الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
(185) قوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ...} الآية 163
تاريخ النشر: ٢٠ / رجب / ١٤٣٨
التحميل: 408
مرات الإستماع: 775

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

سبق الحديث عن قوله -تبارك وتعالى-: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير [آل عمران:162]، وبقي الحديث عن قوله بعدها: هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون [آل عمران:163].

هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ أولئك الذين ذكرهم في الآية قبلها الذين اتبعوا رضوان الله، والذين باءوا بسخط من الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه-، فهؤلاء يتفاوتون فأهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، وأهل الجنة يتفاوتون أيضًا في درجاتهم ومراتبهم، وأهل النار يتفاوتون أيضًا في دركاتهم، والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، فهؤلاء في الطبقة السُفلى، وكلما كانت الدركات أدنى كان العذاب أشد، وهكذا بالنسبة للجنة فإن الأمر يختلف كلما كانت الدرجة أرفع كان النعيم أعظم، فأعلى الجنة الفردوس الأعلى، وعرشه سقف الرحمن، ومنه تُفجر أنهار الجنة، وأرشدنا النبي ﷺ إذا سألنا أن نسأل الفردوس الأعلى؛ جعلنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين من أهلها.

هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ إذًا: لا يستوي من كان قصده رضا الله -تبارك وتعالى- والعمل بطاعته ومن كان واقعه الإيمان والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم مع من هو بخلاف ذلك، من يتبع هواه، ويُكب على مساخط الله -تبارك وتعالى-، فهؤلاء لا يستوون في حكمه ولا في حكمته، وكذلك أيضًا كما قال الله : أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُون [السجدة:18]، أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين [القلم:35]، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون [القلم:36]، لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُون [الحشر:20]، وذكرنا أن نفي هذا الاستواء محمول على أعم معانيه.

كذلك أيضًا إذا كانت الآخرة درجات: هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ فهذا ينبغي أن يتنافس في تحصيله المتنافسون، ويتسابق إليه المتسابقون، وأن تتوجه الهِمم لنيل ذلك، الناس في الدنيا يتنافسون على درجات علامات في الاختبار وما يحتف به أيهم يأتي بالنصيب الأوفر أو يصل إلى المستوى الأكمل، ولكن هذه الدرجات لا تُساوي شيئًا بالنسبة للدرجات في الآخرة، قد يتنافس الكثيرون في تحصيل الدرجات العلمية، ويتنافسون في الرُتب الوظيفية، فهذا حصل الشهادة الجامعية، وهذا حصل ما فوقها، وهكذا تجد في مختلف الوظائف والمراتب في الجامعات من المُعيد إلى الأستاذ، وفي المهن الطبية كذلك تجد الأخصائي وتجد من بعده، إلى أن يصل إلى المستوى الأعلى في مراتبهم من الاستشاريين ونحوهم.

وقل مثل ذلك في الرُتب والمهن المختلفة، هذه يتنافس كثير من الناس عليها، ولربما يحتفلون بتحصيلها، يُقيم وليمة ومأدبة وحفل أنه تخرج من الجامعة أو أنه حصل الماجستير أو الدكتوراه، أو ما فوقها، لكن هذه الدرجات هي التي نغفل عنها ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض! أصحاب الجنة يتراءون أصحاب الدرجات العُلى كما نتراءى الكوكب الغابر في الأُفق، في الدنيا الذي يُحصل موقعًا جيدًا يُقيم عليه بناء يسكنه كم يكون ارتفاع هذا الموقع المُطل كما يُقال كم يبلغ؟ يبلغ ثلاثين مترًا، أربعين مترًا، خمسين مترًا، مائة متر، درجات الجنة لا يمكن أن تُقارب هذا، وصاحب القرآن يُقال له: اقرأ وارق فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها[1]، هذا طريق في تحصيل الدرجات القرآن ومُلازمة القرآن والحفظ مع الفهم والعمل به.

وكذلك أيضًا الإيمان والعمل الصالح عمومًا، وقد سمى الله يوم القيامة بيوم التغابن، وهذا التغابن يقع بين الناس بصور ووجوه متعددة متنوعة، فالله -تبارك وتعالى- كما يقول الشيخ الأمين الشنقيطي -رحمه الله- صاحب "أضواء البيان"[2]، يقول: أعطى كل إنسان رأس مال يتجر به وهو هذه الأنفس هذه الحياة هذا العمر رأس مال، فهذا جد واجتهد واستغل كل لحظة بالعمل بطاعة الله ولم يُضيع من ذلك شيئًا فحصل أعلى المراتب في الجنة، والآخر استغل كل لحظة وجد واجتهد من أجل تحصيل مقعد في النار، فجاء الناس بأعمالهم فلقوا جزاءهم، والنبي ﷺ أخبر أن لكل أحد منزلين: منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا دخل أهل الجنة الجنة توارثوا منازلهم أخذوا منازلهم، وورثوا منازل أهل النار التي في الجنة، وإذا دخل أهل النار النار -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين- منها أخذوا منازلهم وورثوا منازل أهل الجنة التي في النار فذلك يوم التغابن[3].

