الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما بيّن الله حال الشهداء بقوله: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون [آل عمران:169-170] قال الله -تبارك تعالى- بعد ذلك: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين [آل عمران:171] فهؤلاء الذين ينعمون بهذه الألطاف، ويفرحون بما آتاهم الله من فضله، مع استبشارهم بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم، فهم في سعادة وبهجة وفرح لما أعطاهم الله ، وأنعم وتفضل عليهم، بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ أعطاهم وزادهم، وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين بل يُجازيهم عليه أحسن الجزاء، ومن أسمائه: الشكور، فهو يُجازي بالإحسان إحسانًا، ويُضاعف الجزاء، وضرب الله المثل في ذلك، كما مضى في سورة البقرة في قوله: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء [البقرة:261] فهذه هي التجارة الرابحة والحقيقية، التي لا يوجد لها نظير في الدنيا، مع كونها مضمونة.
وفي قوله: وَيَسْتَبْشِرُونَ عُبر عنه بالمُضارع، فذلك يدل على التجدد، فهذا الاستبشار متجدد، وليس واقعًا مرة واحدة، وهذا يدل على تجدد متعلقه ومقتضاه، وأن هذه النعم تجدد وتتكرر، ويأتيهم ألطاف بعد ألطاف، ونِعم بعد نِعم، وأفضال بعد أفضال.
ولاحظ التنكير في قوله: بِنِعْمَةٍ فجاء مُنكرًا؛ وذلك يُفيد التعظيم، يعني: يستبشرون بنعمة عظيمة، ويكفي في بيان عظمتها: أنه أضافها إلى الله -تبارك تعالى-؛ لأن المُضاف إلى العظيم لا شك أنه عظيم، فالنعمة إذا أُضيفت إلى الله، فيدل على أنها نعمة بالغة وكبيرة وعظيمة، لا يُقادر قدرها.
ثم أيضًا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ النعمة هنا مفرد، ومن غير إضافة، إلا أن المفرد قد يُراد به الجنس، كما قال الله : أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء [النور:31] يعني: الأطفال، وقد يكون ذلك بالإضافة، كقوله في سورة النور أيضًا: أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61] يعني: أو أصدقائكم.
فالنعمة هنا جنس، فهي نِعم كثيرة في الجنة، ومتنوعة، وكما مضى في الحديث عن الشهداء: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل[1]، فأرواحهم تسرح في أنهار الجنة ونعميها، ثم بعد ذلك تأوي إلى هذه القناديل المعلقة بالعرش.
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ فهذه هي النعمة الحقيقية -أيها الأحبة-، وإذا ذهب الناس إلى شلال يرونه لأول مرة في حياتهم ابتهجوا، وإذا رأوا شيئًا من الخضرة، حينما يذهبون إلى مربع صغير فيه فيضة، أو فيه شيء من الربيع عما قليل يصفر، ثم بعد ذلك يكون حطامًا تذروه الرياح، فالأرض شهباء، وانظر إلى تهافت الناس عليها، وإلى قصدها من بعيد، وتفتنهم بتصوير كل شيء في تلك الناحية الصغيرة، وهناك في الجنة شيء آخر: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وتصور أجمل الأماكن في الدنيا، لا يمكن أن يُقارن بنسبة -ولو كانت متدنية- بنعيم الجنة وبهجتها.
ولاحظ أيضًا هنا: أُضيفت النعمة إلى الله، وهو مُعطيها، والمُتفضل بها، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ فهنا ينتفي رؤية النفس، والنظر إلى العمل، والاعتداد به، نعم العمل سبب، لكن كما قال النبي ﷺ: واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله قالوا: يا رسول الله ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه، وفضل[2].
ولم يكن هؤلاء بهذه المثابة إلا وقد تجردت نفوسهم من رؤية العمل، والإعجاب به، فهذا يدل على أنهم لا يرون لأنفسهم فضلاً، بل يرون المنّة لله -تبارك وتعالى-.
