الجمعة 17 / شوّال / 1445 - 26 / أبريل 2024
(176) قوله تعالى: {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ...} الآية، وقوله: {وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ...} الآيات 157-158
تاريخ النشر: ٠٦ / رجب / ١٤٣٨
التحميل: 564
مرات الإستماع: 976

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى- في سياق الرد على أولئك الذين لا يؤمنون بقدر الله -تبارك وتعالى-، أولئك الذين نهى الله أهل الإيمان عن مُشابهتهم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير [آل عمران:156]، مضى الكلام على هذه الآية الكريمة.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- في هذا السياق وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون ۝ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُون [آل عمران: 157-158]، والمعنى: وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ، يعني: في حال الجهاد، أَوْ مُتُّمْ، وعرفنا الفرق بين القتل والموت، فالموت: هو زهوق الروح، أن تزهق روح الإنسان حتف أنفه، يعني: من غير جناية، من غير تسبُب، أو مُباشرة، والقتل قلنا: هو زهوق الروح بتسبُب.

فهنا يقول الله وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ، يعني: في الجهاد، أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون، يعني: أيها المؤمنون! الخطاب لأهل الإيمان لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ [آل عمران:156]، فهنا يقول: إذا حصل هذا القتل في سبيل الله، أو الموت حتف الآناف من غير قتل فإن مغفرة الله -تبارك وتعالى- ورحمته خير مما يجمعه هؤلاء في دنياهم، هؤلاء الذين يُرددون هذه المقالات البائسة لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ، ماذا عسى أن يُحصلوا؟

وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُون [آل عمران:158]، يقول: النهاية، النتيجة سواء كان ذلك بالقتل في سبيل الله، أو كان ذلك في الموت، فالمرد إلى الله، فإنكم تُحشرون وتُجمعون إلى الله -تبارك وتعالى- للعرض والحساب.

ويُلاحظ هنا في هذه الآية الأولى: وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ، قُدم القتل على الموت، يمكن أن يكون ذلك في مقام الترغيب، فقدم القتل في سبيل الله؛ لأنه أكمل وأشرف فتلك الشهادة، أَوْ مُتُّمْ، وفي الآية التي بعدها وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُون [آل عمران:158]، فهذا خبر عن حشر الناس إلى الله بأي سبب كان فوت هذه النفوس، وبأي طريق كان بالموت أو القتل، فجيء بالموت قبل القتل في الآية الثانية، ربما يكون ذلك -والله أعلم- لأن الموت أكثر، يعني: أكثر الناس يموتون، أكثر من أولئك الذين يُقتلون، فيكون ذلك من باب التنويع، والقرآن بالغ في الفصاحة والبلاغة الغاية.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد: وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ، يعني: متّم على الإيمان، أو متم في جهادكم من غير قتل، وكما قال الله في الهجرة: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ [النساء:100]، فالمؤمن دائمًا على خير، والله يُكمل له أعماله، ويُبلغه المراتب العالية بما لم يبلغه ذلك العمل، ولذلك فإن الإنسان ينوي الخير دائمًا، ويتحراه، فإن وفق له فذاك، وإن حصل له عارض منعه منه فإن أجره يُكتب، وهذا دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة، وإذا شرع في العمل الصالح، ثم بعد ذلك عرض له ما يقطعه من غير إرادته، فإن الله يُبلغه عمل العاملين ومنازلهم، فهذا من فضله -تبارك وتعالى- ورحمته.

لاحظ هنا وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ، نُكرت المغفرة، وهذه الصيغة صيغة قسم ولئن قُتلتم، فهو قسم مُضمر، لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ، نُكرت المغفرة، ونُكرت الرحمة، وذلك يُفيد التعظيم مغفرة عظيمة، ورحمة عظيمة، ولاحظ هنا ذكر المغفرة والرحمة، حيث قدم المغفرة على الرحمة، وذلك -والله تعالى أعلم- أن المغفرة تكون من باب التخلية، والرحمة تكون من باب التحلية، فالمغفرة يحصل بها المحو للخطايا والذنوب ولآثارها، فيسلم العبد من العذاب والعقوبة والنار، والرحمة هي التحلية التي يدخل بها الجنة، ويحصل له أنواع الألطاف الربانية، ولذلك يجمع بين المغفرة والرحمة، وتُقدم المغفرة على الرحمة في مثل هذه الآية، فبالمغفرة يزول المكروه، وبالرحمة يحصل المطلوب، وبهذا تكمُل سعادة الإنسان؛ إذا زال عنه المحظور، وحصل له المحبوب، هذه هي السعادة، يزول عنه ما يُحاذر، ويحصل له ما يؤمل.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى-: وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون، فهذا ترغيب لأهل الإيمان من أجل المُسارعة والمنافسة في طلب مرضاة الله -تبارك وتعالى-، وكذلك أيضًا هو تسلية لهم بمصابهم، وذلك أيضًا فيه إبطال لما عسى أن يعلق في النفوس من تلك المقالات لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ [آل عمران:156].

فالله -تبارك وتعالى- يُبين لهم أن قتلهم، أو موتهم في سبيل الله خير مما يجمعه هؤلاء الكفار، ولاحظ قوله -تبارك وتعالى-: خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون، يعني: هنا يمكن أن تكون "خير" أفعل تفضيل خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون، فـ"ما" هذه تفيد العموم، مِّمَّا يَجْمَعُون، ماذا يجمعون؟ الذهب، يجمعون أنواع المكاسب، والتجارات، وأنواع اللذات، خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون هذا الأمر الذي يُثبط عنه هؤلاء، ويتكلمون بهذا الكلام الذي يجلب الحسرات لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ [آل عمران:156]، لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168].

