الأحد 19 / شوّال / 1445 - 28 / أبريل 2024
(198) قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ...} الآية 177
تاريخ النشر: ٠٦ / شعبان / ١٤٣٨
التحميل: 457
مرات الإستماع: 884

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

قال الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيم [آل عمران:177].

فقوله: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ يعني: استعاضوا وآثاروا الكفر على الإيمان، لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا أي: لن يصل إليه ضرر بسبب سوء اختيارهم وجنايتهم على أنفسهم، بإيثار الكفر على الإيمان، وإنما يعود ضرر ذلك عليهم، وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيم عذاب موجع.

فأكد الكلام بـ(إنّ) وكما ذكرنا بأنها بمنزلة إعادة الجملة مرتين، إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا فأكد هذا مع قوله -تبارك وتعالى- في الآية التي قبلها في المُسارعين: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:176] هناك نهي عن الحزن على هؤلاء الذين يُسارعون في الكفر، وهنا في عموم الكفار: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وذلك أن الاشتراء في قوله: اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ وكما قال الله كما مضى في سورة البقرة: اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] وكما في قوله: وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ [البقرة:175] معنى ذلك: أنهم آثاروا الكفر والضلال الذي يكون عاقبته إلى العذاب على الإيمان، والهدى الذي يكون عاقبته الرحمة والمغفرة والجنة.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ هذه صيغة عموم، فالاسم الموصول (الذين) كل من كان كذلك من الكفار على اختلاف مذاهبهم وأديانهم وأجناسهم من العرب ومن العجم.

ولاحظ التعبير بالشراء اشْتَرَوُاْ يُشعر بشدة الرغبة بهذا الضلال والكفر، وإيثار ذلك على الحق والإيمان، فالمشتري يكون راغبًا في السلعة، طالبًا لها، فهم يأخذون هذا الضلال والكفر عن رغبة.

وبعض أهل العلم يقول: استعاضوا عن الإيمان بالكفر، وبعضهم يقول: استبدلوا، فهم أصلاً ما كانوا يملكون الإيمان، لكن مثل هؤلاء أعني القائلين بذلك يمكن أن يقولوا: بأنهم كانوا على الفطرة، وأن الله خلقهم حنفاء على الفطرة، كما جاء في الحديث: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم[1]، فآثاروا بعد ذلك الكفر على الإيمان والتوحيد، ومقتضى الفطرة التي فطرهم الله عليها، ولكن أحسن من هذا -والله أعلم- أن يُقال: بأنهم آثاروا واشتروا الكفر بالإيمان، ولم يكونوا يملكون الإيمان، وما كانوا على إيمان فيستعيضوا بذلك، كما قال الشاعر:

أَخَذْتُ بالجُمَّةِ رأْسًا أَزْعَرَا وبالثَّنايا الواضحاتِ الدُّرْدُرَا
وبالطَّويلِ العُمْرِ عُمْرًا أَنْزَرا كما اشترى المسْلِمُ إذْ تَنَصَّرا [2]

هذا يكون بالاستبدال، مسلم وتنصر، لكن هؤلاء الكفار ما كانوا مؤمنين، فالواحد منهم اشترى، بمعنى: آثر، فلفظة الاشتراء لها دلالات في اللغة، فهي تُطلق على معنى الاختيار، أو الرغبة في الشيء، وتُقال أيضًا: لما نتعامل به في البيع والشراء، الذي هو أخذ السلعة من البائع، وقد يُقال ذلك للبيع، وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يوسف:20] على القول بأن ذلك يرجع إلى أخوة يوسف، بمعنى: باعوه بثمن بخس، فالشراء يُقال للبيع، ويُقال للشراء، الذي هو يُقابل البيع.

ثم إن هذا التكرير في قوله -تبارك وتعالى-: لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا هناك أخبر بأن الذين يُسارعون بالكفر لن يضروا الله شيئًا، وهنا الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئًا، فهذا يدل على أن الجميع لا الذين يُسارعون، ولا الذين اختاروا الكفر عمومًا، فكل هؤلاء لن يضروا الله شيئًا، قد يكون الذين يُسارعون أقل من الذين اشتروا الكفر، لكن النتيجة أن الجميع لن يضروا الله شيئًا، فالله غني عن خلقه أجمعين، فهؤلاء على كثرتهم وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين [يوسف:103]، وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [الأنعام:116] فهؤلاء كلهم لن يضروا الله شيئًا.

