الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما أبطل الله -تبارك وتعالى- مقالة المنافقين بقوله: الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين [آل عمران:168] حين عبروا عما جرى لإخوانهم بالقتل، فقالوا مقالة باطلة، وهي أنهم لو أطاعوهم ما قتلوا، وهذا غير صحيح، كما سبق.
ثم قال الله -تبارك وتعالى-: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون [آل عمران:169-170] الآيات.
فقوله: وَلاَ تَحْسَبَنَّ أي: لا تظننّ أيها النبي، أو أيها المخاطب أن الذين قتلوا في سبيل الله أموات، بل هم أحياء حياة برزخية، عند ربهم الذي بذلوا من أجله، وقاتلوا من أجله، وفي سبيله، يجري عليهم رزقهم في الجنة، ويُنعمون فيها، وهذا كما جاء في الحديث الصحيح عن أرواح الشهداء: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل[1]، والله -تبارك وتعالى- يُفيض عليهم من ألوان النعيم.
وكذلك أيضًا جاء في الحديث في الشهداء الذين ذكر حالهم: فاطلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا[2]، فطلبوا أن يرجعوا إلى الدنيا من أجل أن يقتلوا؛ لما رأوا من جزاء ذلك، وموفور الثواب عند الله .
وكذلك أيضًا طلبوا أن يُبلغ عنهم إخوانهم بأنهم لقوا ربهم، فرضي عنهم وأرضاهم، بلغوا عنا قومنا: أنا لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا[3]، فهؤلاء الشهداء لهم حياة برزخية أكمل من حياة من يموت حتف أنفه من المؤمنين، مع أن النبي ﷺ صح عنه: أنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة[4]، وما ذكره عن الشهداء أكمل، فهذا يدل على ما قاله الله -تبارك وتعالى- بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون، فنهى عن الظن بأن الذين قتلوا في سبيل الله أموات، لكن تأمل قوله: قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فالنبي ﷺ سأل عن الرجل يُقاتل حمية، يعني لقومه، وغير ذلك من المقاصد، فذكر النبي ﷺ ضابطًا في هذا الباب، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله[5]، فهذا الذي يكون في سبيل الله، وهذه هي النية الصحيحة في القتال.
فلاحظ هنا: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فمن قاتل رياء وسمعة فهذا لا يكون في سبيل الله، وأخبر النبي ﷺ: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار[6]، يعني: من أجل أن يُقال: شجاع، وقد قيل، فهذا هو حظه من هذا العمل، فالناس قد قالوا: شجاع، -ما شاء الله!- فهذا الذي يُقاتل رياء وسمعة أو حمية لقومه، أو نحو ذلك كل هذا خارج عن هذا الوصف: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون فهنا نفى عنهم الموت، وليس معنى ذلك إثبات الحياة الكاملة التي يكون عليها أهل الإيمان في الجنة، وإنما الحياة البرزخية دون ذلك، وإنما يكون كمال النعيم للأرواح والأجساد بالجنة، أما في الحياة البرزخية فالنعيم يكون للأرواح؛ ولهذا ذكر النبي ﷺ: أرواحهم في جوف طير خُضر[7]، فالأرواح تُنعم في الجنة، والأجساد مدفونة في الأرض، لكن ينال هذه الأجساد من النعيم على سبيل التبع، ولكنه ليس كتنعُم الأرواح، وليس كتنعم الأجساد أيضًا في الدنيا، وكما ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: بأن دار الدنيا يكون النعيم فيها للأجساد في الأصل والأرواح تبع، وفي البرزخ للأرواح والأجساد تبع، وفي الجنة أو في النار يستوي عذاب الأرواح وعذاب الأجساد[8]، وكذلك نعيم الأجساد، ونعيم الأرواح، فهذا غاية النعيم، وغاية العذاب، فالمنفي هنا: أن يكون هؤلاء أموات، بمعنى أنهم لا شعور لهم، ولا إحساس، ولا تنعم ألبتة، قال: بَلْ أَحْيَاء يعني: الحياة البرزخية.
وقوله: عِندَ رَبِّهِمْ هذا يقتضي علو درجتهم، وقربهم من الله -تبارك وتعالى-.
وفي قوله: يُرْزَقُون التعبير بالمضارع يدل على أن هذا الرزق يتجدد حينًا بعد حين، وكذلك أيضًا هذا الإطلاق في الرزق، حينما قال: بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون ولم يقل: يُرزقون كذا، أو كذا، وإنما أطلقه، فدل على أنه يصلهم من أنواع النعيم الذي لا يعلم وصفه إلا من تفضل به وأعطاه، هكذا قال أهل العلم، مثل الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-[9].
ودلت هذه الآية: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون أنه يصح نفي الشيء باعتبار وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا فنفى عنهم الموت، مع أن أرواحهم فارقت الأجساد، لكن هذا باعتبار الموت الذي ينتفي معه كل شيء، فهؤلاء يتنعمون، ويلتذون بما يفيض الله عليهم من ألوان النعيم.
ثم قال: فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون يعني: أن هؤلاء يعيشون في سعادة وغِبطة؛ وذلك بما أعطاهم الله وأولاهم، فحصل لهم ما تقر به أعينهم.