هذا يأخذ منزل آخر في الجنة لمن كان في النار، وذاك الذي في النار يأخذ منزله ويأخذ منزلاً آخر في النار، هذا من أعظم الغبن، وكما ذُكر بأن الغبن في ثلاث وهذه من الصور الداخلة تحته، هذا الإنسان الذي ورث مالاً فأنفقه في طاعة الله فدخل به الجنة، وذاك الذي ورثه دخل به النار، يعني: أنه اكتسبه من غير حِله، وأنفقه، أو لم يؤدِ حق الله فيه فدخل النار، والذي أخذه بالميراث لم يتعب فيه، ولا في جمعه دخل به الجنة فهذا من الغبن.

وكذلك أيضًا المملوك الذي عمل بطاعة الله وطاعة سيده فدخل الجنة، والمالك قد يكون كافرًا فيدخل النار، فالسيد في النار والمملوك في الجنة، وقل مثل هذا قد يكون صاحب القصر أو صاحب الأملاك والثروة والعرض الكثير من الدنيا من الزروع والمراكب والنقود وغير ذلك قد يكون بعيدًا عن الله والخادم والأجير الذي يشتغل عنده أو السائق أو الخادمة التي تغسل وتُنظف وتمسح ونحو ذلك، تكون مؤمنة مُطيعة تدخل الجنة، وهذا يدخل النار، فذلك يوم التغابن.

وهكذا الذي يُعلّم العلم، -نسأل الله العافية- ولا يعمل بمقتضاه، ولا ينتفع به فيسمع الكلمة من ينتفع بها فيدخل الجنة وذاك يدخل النار، فذلك يوم التغابن.

هذا كله من التغابن بين الناس في الآخرة، فإذا كان الناس يتنافسون في هذه الدنيا بتحصيل الدرجات ويحرص الكثيرون على ألا يفوت من ذلك قليلا ولا كثيرا، ولربما يجزع ويحزن إذا فاته درجة واحدة في الاختبار، لماذا لا يُكمل عمله، ويُكمل حاله، تجده يأتي بخمسة من خمسة وهو عفيف الجبهة لا يصلي لله ولا يسجد، ولا يعرف الله ، ويفوت الصلاة، يسهر إلى الفجر ولا يذهب إلى الصلاة، هذا مُضيع وما عرف هذه المراتب التي ينبغي أن يُنافس عليها، فهذا هو الذي ينبغي العناية به والالتفات إليه.

وكذلك أيضًا فإن قوله: هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ فجعلهم درجات كأنهم نفس الدرجات ما قال هم على درجات هم على مراتب قال: هُمْ دَرَجَاتٌ، جعلهم نفس الدرجات مُبالغة في إظهار التفاوت بينهم، فيتفاوتون غاية التفاوت في الثواب والجزاء والعقاب وإلا فتقدير الكلام لهم درجات عند الله، لكن اختلاف هذه الأعمال صيرهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها كما يقولون.

واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون "بصير" بمعنى نافذ البصر، وفي هذا إثبات صفة البصر لله  على ما يليق بجلاله وعظمته، "بصير"، و"ما" بِمَا يَعْمَلُون هذه تُفيد العموم بكل أعمالهم فيدخل في ذلك عمل القلب، وعمل اللسان، وعمل الجوارح، فالله يرى العبد وينظر إليه، وهذا يبعث على المراقبة فيكون العبد في حال يعبد الله كأنه يراه قال فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذه مرتبة الإحسان أعلى المراتب فيستشعر الإنسان نظر الله إليه وهو يقرأ، وهو يأكل، وهو يضطجع، وهو يكتب، وهو يُصلي، وهو يتصدق، وإذا همّ بالمعصية ذكر نظر الله فاستحيا من الله، أو خاف فكان ذلك حاجزًا له من مواقعة المعصية، فلا يكون نظر المخلوقين بالنسبة إليه أعظم من نظر الله إليه، يتوارى من المخلوقين ويتحرج ويتحرز ويظهر أمامهم على أحسن حال، وإذا كان في خلوة لم يُبالِ بما قارف، فهذا لا يستشعر هذا المعنى أن الله بصير بالعباد، وبما يعملون، وما يصدر عنهم، هذا في كل شيء.

ابن عمر -رضي الله عنهما- يخرج مع مولاه إلى الصلاة ويخرج ذاك حاسرًا فيقول: تلقى الناس هكذا؟ قال: لا، قال: "فالله أحق أن يُتجمل له"[4].

وتقرؤون في تراجم بعض الصحابة والسلف الصالح فمن بعدهم أشياء عجيبة في هذا، أقرأ في ترجمة مثل تميم الداري إذا أراد أن يقوم الليل يلبس حُلة أحسن الثياب[5].