وتصور هذا الفضل ماذا يُقدر؟ وبماذا يكون؟ فحينما يُقال: بأن أُناس أتوا عظيمًا من العظماء، من البشر، فأنعم عليهم، فلك أن تتصور ماذا أعطاهم، وأنعم عليهم؟ أما إذا كانت النعمة من الله، فذلك شأن آخر، وإذا كان الفضل منه، فلا تسأل عن قدره وعظمته وكثرته وجودته.
وفي قوله: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين [آل عمران:169-171] فهذا كله في البرزخ.
فيستبشرون بالذين لم يحلقوا بهم، والذين هم على قيد الحياة، ومعناها: أن الساعة ما قامت، فهذا في البرزخ -أيها الأحبة-، فهؤلاء يستبشرون وهم في عالم البرزخ، ويتنعمون وهم في عالم البرزخ، فدل ذلك على إثبات نعيم القبر، كما دلت نصوص أخرى على إثباته، كما قال النبي ﷺ حينما مر بقبرين: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما: فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة[3]، هذا يُعذبون به، فذلك يدل على أن البرزخ فيه عذاب وفيه نعيم، وأنه ليس مجرد حفرة وتُراب يُهال على الإنسان، ثم بعد ذلك يُغادره أهله، وانتهى الأمر، ويُقال: إلى مثواه الأخير، فليس المثوى الأخير، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر [التكاثر:2] فهي زيارة، والزائر ما يلبث أن يرحل، هذه فهمها أعرابي، فكيف بأهل العلم وحملته، ومن فقههم الله في كتابه، فهنا يحصل للإنسان بعض نعيم، وبعض عذاب، ثم ينتقل بعد ذلك إلى النعيم الأكبر، أو إلى العذاب الأكبر، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل النعيم.
وفي قوله: وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين فلم يقل: وأنه لا يُضيع أجر المؤمنين، أعاد اسم الجلالة مُظهرًا في موضع يصح فيه الإضمار، مع التقارب بين الموضعين، لكن هذا في جملة مستقلة، وهذا في جملة مستقلة، وهذا سائغ عند البُلغاء والفُصحاء وهذا مفيد في هذا الموضع للعظمة.
وفي هذا التركيب وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين النفي مع الفعل بعده يدل على العموم، لاَ يُضِيعُ لا يضيع أي شيء من عملهم، ولو كان قليلاً، مهما تقادمت عليه الدهور، وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] وفُسر بصلاتهم إلى بيت المقدس.
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143] وهذا من مقتضى رحمته -تبارك وتعالى-، وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين ولاحظ من رحمته أنه سماه: أجرًا، وذكرنا في الليلة الماضية: بأن الله هو الذي هدى، وهو الذي أعطى، وهو الذي أوجد القُدرة، وهو الذي أعان، وهو الذي وفق، ومع ذلك سماه: أجرًا، وإلا فهو فضل من الله ، فسمى ما يُعطيهم على أعمالهم أجرًا، لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين ومفهوم المخالفة يدل على أن الكافرين ليس لهم شيء في الآخرة، كما قال الله : وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [الفرقان:23] فأعمالهم كسراب ورماد، وهذا جزاء وفاقًا؛ لأنهم فقدوا الإيمان، وهذه من كمال عدل الله ، وإلا كما جاء في الحديث: إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يجزى بها[4]، فهذا من كمال عدل الله ، فإذا جاء يوم القيامة ليس له شيء، فهؤلاء الكفار يتعجلون جزاء ما أحسنوا في الدنيا إن أحسنوا.
