديدة، فما يلبث أن يتكاثر ذلك عليه، ويجتمع حتى ينوأ بهذا الحِمل الثقيل فهو بعد ذلك ينكسر وينثني، ويقوده الشيطان حيث شاء.
فالطريق إلى الثبات -أيها الأحبة!- الثبات أمام الأعداء في أرض المعركة، الثبات على المبادئ، الثبات على الدين، الثبات على الحق، كل ذلك يحتاج إلى رصيد من الإيمان والتقوى والعمل الصالح.
وأما إذا كان العبد في سالف أيامه مضيعًا، ومفرطًا فإنه يُخذل، وقد يُبتلى الإنسان فينكسر، وقد يظن الناس أنه من أقوى الناس، ومن أثبت الناس ومن أشجع الناس لكن أعماله السابقة لا تُسعف، فعند ذلك لا يصمد، ولا يصبر أمام هذا الابتلاء، فهؤلاء إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا.
إذًا: من أراد رسوخ القدم، والثبات بجميع صوره وأشكاله، فعليه أن يكون على حال من الاستقامة والطاعة والصِلة بالله -تبارك وتعالى-، ويتوقى الذنوب، هذا على مستوى الأفراد، وأما على مستوى الأمة فكذلك، لا يمكن للأمة أن تثبت أمام هجمات الأعداء بجميع أنواعها سواء كان ذلك بكتائب، وجيوش في أرض المعركة، أو كان ذلك بوسائل أخرى من أنواع الغزو التي يغزوها أعداؤها بها، فهذا يحتاج من أجل أن تثبت على صلة بالله ، وإلى أوبة وتوبة وصدق مع الله، واستقامة على دينه.
ولكن كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: "إذا كان العبد مضيعًا مفرطًا يعصي ربه فهذه المعاصي هي كتائب يُجندها على نفسه مع عدوه تغزوه مع عدوه"[1]، فلا يمكن لأمة أن تصمد أمام هجمات أعدائها، وأن تثبت، وأن تبقى مستقيمة كما أمرها الله -تبارك وتعالى-، أو تنتصر في أرض المعركة، وميدانها إذا كانت هذه الأمة تُحارب الله بالمعاصي، هذا لا يمكن، إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم [محمد:7]، إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ [آل عمران:160].
لا يمكن لأحد أن يُحقق هذا الانتصار، وإنما الواجب هو الاعتصام بالله -تبارك وتعالى-، وحُسن الصِلة به مع التوبة والاستغفار وكثرة الذكر، إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ [الأنفال:45]، كيف يثبت؟ هل هذا أمر في تلك اللحظات والساعات الحرجة يملكه قد يكون له من أعماله السابقة ما لا يؤهله للثبات فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُون [الأنفال:45]، إذا قلنا: بأن "لعل" هذه للترجي لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُون، يعني: مع الثبات وكثرة الذكر لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُون.
طيب الذين لا يذكرونه هؤلاء كيف يفلحون؟! والفلاح هو إدراك المطلوب، والنجاة من المرهوب، يعني: في أرض المعركة النصر، وكذلك أيضًا إذا قلنا: بأن لعل للتعليل لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُون، أي: من أجل أن يتحقق لكم الفلاح، فالفلاح منوط بهذا لا يمكن أن يتحقق الفلاح إلا بالاتصال بالله ، وكثرة الذكر، وليس بالغفلة عنه، فضلاً عن مُجابهة أمره، ونهيه بالمعاصي، والجُرأة عليه ، هذا إنما يفعله الإنسان بنفسه لجهله، وقصور نظره، وغلبة هواه، واستحكام ذلك على قلبه فيكون غافلاً، لا يدري مصلحته، ولا يعرف ما ينفعه ويرفعه، فيوقع بنفسه بهذه الطريقة.
كذلك أيضًا هذا يدل أعني قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ، أن القتال وجهاد الأعداء إنما يكون أولاً بالأعمال، فمن كان أصبر على الطاعة، وعن المعصية كان أثبت، وهذه ليست قضايا من قبيل الدعاوى أو الأماني التي يتمناها الإنسان، فيتحقق له مراده إذا جاء الجد، فعند ذلك لا يثبت إلا من ثبته الله .
هؤلاء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وانهزموا، وهم من الأولين السابقين، ومع ذلك الله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ، فهذا يدل على عِظم جناية الذنوب، وما تعود على صاحبها به من الآثار السيئة القريبة، العاجلة في الدنيا، فضلاً عن الآخرة.
