الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
(168) تتمة قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ...} 153
تاريخ النشر: ٢٤ / جمادى الآخرة / ١٤٣٨
التحميل: 349
مرات الإستماع: 1066

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ما زال الحديث متصلاً في الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153] وقد تحدثنا عن صدر هذه الآية الكريمة؛ وذلك قوله -تبارك وتعالى-: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ يعني: ولا يلوي أحد على أحد، فالكل يريد النجاة بنفسه.

فيُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ شجاعة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وهكذا ينبغي أن يكون القائد والقدوة، فهو كان في أخراهم، حيث لم يفر -عليه الصلاة والسلام-، والذي يكون في آخر القوم وهم في حال هزيمة، يكون أقرب مما يلي العدو، وذكرنا شواهد لذلك كما في وقعة حنين، حيث لم يبق معه إلا نحو عشرة من أصحابه، وكان يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب[1]، وهو -عليه الصلاة والسلام- على بغلة، لا تحسن الكر والفر.

وقوله -تبارك وتعالى-: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ فهنا الغم جاء منكرًا فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ فيفيد التعظيم، فهو غم عظيم، وكأن الأقرب -والله تعالى أعلم- بأن المراد هو ما أشيع وأذيع من أن النبي ﷺ قد قتل، فكان ذلك سببًا لأعظم الغم الذي وقع في نفوسهم، بعد الغم الأول الذي كان بسبب فوات الغنيمة، وحصول الهزيمة، ووقوع القتل والجراح، فلما جاء هذا الغم الثاني، وهو أعظم منه، أنسى الأول، فكان ذلك من رحمته -تبارك وتعالى- بهم، أن أنساهم غمًّا واقعًا بسبب حقيقي واقعي، وهو فوت النصر، ووقوع الهزيمة والجراح والقتل، والغم الثاني كان على أمر لا حقيقة له، فلما انكشفت الحال، وأن النبي ﷺ لم يقتل، كان ذلك سببًا لتسلية نفوسهم، فسرى عنهم ذلك الغم الأول؛ لأنه قد أنساهم الغم الثاني، الذي تلاشى بعد ما علموا حقيقة ما قيل، وأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يصب بمكروه، وأنه حي يرزق، فكان ذلك مجليًا لغمهم الأول، وهذا لا شك أنه علاج للنفوس من أوصابها، وهو من أسباب زوال الألم والحزن، وما إلى ذلك، مما يقع للإنسان، وهو شيء مشاهد، فالإنسان قد يعاني من ألم به، من وجع ضرس، أو صداع رأس، أو ألم بطن، أو نحو ذلك، ويتوجع، ثم يأتيه نبأ أو خبر مفجع وقع لبعض أهله، أو يُخبر أن حريقًا في الدار، أو يخبر بأن حادثًا وقع لأحد أولاده، أو نحو ذلك؛ فينسى ألمه، وينطلق لا يلوي على شيء، ولا يجد من ذلك الألم قليلاً ولا كثيرًا، فإذا انكشفت الحال عن كون ذا الذي قيل لا حقيقة له، فإنه يكون قد نسي ألمه الأول، وانجلى الغم الذي هو أعظم منه، ولو كان للثاني حقيقة، فإنه ينشغل به، وينسى الأول، وهذا له شواهد في الواقع، نعرفها، ولا حاجة لذكر ذلك؛ لأنكم تعلمون ذلك، فهذه طريق في علاج أوصاب النفوس.

ثم إن الله -تبارك وتعالى- علل ذلك بقوله: لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ هذا يفيد التعليل، وكما ذكرنا في بعض المناسبات أنه كثير في القرآن، والله -تبارك وتعالى- لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، وهو الحكيم، فكان ما جرى من إشاعة أن رسول الله ﷺ قد قتل حكمة عظيمة، قد لا يتصورها هؤلاء الذين وقع لهم هذا البلاء في حينه.