وكما ذكرنا من قبل بأن (شيئًا) نكرة في سياق النفي، فهي للعموم، يعني لا شيئًا قليلاً ولا كثيرًا، ولا حقيرًا ولا جليلاً.

ولاحظ -كما ذكرنا- أن النفي هنا جاء بأقوى صيغ النفي، لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا لا في الحال، ولا في الاستقبال، وعُبر بالفعل المُضارع لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وهذا كله فيه تسلية للنبي ﷺ ولأصحابه ولأمته من بعده، وأن لا يحزنوا بسبب ضلال من ضل، وكفر من كفر، ومُسارعة من سارع في محادة الله -تبارك وتعالى-، ومحادة رسله، فهؤلاء إنما يعود ضرر فعلهم عليهم، فدين الله منصور، وهو نوره الذي لا يمكن لأحد أن يُطفئه، وإنما غاية ما هنالك أن هؤلاء يخسرون كل شيء، يخسرون الدنيا من حيث السعادة، والجنة التي في الدنيا، فتبقى قلوبهم في وحشة وعذاب، وكذلك أيضًا يخسرون في البرزخ، ويخسرون في القيامة، ويخسرون في النار، فالخسارة الحقيقية هناك، حيث خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15] فهؤلاء هم أصحاب الخسارة الكبرى.

أما الله -تبارك وتعالى- فهو لا يتضرر، ودينه كذلك، فالله -تبارك وتعالى- أخرج رسوله ﷺ من بين أظهر المشركين بمكة بعد ما تمالؤوا على الكفر، وعلى قتله -عليه الصلاة والسلام- ثاني اثنين، فهذا الصنيع ما ضر الله، وما ضر رسوله، وما ضر دينه، في الوقت الذي كان المؤمنون بهذا الدين قِلة، وما ضر هذا الدين كفر هؤلاء الأكابر من المشركين، ككفر أبي جهل، وأبي لهب، وغير هؤلاء من المردة، وإنما عاد ذلك عليهم، فهؤلاء الكفار الصناديد يُذكرون، ولا يُذكرون بخير، لكن لو أنهم دخلوا في الإسلام، كانت الأجيال تترضى عليهم، لكن إذا ذُكر أبو لهب تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب ۝ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَب [المسد:1-2] لكن إذا ذُكر بلال، أو العباس بن عبد المطلب أو أبو سفيان، أو صفوان بن أمية أو سُهيل بن عمرو العامري وغير هؤلاء من كبار أهل مكة الذين هداهم الله إلى الإسلام قيل: رضي الله عنه وأرضاه، فنترضى عنهم، ونُحبهم، ونتولاهم، ونعتقد أنهم من أهل السعادة، وحبهم ديانة.

لكن أولئك الذين استنكفوا واستكبروا، ولو قدموا للإسلام خدمات جليلة، كأبي طالب، فلا يصح أن نقول: رضي الله عنه، ولا غفر الله له، ولا رحمه الله؛ لأنه مات على الكفر، فهؤلاء لن يضروا الله شيئًا، حينما قال أبو طالب: إنه يموت على ملة عبد المطلب ما ضر الله شيئًا، وظهر هذا الدين بدون هؤلاء، والله -تبارك وتعالى- على كل شيء قدير، وقلوب العباد بين أُصبعين من أصابعه، لو شاء لهداهم، ولو شاء لم يهتدِ مهتدٍ.

لو شاء ربك كنت أيضًا مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمنِ[3]

فالعبد يحمد الله على نعمة الهداية، ولا يأسف على هؤلاء الذين ضلوا وانحرفوا، وكفروا بالله ، فيبقى المؤمن قوي القلب، ثابت الإيمان، فلا يتزعزع، ولا يتشكك، بسبب كثرة من ينحرف ويضل، ويُعرض عن الهدى، والحق والإيمان.

