السبت 26 / جمادى الآخرة / 1446 - 28 / ديسمبر 2024
(189) قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ...} الآية، وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا...} الآيات 166-167
تاريخ النشر: ٢٤ / رجب / ١٤٣٨
التحميل: 480
مرات الإستماع: 1051

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما بين الله -تبارك وتعالى- أن ما أصاب المؤمنين في يوم أُحد من الهزيمة والقتل والجراح أن ذلك من عند أنفسهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير [آل عمران:165]، ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعدها موضحًا أن ذلك يرجع أيضًا إلى قضاء الله وقدره: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ، ثم ذكر الحِكم التي علمها سبحانه وتعالى فقال: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِين ۝ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُون [آل عمران:166-167].

هذه الآيات في هذا السياق الذي يتحدث عن هذه الغزوة وما وقع فيها من الهزيمة، وما فيها من الدروس والعِبر، ففي الآية السابقة التي سبق الحديث عنها بين لهم أن ذلك إنما هو نتيجة لذنوبهم: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ، ثم قال: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ما حل بكم وما نزل ووقع من الجراح والقتل والهزيمة وفوات النصر، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ التقى جمع المؤمنين وجمع الكافرين على أرض المعركة عند أُحد، فَبِإِذْنِ اللّهِ فذلك بقضائه وقدره، والمقصود بالإذن هنا الإذن الكوني، وليس المقصود به الإذن الشرعي، فالإذن يأتي تارة لهذا وتارة لهذا، وقد يُراد به هذا وهذا معًا، فقوله -تبارك وتعالى-: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الحشر:5].

فهذا فسره بعضهم بالإذن الشرعي أن الله أباح لهم مثل ذلك في الحرب إذا دعت الحاجة إليه قطع الأشجار، أو النخيل فاللينة هي النخلة على خلاف بين المفسرين في تحديدها.

وفسره بعضهم بالإذن الكوني، والأقرب أنه مُفسر بهما معًا، فالله أذن بذلك شرعًا؛ لأنه أقره، وكذلك أذن به كونًا وإلا لم يقع، فَبِإِذْنِ اللّهِ، وهنا الإذن الكوني: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ يعني بقضائه وقدره؛ لأن كل شيء إنما هو بقضاء وقدر، لا يقع في هذا الكون صغيرة ولا كبيرة، ولا تحريك ولا تسكين إلا بقضاء الله -تبارك وتعالى- وتقديره، فالملك ملكه والخلق خلقه.

وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِين المقصود بالعلم هنا كما ذكرنا في بعض المناسبات: علم الوقوع؛ العلم الذي يترتب عليه الجزاء؛ لأن الله -تبارك وتعالى- كما هو معلوم يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فإذا جاء مثل هذا في كتاب الله وليعلم كذا: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِين فإن ذلك محمول على هذا المعنى العلم الذي يترتب عليه الجزاء وهو علم الوقوع؛ لأن الله لا يُجازيهم بمقتضى علمه السابق من كمال رحمته وعدله، وإنما يُجازيهم ويُحاسبهم إذا صدر ذلك عنهم ووقع: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِين فيظهر ذلك عيانًا ويتميز أهل الإيمان من غيرهم.

وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ فيظهر نفاقهم فالله عالم بهم قبل ذلك لكن ذلك بمعنى الظهور والانكشاف الذي يترتب عليه الجزاء، وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ، يعني: حينما قال لهم المؤمنون لما رجع عبد الله بن أُبي بثلث الجيش من بعض الطريق، لم يصل إلى أُحد، فقال لهم أهل الإيمان: تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ فُسر ذلك -فسره بعض أهل العلم- بتكثير سواد أهل الإيمان قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ، يعني: أنهم كذبوا، وقالوا: لن يكون هناك قتال، لو نعلم أنه سيكون قتال لاتبعناكم وأتينا إلى أرض المعركة، فبين الله حقيقة ما يُضمرون وأظهر هذه المُخبآت في النفوس فصارت بادية للعيان، فقال الله -تبارك وتعالى-: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ، يعني: في ذلك اليوم هم في حال من الريب والنفاق بحيث إنهم أقرب إلى الكفر، يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ مما يقولونه لو نعلم قتالاً لاتبعناكم وهم يعلمون أن القتال سيقع.

وكذلك أيضًا يقولون بأفواههم من دعاوى الإيمان، وليس ذلك بمستقر في نفوسهم.

وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُون، أعلم بما يُخفون في صدورهم ويُضمرون.