وجاء في ترجمة الصفي الهندي وهو من علماء المتكلمين من أهل الأصول أنه كان إذا أراد أن يُصلي الليل في بيته يلبس أجمل ثيابه، ويلبس حتى الجوارب، ويأخذ عصاه، بعض الناس العصا عندهم عُرف أنها للتجمُل، ولُقيا الناس ونحو ذلك، فيأخذ عصاه، وهو يريد أن يُصلي في البيت، يعني لا يُصلي بثوب النوم أو بالإزار أو نحو هذا وإنما يتجمل كأنه يلقى أعظم الناس، فالله أعظم من يُناجيه، لو نستشعر هذا المعنى لاختلفت صلاتنا، واختلفت آدابنا، واختلفت تغريداتنا، واختلفت هذه التغريدات التي يعتورها آفات من جهة المضامين، ومن جهة المقاصد والنيات، يعني: أحيانًا تكون كلام جميل مُنمق تعب الإنسان في تحريره، ورصف عبارته، والنية فيها شيء يريد أن يتجمل أمام الناس وينظر ماذا يُعلقون؟ هل يُعجبون بهذا الكلام؟ هل يُعيدون "رُتويت" كما يُقال لهذه التغريدة؟ وكما عدد الذين أعادوها وكرروها، وماذا يُغني عنه لو كررها ألف مليون، ثم ماذا في النهاية، إذا جاء يوم القيامة وهو خالي الوفاض، ويُحاسب على نيته، ويُحاسب على كتابته والمضامين، وإلى آخره.

فيحتاج العبد دائمًا أنه يُصلح حاله، ذكرنا هذا في الورع في الأعمال القلبية أشياء كثيرة يتعشى تقول: امرأته لو خطوت خطوات يقول: لم يُحضر فيها نية، يُدعى إلى صلاة جنازة يتوقف قليلاً يقول: حتى تحضرني نية[6]، يعني: إنسان أحيانًا يذهب إلى صلاة الجنازة من باب المجاملات الاجتماعية تسجيل حضور، يذهب إلى المقبرة يشيع الجنازة تسجيل حضور، ينتظر فقط يتخطفون أهل الميت لا يبقون عند القبر، والمشروع أنهم يبقون مدة حتى تُنحر الجزور ويُفرق لحمها، ولا يكاد هؤلاء يتمهلون قليلاً حتى يجذبهم الناس من أجل أن يُعزون ثم ينصرفون مسرعين راجعين، فهذا أحيانًا يبدأ العزاء قبل ما ينتهي الدفن، مع أن العزاء لا يختص أصلاً بما يكون بعد الدفن، العزاء يكون بمجرد وقوع المصيبة أو ما يقع الخبر يبدأ العزاء وليس انتظار الدفن حتى يُدفن ثم بعد ذلك يُعزى فيه، إنما العزاء بالمصيبة وكل ما كانت المصيبة أقرب وأكثر وقعًا أعظم كان العزاء فيها آكد، لكن الناس يفهمون هكذا أن العزاء يكون بعد الدفن فتجد يبدأ العزاء والجنازة لم يتم دفنها بعد.

أقول: أحيانًا نفعل مثل هذه الأمور من أجل مقاصد وإرادات غير ما عند الله -تبارك وتعالى-، من أجل الناس، ونظر الناس، ورضا الناس، ونحو ذلك، وهذا غير صحيح.

نصيحتي التي أختم بها في هذا وفي غيره دائمًا: اجعل أمرك كله لله ولا شأن لك بالناس، كل شيء اجعل أمرك لله ولا تُبالي بالناس ولا تلتفت إليهم ولا تصرف إليهم شيئًا من العمل ولا تُجمل القول من أجلهم، اقرأ في صلاتك الجهرية مثل ما تقرأ في السرية، الله يسمع ويرى، لا تكن قراءتك الجهرية جميلة وخاشعة ومجودة والقراءة السرية لا يكاد يُقيم الحروف فيها، ويركع على غير موضع يليق أن يركع عنده، يقطع المعنى ويبتره، ونحو ذلك.

أسأل الله أن لا يؤاخذنا، وأن يعفو عنا، وهذه الأشياء التي أقولها لا يعني أني متحقق بها -ما شاء الله- أبدًا، وإنما الإنسان يعظ نفسه، وينصح إخوانه، وقد يكون مثل هذا النصيحة سببًا لتغيير الحال وإصلاح النفس، وأسأل الله أن يلطف بنا وأن يُعيننا على أنفسنا، إنه سميع مُجيب، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب فضائل القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (2924)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2240).
  2. نظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (8/112)، و(9/90).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يسمع خفق النعال، برقم (1338)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم (2866).
  4. شرح معاني الآثار (1/378)، برقم (2221).
  5. انظر: صفة الصفوة (1/289).
  6. انظر: إحياء علوم الدين (4/374).

مواد ذات صلة