الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(195) قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ...} الآية 175
تاريخ النشر: ٠٢ / شعبان / ١٤٣٨
التحميل: 333
مرات الإستماع: 776

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى-: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين [آل عمران:175].

قوله: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يعني: هذا الذي يُثبط ويعوق ويُلقي في القلوب الخواطر السيئة، والوساوس الرديئة هو الشيطان، وهذا الذي سمعتموه من قول القائل: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ هذا من عمل الشيطان، يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ المعنى: يخوفكم أولياءه، ويبث في قلوبكم الخوف من أوليائه، فهذا القول المشهور في تفسير هذه الآية.

فَلاَ تَخَافُوهُمْ أي: لا تخافوا أولياء الشيطان، وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين خافوني بالإقبال عليّ بالطاعة، والانقياد والإيمان والاستقامة، وحفظ حدود الله ، وترك مساخطه.

إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين أي: إن كنتم حقًّا على الإيمان الصحيح، فالإيمان يحمل صاحبه على الخوف من الله -تبارك وتعالى-، كما سيأتي.

فهذه الآية هي آية غاية في العجب من جهة التعبير عن هذا المعنى، وبيان هذه الحقيقة، فقد جاء بصيغة الحصر (إنما)، وهي ثاني أقوى صيغ الحصر عند الأصوليين والعرب، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ يعني: هذا الخوف الذي يُبث في قلوبكم من قِبل الشيطان، من أجل أن يوجد لأوليائه هالة، تجعلكم تخافون منهم، وتحسبون لهم ألف حساب، وليس المعنى يخوف أولياءه يعني يبث الخوف في قلوب أولياءه، لا، وإنما يخوف المؤمنين أولياءه يعني من أوليائه، يعني يريد منكم أن تخافوا أولياءه، فيُلقي في قلوبكم من الخواطر السيئة، والوساوس، وما إلى ذلك، فيكون لهؤلاء رهبة، فيُحسب لهم ألف حساب.

إذًا ما يوجد في قلوب المؤمنين من الخوف من أعداء الله ومن أولياء الشيطان هذا من عمل الشيطان، فالشيطان يوسوس ليتوصل إلى أن يكون لأوليائه خوفًا ومهابة، فترهبونهم.

ثم قال بعده: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين فرتب هذه فالفاء وهي تدل على تعليل، وتدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها فَلاَ تَخَافُوهُمْ إذا كان هذا من عمل الشيطان، وهو ينفخ في هؤلاء من أجل أن يتضخموا، فلا تخافوهم؛ لأن هذا من عمل الشيطان وكيده، والله قال: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76] فكيده ضعيف، وأولياؤه ضعفاء؛ لأنه لا ناصر لهم ولا معين، والشيطان يخذلهم كما خذلهم في يوم بدر، وقال: إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ [الأنفال:48] فتركهم، وتخلى عنهم، وكان قد تصور لهم بصورة رجل، يُقال: إنه تصور بصورة سُراقة بن مالك، قبل إسلامه، فرجع حينما رأى الملائكة في يوم بدر، وأسلمهم إلى حتوفهم؛ وذلك المصير الذي صار يُذكر في التاريخ، ورُمي سادتهم وكُبرائهم في القليب صرعى نتنى بعد ثلاثة أيام، ومن سلم من سراتهم وكُبرائهم أُخذ أسيرًا، هذا ما فعله بهم الشيطان، ويوم القيامة يقول: إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم:22] فيتخلى عنهم، ويقول: لم يكن لي عليكم سلطة، وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22] لست بمنقذكم، ولستم أيضًا بمُنقذي، فهذا غاية الخذلان، فإذا اجتمعوا وتوافوا في جهنم قال هذه الخطبة: لم أُجبر أحدًا، وما ضربت على يد أحد أن يتبعني، وإنما هي مجرد دعوة وجهتها، فاستجبتم لي، فلوموا أنفسكم، ولست بمنقذ لكم، ولستم أيضًا بمنقذي، فهذه حسرة كبيرة، يصورها لنا القرآن، كما هي، فهذا كيد الشيطان، يغوي الإنسان ويُغريه بالمنكر والفساد والشر، ومحادة الله ، ومعاداة الرسل، وفي النهاية يُسلمه إلى أسوء النهايات والمآلات والعواقب.