يؤخذ من هاتين الآيتين من الفوائد: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ، أن كل شيء بقضاء وقدر، فعلى المؤمن أن يصبر وأن يرضى ويُسلم؛ لأن القضاء إذا نفذ فلا عمل بعد ذلك إلا التسليم هذا فيما لا مدفع له، وإلا فإن ذلك على التفصيل يُقال من هذا الباب ما لا عمل للعبد معه، فما عليه إلا أن يصبر ويُسلم ويرضى بقضاء الله وقدره، مثل ماذا؟

نزل الموت بقريبه بحبيبه بولده بامرأته أو غير ذلك، فهنا لا مدفع له، نزل الموت به مات، ففي هذه الحال ليس ثمة إلا الصبر والتسليم والرضا.

النوع الثاني: وهو ما يُمكن مُدافعته كالجوع يُدفع بالأكل، والعطش يُدفع بالشرب، والمرض إذا كان يمكن أن يُمكن أن يُداوى ويُعالج فإن الإنسان يتطبب، ويتناول الدواء: تداووا عباد الله[1]، فهذا أمر من النبي ﷺ مع أن المرض بقضاء الله وقدره فيُدافع بهذا، وهكذا أيضًا ما يقع من الشرور والمنكرات والفساد ونحو هذا فإنه يُدافع بالإصلاح والاحتساب: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ [الحج:40]، لا بد من المُدافعة، فهذا مما يُدافع، وهنا قال الله : فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِين.

فقوله: فَبِإِذْنِ اللّهِ هذا فيه تسلية لأهل الإيمان أن ما وقع لكم يوم أُحد هذا الحادث المؤلم هو بقضاء الله وقدره، فإذا علم العبد ذلك اطمأنت نفسه؛ لأنه يعلم أن أقضية الله عادلة، وأن الله لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له: عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له[2]، فهو حيث ما تقلب على صوف.

وكذلك أيضًا يعلم المؤمن أن الله حينما يُقدر عليه ما يكرهه فقد يكون في مضامين ذلك الخير العظيم: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ [البقرة:216]، وهكذا: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِين وليعلم المؤمنين أن هذه الأقضية التي تحصل بما فيها من الأمور المكروهة فإن هذا بلا شك أنه أمر يحصل بسببه التمييز والتمحيص بين أهل الإيمان وغيرهم، يعني: يظهر ينكشف يتضح المؤمنون ويتضح أهل النفاق، ففي وقعة الأحزاب في هذا الحصار والشدة ماذا قال المنافقون؟ وماذا قال المؤمنون؟

المؤمنون: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، ما الذي رأوه؟

أرجح الأقوال هو ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن المقصود أن ما وعدهم الله هو الابتلاء الذي يعقبه التمكين والنصر[3]، فإذا رأى المؤمن الابتلاء تذكر هذا مُباشرة: ولنبلونكم فهذا وعد من الله بالابتلاء فهنا: قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22].

أما أهل النفاق فقالوا: مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزاب:12]، فهذا هو الفرق بين الفئتين، هؤلاء كذبوا الوعد، وأولئك صدقوا حينما رأوا الشدة والحصار والأعداء قد جاءوا من كل ناحية.

وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ لاحظ الفرق بين قوله: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِين، جاء بالاسم وذلك يدل على الثبوت والرسوخ مما يدل على أن إيمانهم كان راسخًا حينها.

وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ فجاء هنا بالفعل الماضي نافق فدل على أن فعلهم هذا يتجدد، فالمنافق يتلون مع الأحداث مع من تكون الغلبة بحال الشدة يكون له لون ومنطق، وفي حال الرخاء يكون له لون ومنطق، فهو كما قال النبي ﷺ: مثل المنافق، كمثل الشاة العائرة[4]، فهو متُردد بين الفئتين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهو معنى غلب كما قال الله في وقعة الأحزاب: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم يعني: المدينة، مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا [الأحزاب:14]، يعني: لو طُلب منهم الردة والكفر لا يحتاج معهم هذا إلى شيء من التفكير والتريث والتلبُث وإنما يُبادرون إلى ذلك مُباشرة.

وكذلك أيضًا: وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ فالشدائد تُظهر مُخبآت النفوس وينكشف أهل النفاق، وهذا أمر مُشاهد ولذلك ذكرت في بعض المناسبات عبارات كثير من المؤرخين عبارة بعد الأحداث الكبار يقولون: "وظهر ونجم النفاق"، يظهر النفاق إذا جاء العدو واستولى على البلاد يظهر النفاق، فيتسابق هؤلاء إليه إلى العدو يمدون أيديهم إليه، كل واحد يقول: أنا أُقدم من الخدمات أكثر مما يُقدمه غيري.

وتكثر الوشايات وقالة السوء والتثبيط والوقيعة بأهل الإيمان، ويجترئ من لا خلاق له ولا شأن فيتكلم بكلام ما كان ليجترئ عليه قبل ذلك.