وأيضًا فهم في حال استبشار بإخوانهم المجاهدين، الذين فارقوهم، وهم أحياء؛ ليفوزوا كما فازوا، وينالوا ما نالوا، فهم يتطلعون إليهم، وإلى مقدمهم، فهؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فلا خوف عليهم فيما يستقبلون من أمور الآخرة، ولا هم يحزنون فيما فاتهم من حظوظ الدنيا.
فقوله -تبارك وتعالى-: فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هذا يدل على أنهم يملكون شعورًا بعد قتلهم، وإحساسًا في حياة برزخية، ليس كالحي الذي لم تُفارق روحه جسده، ولكنها أمور غيبية، فأثبت الله لهم الفرح والاستبشار، فهذه شعورية وجدانية يجدها الإنسان في نفسه.
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم ولاحظ كيف سماه هنا: فضلاً؟ لأن الذي هداهم هو الله، والذي وفقهم هو الله، والذي كتب لهم هذه الخاتمة هو الله، فهو المُتفضل أولاً، والمعطي والموفق، فما يُعطيه لعباده -تبارك وتعالى- فهو فضل منه، وهو وإن سماه أجرًا في كثير من المواضع في القرآن، فذلك أيضًا من كرمه وجوده وفضله، يُعطي ويوفق، ومع ذلك يُسميه أجرًا، وإلا فمعلوم أن الإنسان مهما عمل، ومهما قدم، ومهما بذل، فهو لا يوفي نعمة من نِعم الله عليه، كالسمع أو البصر أو العقل أو العافية في بدنه، أو نحو ذلك.
كذلك أيضًا هذا يدل على أن كل النعيم حتى دخول الجنة هو فضل، كما قال النبي ﷺ: واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله قالوا: يا رسول الله ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه، وفضل[10]، ولو حاسب الله عباده لعذبهم، فهؤلاء الشهداء -أيها الأحبة- فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فرحين ذهبت عنهم حياة الكدر والتعب والآلام والجراح، وذهب عنهم الكبد في هذه الحياة الدنيا، وبقيت لهم حياة الصفاء، والراحة، والنعيم، فلا حزن يعتريهم، ولا خوف يُلم بهم، لا خوف عليهم لا يخافون في أرض المحشر، ولا حينما يقوم الناس من قبورهم، فهم آمنون.
وهكذا المؤمن الموفق الصالح المُخلص لله -تبارك وتعالى-، فإنه إذا مات لا حزن يصيبه، وتأمل حال هؤلاء لشدة صلاحهم، وما هم عليه من الخير العظيم، وأنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، يعني حتى بعد موتهم، فهم معنيون بإخوانهم، وبحسن عاقبتهم، وصلاح منقلبهم، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ فيتطلعون إلى هؤلاء، ويستبشرون بهم، فهم مغتبطون بفضل الله ، قارة عيونهم بذلك، فرحة نفوسهم به، لحُسنه وكثرته وعظمته، وكمال اللذة، وعدم المُنغصات، فجمع الله لهم بين نعيم الأبدان بالرزق، ونعيم القلوب والأرواح بالفرح والسرور بما آتاهم الله من فضل، فتم لهم ذلك من الوجهين، وإن كان -كما سبق- ليس كالنعيم الكامل، الذي يحصل في الجنة، لكن الناس -أيها الأحبة- يعرفون ما هم عليه وهم في قبورهم؛ ولذلك تجد المؤمن يقول: ربِّ أقم الساعة؛ لما يرى من النعيم، وتجد الكافر يقول: ربِّ لا تُقم الساعة، مع أنه يُعذب في قبره، لكن يرى أن هذا العذاب يسير بالنسبة لما ينتظره من الأهوال والأوجال، والعذاب العظيم، فالناس في القبور على أحد هاتين الحالتين، ربِّ أقم الساعة، أو ربِّ لا تُقم الساعة، والفُرصة -أيها الأحبة- سانحة في هذه الحياة، ما دامت هذه الأنفاس مترددة، يستطيع الإنسان أن يستدرك ويُراجع، والموت يأتي بغتة، ولا يدري الإنسان في أي لحظة يوافي؛ ولذلك ينبغي أن يُعد الإنسان عُدته لهذا الرحيل، ويجتهد في الأعمال التي تُقربه وترفعه، وإلا فإذا فارقت الروح الجسد انتهى كل شيء، وبقي الحساب والجزاء، وسيرى عند الموت الملائكة، ويرى أشياء كانت غائبة عنه، والقبر هو أول منازل الآخرة.
فنسأل الله أن يُحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن يختم لنا بخير، وأن يغفر ويرحم موتى المسلمين، وأن يتجاوز عنهم، وأن يرفع درجاتهم، ويُكفر سيئاتهم، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون برقم (1887).
- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون برقم (1887).
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب غزوة الرجيع، ورعل، وذكوان، وبئر معونة، وحديث عضل، والقارة، وعاصم بن ثابت، وخبيب وأصحابه برقم (4090).
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى برقم (4271) وصححه الألباني.
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا برقم (2810) ومسلم في الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا... برقم (1904).
- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار برقم (1905).
- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون برقم (1887).
- الروح (ص:52).
- تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:157).
- أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى برقم (2816).