فهذه من أوصاف هؤلاء الذين ذكر جزاءهم: الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيم [آل عمران:172] فالذين استجابوا لله وللرسول هم الذين أجابوا حينما خرجوا في أعقاب غزوة أُحد إلى حمراء الأسد؛ وذلك كما جاء في سبب النزول: بأن المشركين كانوا قد هموا بالكرة والرجوع إلى المدينة؛ ليستأصلوا المسلمين، وتحدثوا فيما بينهم: أنهم ما صنعوا شيئًا، حينما رجعوا من أُحد، حيث لم يُردفوا الأبكار، ولم يقضوا على المسلمين، فلما سمع بذلك النبي ﷺ خرج في أثرهم، وأمر أصحابه أن يخرجوا، فخرجوا بجراحاتهم، فأنزل الله هذه الآية: الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172] أصابتهم الجراح لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيم [آل عمران:172] للذين أحسنوا في إيمانهم وعملهم، وجهادهم، واتقوا أجر عظيم، اتقوا بفعل الطاعات، وترك المعاصي.
ولاحظ هذا السياق، وهذا التركيب، وهذا الجزاء المترتب على ماذا؟ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172] فجاهدوا في أُحد، وخرجوا بعد أُحد، وهم في جراح وآلام، يقول: لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيم [آل عمران:172] للذين أحسنوا منهم واتقوا، فكيف بالمفرط الذي لا إحسان ولا تقوى ولا جهاد، ويرجوا الأجر العظيم؟! فالجنة تحتاج إلى عمل وصبر وبذل.
وهنا الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ هذا كان امتحانًا لهم، وإلا فإنهم بعد المعركة، وبعد ما وقع لهم من الآلام والجراح، كان ذلك يُثقلهم عن الخروج في أثر المشركين ثانية، لكنهم استجابوا، والمنافقون يعتذرون بأعذار كاذبة، وأنهم لم يعلموا قتالاً، وهؤلاء الصادقون حتى بعد الهزيمة وبعد ما وقع ما وقع يستجيبون ويخرجون بزمن يسير، ودماؤهم لم تجف، وتصور إنسان يخرج جريحًا، ومطعون برمح، أو مضروب بسيف، أو مُصاب بسهم، ولا يوجد طب، مثل الطب الحديث، ولا تعقيم، ولا تطهير، وإنما غاية ما هنالك أنه يؤخذ شيء من أوراق الشجر اليابسة وتُحرق، ثم توضع عليه، أو يُحرق جزء من الحصير، ويوضع الرماد على الجرح، هذا التضميد، وتصور حال هؤلاء يخرجون بهذه الصورة، وفي أجواء مكشوفة، ولكن هؤلاء باعوا أنفسهم لله -تبارك تعالى-، وإنما وصل إلينا هذا الدين عن طريقهم، وعن طريق بذلهم وتضحياتهم، فينبغي أن نُحافظ عليه، وأن لا نُضيعه، وأن نتمسك به، ولا نُفرط فيه بحال من الأحوال، وأن لا نستجيب لدعوات المُضللين من شياطين الإنس والجن.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيم [آل عمران:172] فـ(من) هذه لبيان الجنس، وليست للتبعيض، فكلهم أحسنوا، وكلهم اتقوا، فذكر هذه الأوصاف تفيد المدح والثناء على هؤلاء؛ لأن كل هؤلاء الذين استجابوا كانوا بهذه المثابة، من أهل الإحسان والتقوى.
لكن مثل هذا التركيب لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ لا شك أن في مضامينه ترغيب وترهيب، بحيث إن ذلك يدعو إلى تحقيق الإحسان والتقوى، وأن من فرط في ذلك فهو على خطر.
ولاحظ تنكير الأجر لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ فهذا يُفيد التعظيم، ثم وصفه أيضًا بالعظيم، وإذا وصف الله أجرًا بأنه عظيم، فلا تسأل عنه، فالله -تبارك تعالى- يصفه بأنه عظيم، فماذا يكون هذا الأجر إذًا؟ وما مقداره وصفته وحاله؟! فهذا ما عند الله -تبارك تعالى- لأوليائه وعباده المتقين.
أسأل الله -تبارك تعالى- أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون برقم (1887).
- أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى برقم (2816).
- أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب ما جاء في غسل البول برقم (218) ومسلم في كتاب الطهارة باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه برقم (292).
- أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا برقم (2808).