الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(197) تتمة قوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ...} الآية 176
تاريخ النشر: ٠٥ / شعبان / ١٤٣٨
التحميل: 334
مرات الإستماع: 808

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلم يزل الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى-: وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم [آل عمران:176] وقد تحدثنا عن صدر هذه الآية، وهو قوله -تبارك تعالى-: وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ وجاء بعده قوله: إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا فـ(إنّ) هذه تدل على التوكيد، وتدل أيضًا على التعليل، يعني: كأنه يقول: لن يحزنك؛ لأنهم لن يضروا الله شيئًا، ففيه تسلية للنبي ﷺ، ولأمته من بعده، ولاحظوا أنه هنا جاء بهذه الصيغة التي تدل على النفي بأقوى أدواته (لن) إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا ولاحظوا العموم في الآية: لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا فشيئًا هنا نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي -كما هو معلوم- تدل على العموم، لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا لا ضررًا قليلاً، ولا ضررًا كثيرًا؛ لماذا؟ لأن الخلق أضعف من أن يضروا الله، كما في الحديث القدسي: إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني[1]، فالله -تبارك وتعالى- لو أن الخلق كانوا على أتقى رجل، كما في الحديث القدسي: على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا[2]، فالخلق من أولهم إلى آخرهم، كانوا على أفجر قلب رجل، يعني: كلهم بهذه الصفة على أفجر قلب، من هو أفجر قلب؟ فرعون، لو كانوا كلهم بهذه المثابة فراعنة، ما نقص ذلك من ملك الله شيئًا، يعني ولو كان يسيرًا؛ لماذا؟ لأن الله أعظم، هو الغني عن جميع الخلق، الغنى المُطلق الكامل، أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد ۝ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيد [فاطر:15-16] فيدل على كماله، وكمال غناه، وكمال سلطانه، وإذا عرف العبد هذا اطمأنت نفسه، وأنه يركن إلى جناب العظيم الأعظم.

إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا وفهم منه بعض أهل العلم: أن ذلك أيضًا جاء إشارة إلى أولياء الله، وأهل طاعته، والإيمان به.

أيضًا لن يضروا حزبه وأولياءه وأهل طاعته، لكنه علق نفي الضرر به -تبارك تعالى-: إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا لتشريف أهل الإيمان، بأن مُضارتهم من مُضارته ، فيكون ذلك تسلية لهم، إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا فأنتم أولياؤه، وهو يحوطكم ويحفظكم ويرعاكم، وهؤلاء إنما يضرون أنفسهم.

إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا فهذا فيه تعريض بأنهم إنما يضرون أنفسهم، وقد قال الله -تبارك وتعالى- ذلك لنبيه ﷺ في حق اليهود: وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا [المائدة:42] (لن) نفس الصيغة، لن يضروك شيئًا، وإبراهيم لما خوفه عبدة الأصنام من آلهتهم أن تهلكه، أو تُخبله، أو تُلحق به الضرر، قال: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون [الأنعام:81] الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ يعني: لم يخلطوا إيمانهم بشرك أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون [الأنعام:82] وهذا بعض أهل العلم يقول: إنه من كلام إبراهيم في محاجته لهم، وبعضهم يقول: هذا من الموصول لفظًا في الكلام السابق، لكنه مفصول معنى، فهو من كلام الله، حكم بين الفريقين، فقال: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون [الأنعام:82] فهؤلاء آمنون، ولن يستطيع هؤلاء الأعداء والكفار مهما بلغوا من القوة أن يصلوا إليهم بالضرر، إذا كانوا على حال من الإيمان والتقوى والاعتصام بالله -تبارك وتعالى-، وإلا فإنه ينقص من أمنهم بحسب ما نقص من إيمانهم وتوحيدهم وتوكلهم وطاعتهم وتقواهم لله -تبارك وتعالى-.

فشيئًا في قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا تدل على العموم -كما سبق-، وتدل على أن ذلك يصدق على أدنى الأشياء، وإذا كانوا لا يستطيعون أن يُلحقوا أدنى ضرر بالله ، فهذا يدل على أنهم أحقر وأصغر من أن تكترث بهم، فلا يستطيعون ولو شيئًا يسيرًا، إذًا هم في غاية العجز والضعف، فلا تحفل بهم، إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا ولذلك قال: وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ هؤلاء الذين يُسارعون، فكيف بمن يكون على كفر، لكنه من غير مُسارعة، هذا من باب أولى أن لا تحفل به.

ثم بيّن الله حكمته البالغة، فقال: يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ هذه إرادته الكونية القدرية، يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ بأن لا يجعل لهم نصيبًا من الثواب والجزاء الحسن، لكن قد يكون لهم حظ في الدنيا، كما أخبر النبي ﷺ: إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يجزى بها[3]، فالكافر يُطعم بحسناته، فهنا يوافي يوم القيامة، وليس له نصيب ولا خلاق عند الله -تبارك وتعالى-.

يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ مفهوم المخالفة: أن في الدنيا يكون لهم حظ، يأكلون، ويتمتعون، كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم، لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَد ۝ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَاد [آل عمران:196-197] وكما في الآية التي ستأتي: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا [آل عمران:178] وسيأتي في معنى الإملاء: أنه ما يُغدق عليهم من اللذات، مما يكون سببًا لزيادة العذاب، وزيادة الغفلة والتمادي بالباطل؛ لأن الله علم من نفوسهم وقلوبهم ودواخلهم أنهم لا يستجيبون، ولا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية، حتى يروا العذاب الأليم، وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُون [الأنفال:23] فلا تحزن ولا تضيق، ولا تبتأس ولا تيأس من مسارعة هؤلاء في الكفر، هذه حكمته البالغة: يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ فهم يزدادون من هذه الآثام، وألوان الكفر؛ لئلا يكون لهم عند الله شيء، فالغاية واضحة، وهذا كلام الله، إذًا: هذا الذي يُمعن في الكفر، ومحادة الله -تبارك وتعالى-، ومحادة رسله، الواقع أنه يحفر قبره، ويبحث عن حتفه بظلفه، فهو يسعى إلى هذا، يحمل أوزارً على ظهره، ويقتات ما يكون سبيلاً إلى النار، والعذاب الأليم، نسأل الله العافية.

يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ فهذه الآية تُبين العِلة والسبب في انهماك هؤلاء والإيغال في الكفر، والجري خلف الضلال، والعمل في مساخط الله ، وهذا ينبغي أن يكون باعثًا للمؤمن لينظر في نفسه، وفي سعيه، وفي عمله على أي شيء هو؟ وبماذا يشتغل؟ وبماذا يعمل؟ هل هو مُسخر في طاعة الله ؟ ومُسخر لهذه الجوارح والنِعم في مرضاة الله ، أو أنه مُمعن في طريق نهايته النار؟ فإن العمل بمساخط الله لا يورث النعيم والرحمة والأجر والثواب، وإنما يكون ذلك بالعمل بطاعته، والسعي في مرضاته، فينبغي أن يعرف الإنسان الوجهة التي يتوجه إليها، وما تحت قدمه، وما يتشاغل به قبل أن يوافي، ثم بعد ذلك يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب، وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُون [الزمر:47] وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ فسماه: يوم الحسرة؛ لأن الإنسان يتحسر، فهي حسرة عظمى كبرى، لا يمكن أن يستعيد، أو يسترجع، أو يُستعتب، أو يستدرك، قُضي الأمر وانتهى، واستوجب الكفار دخول النار، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [مريم:39] يعني: في هذه الحياة الدنيا.

ثم أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى-: يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ عبر بالمضارع (يريد) فهذا يدل على أن هذه الإرادة مستمرة، يُرِيدُ اللّهُ وإذا كان الله يريد ذلك، فلا أحد يستطيع أن يمنع مراده إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [القصص:56] فهذا نوح لم يستطع هداية ابنه، وإلى آخر لحظة، وهو يقول: يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا [هود:42] وذاك يقول: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء [هود:43] اللجج والعناد والإصرار على المخالفة، أورده الموارد، أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25].

وأيضًا إبراهيم مع تلطفه بأبيه، وقوله له: (يا أبتي) ومع ذلك يرد عليه ذلك الرد القاسي لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم:46] على القولين في الآية: الرجم بالشتم، أو الرجم بالحجارة، وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا مدة طويلة، يعني: ابتعد، لا أراك، أنت في طريق، وأنا في طريق، فما استطاع هدايته، فمات على الكفر.

ونوح كانت امرأته على غير دينه فهلكت مع من هلك، ولوط كانت زوجته على غير دينه أيضًا، فهلكت مع الهالكين.

وأيضًا النبي ﷺ دعا عمه أبا طالب فلم يهتدِ، إلى أن قال قبل خروج نفسه: إنه على ملة عبد المطلب، هل هناك أنصح من الرُسل؟ وهل هناك أفصح من الرسل؟ وهل هناك أحذق من الرُسل بطرائق الدعوة؟ وهل هناك أعلم من الرُسل؟ جمعوا الصفات الأربع لكمال البلاغ: الفصاحة، والنُصح، والعلم، وغير ذلك من: الحكمة، والتدرج، والأساليب الدعوية، والإخلاص، ومع ذلك عاندهم خلائق كثير، وكبوا على مناخرهم في النار، فهذه إرادة الله -تبارك وتعالى-، وهو عليم حكيم، فينبغي للمؤمن أن يتذكر هذا المعنى، كما قال الله -تبارك وتعالى- في سورة المائدة وهي من آخر ما نزل: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] ليس معنى الآية: دعوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شأن لكم بالناس، فليس هذا المعنى، كما بيّن ذلك أبو بكر ، وإنما معنى الآية: أن المؤمن حينما يكون على استقامة، وقيام بأمر الله على الوجه الصحيح، فعند ذلك لا يضره كفر من كفر، سواء كان من قراباته، أم من غيرهم، ومن الاستقامة أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإلا فقد: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُون ۝ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُون [المائدة:78-79] فالذي يترك ذلك لا يكون مهتديًا، قائمًا بأمر الله ، لكن قوله: لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] يعني: إذا كنتم على حال من الاستقامة، فإن ضلال من ضل لا يضركم، ولو كان أقرب قريب، فهو الذي سيحمل وزره، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18] أي: نفس مُثقلة بالذنوب.

يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم وإذا وصف الله العذاب بالعِظم، فما ظنكم كيف يكون هذا العذاب؟ هذا لا يمكن أن يتصوره عقل الإنسان، والله المستعان.

هذا وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا هداة مهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم برقم (2577).
  2. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم برقم (2577).
  3. أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا برقم (2808).

مواد ذات صلة