يقول: وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون [آل عمران:157]، فهنا قدم هذا المطلوب الأهم في مقام التحريض على الجهاد، القتل في سبيل الله، قدم الأشرف.

وكذلك أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون فهذه لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون حيث أكد الخبر باسمية الجملة، واللام، وإن قيل: بأن المُفاضلة هنا بين ما يحصل لهؤلاء من المغفرة والرحمة لا يُقارن بما يجمعه الكفار من حُطام الدنيا، فيمكن أن يكون ذلك على قول بعض أهل العلم أن يكون دليلاً على جواز المفاضلة بين شيئين، لا وجه للتناسب بينهما، هذا قال به بعض أهل العلم.

ويمكن أن يُحمل على غير ذلك، أن يكون المقصود مُطلق الاتصاف، وليس معنى التفضيل، وإلا شك أن ما يُعطاه أهل الإيمان من المغفرة، والرحمة لا يُقاس بهذا الذي يحصل لهؤلاء الكفار من الحُطام، وقد قيل:

ألم ترى أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا[1]

المقارنة بين السيف، وبين العصى في القطع هذا أمر يُزري بالسيف، إذ لا مُقارنة بينهما.

ثم إن قوله: لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون فالمغفرة هنا والرحمة -كما سبق- جاءت مُنكرة، يمكن أن يكون في هذا دلالة أيضًا على معنى زائد، عكس المعنى السابق، لمغفرة عظيمة ورحمة عظيمة هذا المعنى الذي ذكرته، وبعض أهل العلم، فهم منه أن النكرة هنا تصدق على أدنى ما يُمكن أن يكون من المغفرة أو الرحمة، أقل ما يحصل للإنسان من هذا خير مما يجمعه أولئك مُطلقًا، فرحمة الله إذا نزلت بالعبد، ومغفرته إذا حصلت، فلا شك أن الإنسان يكون قد حاز السعادة.

ولاحظ بنفس الصيغة وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُون [آل عمران:158]، ولاحظ جاء بهذه الصيغة التي تُفيد الحصر لإِلَى الله تُحْشَرُون ما قال: تُحشرون إلى الله، فتقديم ما حقه التأخير يُفيد أو يُشعر بالحصر، فالحشر إلى الله وحده لإِلَى الله تُحْشَرُون، وهذا بالنسبة لأهل الإيمان فيه ترغيب، وذلك أنهم يُحشرون إلى أرحم الراحمين، يُحشرون إلى وليهم، فيُجازيهم الجزاء الأوفى.

فبقاء الإنسان في هذه الحياة -أيها الأحبة!- دار الابتلاء والاختبار والامتحان كما قال الله : لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [سورة الملك:2]، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون [الذاريات:56]، فهي دار عمل، ثم هناك دار الجزاء.

فلا بد -أيها الأحبة!- من الانتقال يومًا ما، لابد من هذا الانتقال، والناس كما نرى في كل يوم نودع بعضنا حتى يفنى الجيل، ولابد كما فنيت الأجيال السابقة، فيرد الناس القيامة بأعمالهم التي حصلوها في هذه الحياة الدنيا، مكان العمل هنا، هنا مكان العمارة للآخرة، وهناك الجزاء والحساب.

فما يتكاثر به الناس في هذه الحياة الدنيا، وما يجمعونه، وما يتهافتون عليه من هذا المتاع الزائل كل ذلك لا شيء، وإذا جاءت سكرة الموت عند ذلك تلاشى كل هذا عن الإنسان وتبدد، وعرف أنه كان في وهم كبير، وأنه لن يُخلصه في هذه الحال، لا المال ولا الولد ولا الأعوان، ولا غير ذلك، وإنما يُفضي وحده من غير شيء إلا العمل الصالح، أو السيء يُفضي إلى الله، ينتقل إلى الله، وهناك يتولاه ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب، وهناك يُجازي ويُحاسب من لا تخفى عليه خافية، هنا تخفى على الناس أشياء كثيرة، وقد يظهر الإنسان بغير ما يُبطن، ويُسر، لكن هناك تظهر الحقائق، ومُخبآت النفوس، وأعمال الناس، فتلك الدار الحقيقية.

 كيف ينتقل الإنسان بموت، أو بقتل في سبيل الله، لكن يُفضي بعد ذلك إلى المحشر، وليس له إلا ما قدم لا يرى إلى ما قدم، ولذلك أقول: العاقل الذي يريد أن ينفع نفسه ينظر في أعماله، وفي حاله، وفي مزاولاته، وفي غفلته، وفي ما يصدر عنه، وفي نياته، ومقاصده، ويُصلح ذلك كله قبل أن يُغادر في أي لحظة، والمُغادرة لا يدري الإنسان يكون في بحبوحة من العيش، وفي رغد، ونعمة يكون لربما ضاحكًا مع أهله أو أصحابه، أو غير ذلك، ثم بعد ذلك في لحظة، أو في حادث، أو نحو ذلك، وهو لربما في طرب، ولا يستطيع تلك اللحظة أن يتوب، ولا يستطيع أن يوصي، ولا أن يرجع إلى أهله ليودع، هذا أمر مُشاهد، ماذا ينتظر الإنسان بعد العافية؟ وماذا ينتظر بعد الإمهال؟ وماذا ينتظر بعد الفراغ؟

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحُسن عبادته، وأن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. انظر: فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء، لابن عربشاه، (190).

مواد ذات صلة