فهنا يظهر النفاق، ولولا مثل هذه الأحداث العِظام والشدائد الكبار لما تميز الناس، ولما عُرف الصادق من الكاذب، فبعد كل شدة يتساقط كل ركيك الإيمان، ضعيف اليقين، متردد في مبدئه، غير واثق من دينه الذي زعم أنه اتبعه وآمن به، فيتساقطون حتى يتميز ويتمحص الصف، فلا تبتئس هؤلاء غير مأسوف عليهم إنما هو تطهير للصف وتنظيف وتنقية، وفي النهاية الفئة الصادقة التي تثبت هي التي تنتصر، ولولا هذه الشدائد لدخل مع أهل الإيمان من هب ودب ودرج، ولذلك انظروا في قصة بني إسرائيل التي قصها الله في سورة البقرة لما طلبوا من نبي لهم أن يبعث لهم ملكًا يقاتلون في سبيل الله فلما بعث لهم طالوت ملكا اعترضوا على هذا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا [البقرة:247]، قبل ذلك تولوا إلا قليلاً منهم، استثقلوا هذا الفرض -فرض القتال عليهم- وهم الذي طلبوه فتساقط جماعة منهم.

ثم بعد ذلك لما اختار لهم طالوت اعترض من اعترض، ثم بعد ذلك لما ابتلوا بالشُرب من النهر تساقط كثيرون، ثم بعد ذلك لما كانوا أمام عدوهم تساقط أيضًا كثيرون: قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ [البقرة:249]، من الذي بقي بعد هذا التساقط في هذه المراحل التي حصل فيها هذه التصفية والتنقية؟

بقيت الفئة القليلة هم الذين انتصروا بالنهاية، فهؤلاء الذين لربما يُكثرون السواد من غير جدوى ولا يقين ولا عمل حقيقي مؤثر كما قال الله : وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً [الأحزاب:18]، فهم كما وصف الله وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ [المنافقون:4]، فهم أشباح بلا أرواح، وجسوم بلا فهوم، لكنهم يُضيقون المكان، ويكونون عبئًا على أهل الإيمان.

وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ قالوا ذلك كذبًا يعتذرون به، ولا حقيقة له، ولا ثبوت في دواخل نفوسهم، وهذا يدل على التكذيب هنا: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أضافه إلى الأفواه أنه قول لا حقيقة له ولا يجاوز ذلك إلى القلوب، إنما هي مجرد أقوال كاذبة ليس لها ما يُصدقها ويُحققها لا من الخارج في الواقع، ولا في داخل نفوسهم فهم كذبة، ويعلمون أنهم كذبة، والناس أيضًا يعلمون أنهم كذبة.

هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ هذا يدل على أن الإنسان تكون له أحوال، ففي بعض أحواله يكون أقرب إلى الكفر، وفي بعض أحواله يكون أقرب إلى الإيمان، فيحصل للإنسان من التحولات ما يكون معه تارة منافقًا وتارة كافرًا كما قال النبي ﷺ حينما ذكر الفتن: يصبح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرا، ويُمسي مؤمنًا ويُصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا[5].

فهذه الآية تدل على هذا المعنى، أحوال الإنسان وأنه يتردد بين إيمان ونفاق، وقد يصير إلى كفر ظاهر واضح.

وكذلك أيضًا تدل هذه الآية على أن الإيمان يزيد وينقص، كذلك أن الإنسان قد يصدر عنه في بعض أحواله ما يدل على نفاق، لكن قد لا يكون حاله قبل ذلك كذلك، وقد لا يثبت على هذه الحال.

كذلك أيضًا: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُون أعلم بما يكتمون من النفاق والكذب والكراهية للمؤمنين، وكراهية حضور البأس إلى غير ذلك مما يُضمرونه في أنفسهم من النفاق والشر والكفر ومعاداة الله ورسوله وعباده المؤمنين.

وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُون فالله لا يخفى عليه شيء، لكن هؤلاء المنافقين لا يفقهون ولا يعقلون ولا يعلمون، ولذلك لشدة غبائهم أخبر الله -تبارك وتعالى- عنهم في الآخرة أنهم حينما يقوم الناس لمحشرهم ويقوم هؤلاء من قبورهم مُباشرة يحلفون: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ [المجادلة:18]، يعني: حتى يوم القيامة يظنون أن الأمر مثل الدنيا: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ [المنافقون:2]، اتخذوه وقاية مثل التُرس إذا وجهت إليه التُهمة حلف، فهو يظن أن الآخرة مثل الدنيا، وأن ذلك سينطلي على الله -تبارك وتعالى- فيقومون يوم القيامة يحلفون جاهدين بأنهم كانوا على الإيمان، ولكن الله -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه شيء.

هذا، وأسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه ابن ماجه، أبواب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم (3436)، وأحمد في المسند، برقم (18455)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل المطلب بن زياد، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2930).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، برقم (2999).
  3. انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (6/392).
  4. أخرجه مسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2784).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، برقم (118).

مواد ذات صلة