وقوله -تبارك وتعالى-: لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ أي: ما فاتكم من النصر والغنيمة، وما أصابهم من الهزيمة والقتل والجراح، ومن هنا فإن ذلك يعطي للمؤمن درسًا بليغًا، وهو أن الحزن ينبغي أن يدفع، ووسائل دفعه متنوعة لا تخفى، ومن أعظمها: الإيمان بالقضاء والقدر، والعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن هذا الحزن لا يرد فائتًا، ولا يحصل به مطلوب، وإنما هو ألم يعصر القلب، فيضعفه ويقعد صاحبه عن مطالبه الدنيوية والأخروية، فلا فائدة فيه؛ ولهذا نهى الله رسوله ﷺ عن الحزن، ونهى أهل الإيمان عنه، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6] وقال: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا [آل عمران:139] وهنا فعل بهم ما فعل؛ لكيلا يحزنوا، فهذا الحزن أو الغم الذي دفعه الله بغم آخر من أجل ألا يحزنوا؛ وذلك أن بقاء هذا الحزن في النفوس سبب لضعفها وقعودها؛ ولذلك فإن العاقل لا يصح بحال من الأحوال أن يسترسل مع الحزن، إما باجترار الأمور والذكريات الماضية التي تؤلمه، فيستجر الحزن بذلك، ولا خير له فيه، ولا ينتفع بذلك، وأسوأ من هذا ذاك الذي يبحث عن الحزن ويطلبه، كأن يسمع قصائد تجلب الحزن، وهذا موجود للأسف، أو يكون ذلك بتتبع مشاهد وصور وأخبار مؤلمة وقعت في أنحاء المعمورة، مما تنقبض له النفوس، وتتحول إلى حال من الألم والحزن والأسى، وهذا غير مطلوب، والناس في هذا يتفاوتون، وقد يكون ذلك بسبب قراءات يقرأها، أو أخبار يتلقاها من الناس، ولو كان هذا الخبر غير حقيقي، أو غير موثق، وقد يكون موثقًا، لكن لا مصلحة في نشره، أو يلقي إليك كلامًا قيل فيك، مما يسوؤك، فلا تكاد تلقاه إلا ومعه شيء مما يكون سببًا للحزن، فمثل هذا مباعدته شفاء وعافية، ومقاربته داء، فإن كان ذلك عبر وسائل التواصل، فليس يعدل السلامة شيء، فيمكن للإنسان أن يغلق هذه الطريق، أو النافذة التي يصل إليها، فينبغي أن يكون للإنسان فقه كيف يتعامل مع مثل هذه الحالات؟ وما الذي يقرأه ويشاهده ويتلقاه؟ ومن الذين يخالطهم؟ فينبغي للإنسان أن يخالط من يقوى قلبه بمخالطتهم، ويبعث فيه الأمل، وإذا رآه ذكر الله ، فيعينه على الطاعة، والخير والمعروف والبر، ويفتح الآفاق أمامه والأمل، ويكون فأله حسنًا، دون من إذا جلست معه كدرك، فتخرج من المجلس وأنت في حال من الحسرة والأسى والحزن، وترجع إلى أهلك بوجه غير الذي خرجت به، متكدر متغير المزاج، فما الفائدة من هذه المجالس التي يدور فيها مثل هذه الأمور المؤلمة المزعجة؟ فالعاقل يبتعد عنها، فجالس من يبعث الفأل في نفسك، ومن يذكرك بربك، ومن تنتفع بلقائه ومقابلته، أما مجالس النياحة، ومجالس الحفر في القلوب بالأسى، فإن ذلك لا يورث أصحابه خيرًا، وفي النهاية يتراكم ويورث اليأس والقنوط والإحباط، ويكون صاحبه متشائمًا، ينظر إلى الحياة والمستقبل على أنه شر محض، لا خير فيه، ويسئ الظن بربه -تبارك وتعالى-، وبما جاء من الأخبار الصحيحة بعز الإسلام ونصره.

وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ خبير هذه صيغة مبالغة، على وزن (فعيل) والخبير هو الذي يعلم الخفايا والخبايا، ومخبآت النفوس، وإذا علم العبد أن ربه -تبارك وتعالى- خبير، فإنه يراقب حركات النفس، ويراقب أيضا ما يصدر عن لسانه، وما يعتلج في قلبه، وما يقع من جوارحه، ولو كان في ظلمة الليل، ولو كان في مكان لا يراه أحد، ولو كان في سفر بعيد، ولو كان في بادية وصحراء، أو في جبل، أو في غابة، فالله -تبارك وتعالى- خبير، ثم جاء بصيغة العموم بِمَا فـ(ما) هذه تدل على العموم بكل الأعمال، سواء كان ذلك مما يسر به الإنسان، أو يظهره، أو كان ذلك مما يعمله بجوارحه، أو يقوم في قلبه، أو كان مما يصدر عن لسانه، أو مما يكتبه بقلمه، أو بهذه الوسائل تحت أسماء مستعارة، وأسماء غير حقيقية، فالله خبير، إذن ليس هناك طريق -أيها الأحبة- في التعامل مع مثل هذا إلا بتجريد الإخلاص لله رب العالمين، لا يكون في القلب التفات لغيره، فالإنسان قد يعمل أعمالاً في الظاهر صالحة، ولكنه في الواقع يرائي فيها، ويسمع، وذلك من أعظم الجرم، فالله خبير، فهذا الذي يتعبد ويصوم ويصل ويدفع المال، وينفق، أو نحو ذلك، فالله يعلم حاله، فليس هناك إلا تصحيح القصد والنية، وتصفية هذه القلوب عما قد تنطوي عليه من الرذائل والمدنسات، فأنت تتعامل مع من لا يخفى عليه شيء، فاجعل أمرك لله، ووجهتك لله، ولا تلتفت إلى المخلوقين، ولا تنظر إليهم، ولا تتزين للمخلوق بقليل ولا كثير، فلن ينفعوك، ولن يدفعوا عنك، والله مطلع على ما في نفسك، تتزين لمن؟