كذلك أيضًا هذا يدل على أن الذنوب في أوقات السراء والعافية تكون سببًا لمزلة الأقدام في حال الضراء إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ، سابقًا قبل المعركة في أيامهم التي كانوا فيها في حال من الطمأنينة والأمن فذنوبهم أوقعتهم في مثل هذا، فالذنوب في السراء، التفريط في السراء، ولذلك كثير من الناس إذا وقعت الشدائد؛ جاء يسأل ماذا نفعل؟
ماذا تفعل الآن في هذه اللحظة، وأنت مضيع العُمر كله، هذا يحتاج إلى رصيد من أجل أن يثبت الإنسان، يحتاج إلى أرض راسخة، ثابتة في غاية الصلابة، من أجل أن تثبت قدمه عليها، أما الإنسان الذي لا يدري ما تحت قدمه، ثم بعد ذلك يُبتلى، فمثل هذا لا يلبث أن ينهزم.
كذلك أيضًا فيه رد على الجبرية من قوله -تبارك وتعالى-: بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ، هذا بخلاف قولهم حيث يقولون: إن الإنسان مُجبر على أفعاله فهو كالريشة في مهب الريح، تكفأها يمنة ويسرة، لا يد له في ذلك.
وهكذا في قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ، فأضاف الأفعال إليهم، وهذا لا إشكال فيه.
وفي هذه الآية أيضًا بيان ما للشيطان من أثر على ابن آدم إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ، "استزلهم" يعني أوقعهم في الزلل، فالشيطان يغوي ويُغري الإنسان بالمنكر والفاحشة.
وكذلك أيضًا الشيطان يكون سببًا لما هو أعظم من ذلك الكفر، ونحو ذلك، وليس الشيطان فحسب، بل النفس الأمارة بالسوء أيضًا، وشياطين الإنسان القرين من هؤلاء، كل ذلك له أثر عليه.
وهكذا في قوله: وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ، فهذا فيه بعث للطمأنينة في نفوسهم، وجاء التأكيد كما ترون بهذه الطريقة بحيث أكد هذه الجملة الخبرية بقسم، ولام وَلَقَدْ، فهنا قسم محذوف "والله لقد عفا الله عنهم" ودخول قد أيضًا على الفعل الماضي، فإن ذلك يدل على التحقيق، وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ، ذلك من أجل أن تطمئن نفوسهم، وهذا يدل على سعة رحمة الله .
لاحظ هؤلاء أصحاب أعمال غير مرضية في السابق، وانهزموا في أرض المعركة، ومع ذلك الله -تبارك وتعالى- يُخبر بهذه الجملة، بهذه الصيغة، بهذه الطريقة وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ، فهذا يدل على سعة رحمته، ولطفه بعباده، وإذا كان هذا لطفه، ورحمته بعباده المُسيئين، فكيف يكون ألطافه مع عباده المُطيعين، الذين كانوا على صِلة في حال السراء، وتقوى، ويكونون على حال مرضية في حال الشدة والضراء؟!
ثم جاء هذا التذييل إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيم، فأظهر هذا الاسم الكريم "الله" في مقام يصح فيه الإضمار وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ، ما قال: إنه غفور حليم، فذكر هذا الاسم، في هذا الموضع مُظهرًا، هذا فيه من تربية المهابة، وفيه من التفخيم والتعظيم، وهذا الاسم كما قال جمع من أهل العلم هو الاسم الأعظم، وإليه ترجع جميع الأسماء الحسنى لفظًا، ومعنى، إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيم.
كذلك هذه الجملة: (إنّ الله) جاء مؤكدًا بإنّ، وعرفنا أن "إن" بمنزلة إعادة الجملة مرتين للتأكيد إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ، والغفور صيغة مُبالغة كثير الغفر على كثرة الذنوب والإساءات، وكثرة العباد المُسيئين، فالله غفور، كثير الغفر، وعرفنا أن الغفر يتضمن الستر والوقاية، حَلِيم، أي: أنه لا يُعاجل بالعقوبة، بل قابل هؤلاء أيضًا بالعفو.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعفو عنا، ويتجاوز، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وأن يرحمنا برحمته، وأن يُعيينا على ذكره وشكره وحُسن عبادته، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: زاد المعاد، (3/213).