ثم قال: وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيم لاحظ لم يقل: وعذاب أليم لهؤلاء، وإنما قال: وَلهُمْ عَذَابٌ كأنه يختص بهم، هم لن يضروا الله شيئًا، ولن يخرجوا بسلامة، وإنما لهم عذاب أليم، وتنكير العذاب هنا يدل على شدته وفظاعته، والإيلام الموصوف به، فهذا العذاب يشمل الإيلام بنوعيه: الإيلام الجسدي، فهي نار محرقة -أعاذنا الله وإياكم وإخواننا المسلمين منها-، وهو إيلام أيضًا معنوي، سحب على الوجوه، والضرب الملائكة حيث تضربهم بسياط وغيرها، فيوجد من التبكيت والإيلام النفسي، ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم [الدخان:49] يُقال لهم مثل هذا الذي يقتضي الإهانة، هذا مع عذاب مؤلم أيضًا، يكون إهانة، كالسحب على الوجوه، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَر [القمر:48] فهذا السحب على الوجوه ألم، وفي النار ألم، وهو إهانة، وقوله لهم: ذُوقُوا مَسَّ سَقَر هذا أيضًا إهانة، يعني حينما يُقال للمُعذب: ذُق العذاب، لا شك أن هذا يكون زيادة في الإيجاع النفسي؛ ولذلك فإن العذاب في النار -أعاذنا الله منها- هو عذاب كامل على الأرواح والأجساد على حد سواء، فالروح تُعذب عذابًا كاملاً، والجسد يُعذب عذابًا كاملاً، قد يُعذب جسد الإنسان في الدنيا، لكن روحه تُحلق في الأعلى، ويُنزل الله عليه من ألطافه، فيكون الروح في الداخل مع أن جسده يتعذب، قد يُعذبه أحد من الناس، وقد يكون ذلك بسبب مرض، أو نحو ذلك، فيتألم لكن الروح تُحلق، فيتلذذ بهذا، كما كان بعض السلف حينما كان في سكرات الموت يقول: "أخنق حنقك، فو عزتك إني لأُحبك"[4]، فهذه نفوس تتلذذ، وكما ذكرنا في بعض المناسبات: أن معاذ بن جبل كان على المنبر لما ظهرت بيده بثرة الطاعون الذي وقع بالشام، وكان يُقبلها على المنبر أمام الناس، استبشارًا بالشهادة، وكان الطاعون في إبهامه فجعل يمسها بفيه يقول: اللهم إنها صغيرة، فبارك فيها، فإنك تبارك في الصغير، حتى هلك[5]، والذي يُطعن ويخرج الرمح من الناحية الأخرى بين ثدييه، ويتلقى الدم، ويقول: فزت ورب الكعبة[6]، فالعذاب أو الضرر أو نحو ذلك قد يقع على الجسد، ولكن الروح بمنأى، وقد يكون العذاب على الروح، والجسد معافى، فالذي يعاني من الأمراض النفسية معاناة كبيرة، إذا رأيت جسده ليس به بأس، هو لا يذهب إلى العيادات الأخرى، وإنما الذي يُعاني هو روحه ونفسه، والذي يُعاني من الصرع، أو من مس، أو من السحر، ونحو ذلك -عافى الله الجميع- هؤلاء معاناتهم في الغالب هي معاناة في الأرواح، وقد يكون ذلك واصلاً إلى الأجساد، لكن عذاب النار يكون تامًا على الأجساد والأرواح من غير ترويح -نسأل الله العافية-، وصياح وصُراخ وعويل، ودعوة بالثبور والويل من غير جدوى، إلى ما لا يُحد بوقت، ولا ينتهي بمليارات السنين، فهذا والله الذي ينبغي أن يُحسب له الحساب، والعاقل يتبصر ويتفكر فيه قبل أن يرد، وإنما يكون ورود الإنسان أول هذه المشاهد عند الموت، فتتلقاه الملائكة، إما ملائكة الرحمة، وإما ملائكة العذاب، فهذا العذاب الأليم هنا جاء منكرًا لتعظيمه وتهويله.

لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيم فجاء هنا بحرف العطف، كل ذلك لبيان فظاعة ما هم فيه، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (2865).
  2. البيتان في الأضداد لابن الأنباري (ص:72) بلا نسبة، وفي التقفية في اللغة (ص: 425) منسوبة لابي النجم.
  3. الكافية الشافية لابن القيم (ص:47).
  4. القائل معاذ -رضي الله عنه- كما في المحتضرين لابن أبي الدنيا (ص:111).
  5. الطبقات الكبرى ط العلمية (3/442).
  6. هو حرام بن ملحان وحديثه في البخاري في كتاب الجهاد، والسير باب من ينكب في سبيل الله برقم (2801) ومسلم في الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد برقم (766).

مواد ذات صلة