الإمام أحمد -رحمه الله- لما قيل: إن فلانًا يريد أن يلقاك، قال: وما نفعل باللقاء يتزين لي وأتزين له؟[2]، يعني: في الكلام، وآخر يجلس مع صاحبه ويقول له صاحبه: مجلس ذكر، ويقول: أرجو أن يكون هذا المجلس بركة علينا، لكن الآخر يرى غير ذلك، فيقول: أي بركة وقد أخرجت أحسن ما تجد من الكلام، وأيضًا أخرجت لك أحسن ما أجد من الكلام، يعني: تزينت لي، وتزينت لك، فالإنسان حينما يجمل كلامه من أجل الآخرين، أو يجمل الكتابة وينمقها من أجل أن يعجب، فلا شك أن الكلام يراد الفصاحة مزية ومنقبة، والكتابات القوية، والكتابات الجيدة والمتميزة، هذا مطلب، لكن إن كان من أجل أن الناس يثنون، ويقولون: فلان صاحب قلم متين، وصاحب علم واسع، ونحو ذلك، فهذا له ما نوى، فهو يتعامل مع الخبير، فالقلب يجرد من كل هذه الإيرادات والمدنسات، والجوارح تنظف، واللسان ينظف، واليد لا تكتب شيئًا إلا يكون مرضيًا؛ لأن الخبير مطلع عليه، فالعمل يشمل هذا كله، يشمل عمل القلب، وعمل اللسان، وعمل الجوارح، بل يشمل العزم المصمم، وهو من عمل القلب، وفي الحديث: القاتل والمقتول في النار قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتله صاحبه[3]، فكانت المؤاخذة بسبب العزم، مع أنه لم يقتل، وهكذا أيضًا الترك فعل:

لئن قعدنا والنبي يعمل فذاك منا العمل المضلل[4]

فسمى القعود عملاً، يعني كان النبي ﷺ يبنى مع أصحابه مسجد قباء أول ما قدم المدينة، فكان أحد الصحابة ينظر وهو جالس، ثم قال:

لئن قعدنا والنبي يعمل فذاك منا العمل المضلل

فسمى القعود عملاً، والله يقول: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79] فسمى ترك التناهي فعلاً، وقال: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63] فسماه صنعًا، والصنع أدق من العمل، فهو عمل بإتقان وحذق، والله المستعان.

وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ومن ذلك ما وقع منهم من الفرار والهزيمة والتنازع والمعصية.

وذكر مثل هذا التذييل في الآية: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ هو علم ذلك، وأحاط به، لكن ماذا بعده هذا يدل على المحاسبة، وأنه سيحاسب عليه، فحينما تقول لمن تحت يدك: أنا عالم بكل ما يصدر عنك، أو أنا عالم بكل ما يصدر عن فلان، معنى ذلك: أنك ستحاسبه عليه، وأنا أعجب من حالنا نرقب المخلوقين، يقف الإنسان عند الإشارة خشية هذه الكاميرا، وبكل حذر، وربما يقف بطريقة أشبه ما تكون بالوسوسة، ويتسبب ذلك بحوادث لمن خلفه، طيب وأين حدود الله ؟ المعصية والنظرة المحرمة، وكل هذا خطوط حمراء، لا يجوز للإنسان أن يتجاوزها؛ لأنها حدود الله، فكيف يتعداها الإنسان ويجترئ على ربه -تبارك وتعالى-؟

ثم فيه أيضًا الرد على الجبرية، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ فأضاف العمل إلى المخلوقين، وهؤلاء يقولون: الإنسان مجبر على عمله، وفيه رد أيضًا على غلاة القدرية الأوائل الذين كانوا يقولون: إن الله لا يعلم ما سيكون من أعمال العباد، فينفون العلم وهؤلاء انقرضوا، فالله قد علم ذلك جميعًا.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب من قاد دابة غيره في الحرب برقم (2864) ومسلم كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين برقم (1776).
  2. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (11/216).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] برقم (31) ومسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفهما برقم (2888).
  4. البيت في العقد الفريد (5/90) ونهاية الأرب في فنون الأدب (16/344).

مواد ذات صلة