فالله يقول: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وكما هي عادة القرآن إذا نهى عن شيء فهو في الغالب يأمر بما يُقابل ذلك، فالنهي وحده لا يكفي "والنفوس خلقت لتعمل، لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره" كما قال شيخ الإسلام[1]، فإذا لم يخافوا الشيطان يخافوا من؟ قال: وَخَافُونِ، فَلاَ تَخَافُوهُمْ فهذا نهي عام بهذا التركيب يدل على العموم، أي: لا تخافوهم أبدًا، وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين يعني: الله أحق بالخوف، وخوفه يوجب فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، مع الضراعة والاستغفار والخشية والإخبات لله رب العالمين، كما قال شيخ الإسلام، وحينئذٍ يندفع البلاء، ويُنتصر على الأعداء، فإذا فعلنا ذلك فعندئذٍ: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين والمعنى: لا شأن لكم بهؤلاء مهما تعاظمت قوتهم، فلا تتخلوا عن دينكم وإيمانكم ومبادئكم وعقائدكم وتوحيدكم من أجل هؤلاء، ولا تتخلوا عن حصونكم وقلاعكم التي هي خط الدفاع الأول، فيقوى هؤلاء عليكم، ويجترئون، فلا يقفون عند حد، ولكن وَخَافُونِ فالله أحق أن يُخاف ويُخشى؛ لأن كل شيء بيده، فالنصر بيده: إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160] لا غالب هذا التركيب يدل على العموم؛ لأنه نكرة في سياق النفي فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ [آل عمران:160] وهذا استفهام بمعنى النفي، يعني: لا أحد ينصركم من بعده، إذا كانت المعادلة بهذه الصورة، فلا يكون أمام المؤمن إلا أن يخاف من الله، وأن يتوجه ويتضرع إليه، وأن يبحث عن مرضاته، وأن يبتعد كل البُعد عن مساخطه، وأما الأعداء فسيكفيكهم الله، وهذا إذا كان وعدًا لرسوله ﷺ فهو وعد لأمته، إذا كانوا على طريقته، إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38] فمن كان مؤمنًا فالله يُدافع عنه، فماذا يضره؟ ومن أي شيء يخاف؟ وما المخلوق أمام قوة الله وقدرته؟! فهذه الآيات تبني في نفس المؤمن الثقة بالله ، والاعتماد عليه، وأنه قوي، وأن هذا الذي يستند عليه الكفار والأعداء، إنما هو الشيطان الرجيم، صاحب الكيد الضعيف، فأهل الإيمان يركنون إلى قوة عظيمة، لا يقف أمامها شيء، ولو اجتمعت الخلائق، كما قال النبي ﷺ: واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك[2].

وكما قال الله: فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة:44] والخائف من الله -تبارك وتعالى- هو الذي خاف من عذابه وعقابه وسطوته، إما في الدنيا، وإما في الآخرة؛ ولهذا كما قال القُرطبي -رحمه الله-: "ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، بل الخائف الذي يترك ما يخاف أن يُعذب عليه"[3]، لكن يبكي ويفعل الموبقات هذا خوفه ناقص، وهذا يدل أيضًا على أن أولياء الله إذا ثبتوا على أمر الله -تبارك وتعالى- أنجز الله لهم ما وعدهم، فينصرهم على أولياء الشيطان، وأن من خاف من تخويف الشيطان، وعمل بموجب ذلك، فتخلى عن إيمانه، فهذا يكون وليًّا للشيطان، وهو مُبشر بالخذلان، وسوء العاقبة.

ثم إن النهي في قوله -تبارك وتعالى-: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ يقتضي التحريم، فلا يجوز الخوف من أولياء الشيطان خوفًا يُزاحم خوف الله في قلب العبد، بحيث يكون حاملاً له على التخلي عن أمر الله من أجل الخوف من الناس.

والأمر في قوله: وَخَافُونِ يدل على أن الخوف من الله واجب، وإذا كان الإنسان يخاف من الله -تبارك وتعالى-، فلا شك أن ذلك الخوف يكون سوطًا يردعه عن مواقعة القبائح والآثام والمعاصي، وبهذا تتحقق التقوى مع شيء من الرجاء؛ لئلا يكون قانطًا من رحمة الله ؛ ولهذا قال القرطبي: "أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتخوف وتأميل لله ، حتى يكون الرجاء والخوف للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامته، وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان"[4] فمن لا خوف عنده فإنه لا يرعوي، ولا يقف عند حد من حدود الله .

ثم تأمل أيضًا قوله -تبارك وتعالى-: وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين فهذه الصيغة إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين تدل على ارتباط الخوف من الله بالإيمان، والقاعدة التي نذكرها: أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فيكون بهذا الاعتبار أنه بقدر ما يكون عند المؤمن من الإيمان يكون عنده من الخوف من الله، فإذا نقص إيمانه نقص من خوفه من ربه -تبارك وتعالى-، فهذا الذي لا يخاف من الله إيمانه ضعيف جدًّا، فإذا عظُم الإيمان عظُم الخوف من الله، فيسلم الناس منه من أذاه وشره، فلا يصلهم منه ما يكرهون، لا من لسانه، ولا من لسانه الآخر وهو القلم في كتاباته السيئة، ولا من جوارحه، بل لا يكون في قلبه من سوء الظن والحسد والحقد والغِل أدواء تجاه إخوانه المؤمنين، يسلم قلبه، ولسانه وجوارحه؛ لأنه يخاف من الله؛ لأن الله مطلع على قلبه وجوارحه، ومُطلع على أحواله كلها، فلا ينظر الله إليه في حال قد يُعاقب عليها.

وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين إذًا: فلنفتش ولننظر في خوفنا من الله ، ما هو؟ وما مقداره؟ فهذا أمر مرتبط بالإيمان، وقد تحدثنا عن الخوف حديثًا مفصلاً في الكلام عن الأعمال القلبية.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/126).
  2. أخرجه الترمذي في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع برقم (2516) وصححه الألباني.
  3. تفسير القرطبي (4/283).
  4. تفسير القرطبي (7/227).

مواد ذات صلة