الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما أثنى الله -تبارك وتعالى- على الباذلين النفوس في سبيله وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون [آل عمران:169]، الآية، وذم أولئك المُثبطين المعوقين الذين كانوا يقولون: لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ [آل عمران:156]، لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168]، فشحوا في نفوسهم، ورجعوا من الجيش بثلثه، وقَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، أثنى الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك، وبعد أن ذكر أن هذه الدنيا دار ابتلاء، وأن ذلك يحصل به الميز بين الخبيث والطيب، قال الله -تبارك وتعالى- فيما يتصل في بذل الأموال: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير [آل عمران:180].
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ لا يظن هؤلاء أن ذلك خير لهم، وفي القراءة الأخرى المتواترة (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) فيكون ذلك موجهًا إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهو خطاب أيضًا لأمته.
هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله، هذا البُخل ينتظم بالمال، فلا يُنفق في طاعة الله -تبارك وتعالى- كما ينتظم أيضًا ألوان البُخل في منع ما يجب بذله كالعلم، فهؤلاء المنافقون كانوا يبخلون، كما قال الله -تبارك وتعالى-: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ [الأحزاب: 19]، يعني: لا يبذلون في سبيل الله، ولا يُنفقون.
وقال: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الأحزاب:19]، يعني: على المال، وليس المقصود بالخير البر والمعروف والطاعة؛ لأنهم أبعد ما يكونون عن ذلك، وهم أزهد الناس فيه، لكنهم أشحة أصحاب حِرص على المال كما قال الله تعالى عن الإنسان في طبيعته وجبلته: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيد [العاديات:8]، أي: المال، فهؤلاء الذين يبخلون البُخل بأنواعه، ويدخل في ذلك أيضًا اليهود، حيث كانوا يتواصون ألا يبدوا شيئًا مما أعلمهم الله به، وأنزله في كتابه المُنزل على أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام- ألا يبدوا ذلك للأُميين أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ [البقرة:76]، فهم يُنكرون على من يُبدي شيئًا من ذلك.
وقوله -تبارك وتعالى-: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ لا يظنون أن هذا البُخل والمنع أنه خير بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُطوقون به على الحقيقة، فهذا على ظاهره، وهو يصدق على المال، البُخل بالمال بصورة واضحة، وأما كتمان العلم فالنبي ﷺ صح عنه أنه قال: من سئل عن علم فكتمه؛ ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة[1]، وأما التطويق فهذا في منع الحق الواجب في المال يطوق، ولذلك أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقال: من آتاه الله مالا، فلم يؤد زكاته، مثل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك[2].
فهذا في منع المال، فيكون طوقًا على ظاهره، بعضهم يقول: يكون طوقًا من نار، والله -تبارك وتعالى- قال في الذين يكنزون الذهب والفضة ولا يُنفقونها في سبيل الله، قال: فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُون [التوبة:34-35]، فذاك واقع في الآخرة.
وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ سيصير إليه كل شيء، فهو مالك الملك على الحقيقة، وما في أيدي الخلق، فهو عارية، والله -تبارك وتعالى- هو الوارث، كل ذلك سيرجع إليه بعد فناء الخلق.
وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير يعلم بواطن الأمور، لا يخفى عليه شيء، وسيُجازي كلاً على عمله.
يؤخذ من هذه الآية من الهدايات والمعاني وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ نفى هذا الظن؛ لأنه قد يتسلل إلى النفوس، أن هذه المُدخرات التي يُبقيها الإنسان، ويمنع حق الله فيها تكون خيرًا له، حيث يجمع هذا المال، ويُنميه ويُكثره، ويُبقيه لحاجاته ومُلماته، هكذا يظن، وإلا لم يبخل، فما الداعي لمثل هذا البُخل؟
الداعي هو مثل هذه الأوهام من جهة، وأيضًا تلبية رغبات النفس الكامنة المتمكنة فيها من الشُح، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128]، نسأل الله العافية، يعني: أن الشُح راسخ في النفوس، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ، فأضاف الشُح إلى النفس لشدة تمكنه منها، وعلق عليه الفلاح فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون [التغابن:16]، لأن هذا الإنسان الذي يبخل ويمنع، ويكون شحيحًا، يمنع حقوق الله، ويمنع حقوق الخلق من الزوجات والأولاد، وما إلى ذلك، ممن يجب عليه نفقته، فمثل هذا هو يعتقد أنه يحترز لماله، وأنه يُنمي ثروة، وهو أيضًا يستجيب لدواعي هذه النفس الشحيحة.
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، فهذه الظنون والحسابات هي حسابات كاذبة خاطئة، فهذا من تصحيح التصورات، والمفاهيم من أجل أن يعلم الإنسان حقيقة الخير من الشر، ففي كثير من الأحيان يتوهم الإنسان الخير في غير وجهه وسبيله، وقد يكون لربما يتصور الشر في أبواب الخير، وضروبه، وهذا حينما تتحول فطرته، ويلتبس عليه الحق من الباطل، ويكون مستجيبًا للهوى والنفس والشيطان، ولهذا قال النبي ﷺ: لا ينقص مال من صدقة[3] فالصدقة لا تُنقص المال، بل تزيد.
ولذلك لا حاجة للحسابات الكثيرة، إذا أراد الإنسان أن يُخرج الزكاة عرك وتفكر وكأنه يساوم ربه، هذه فيها زكاة، أو ما فيها زكاة، ويتحايل في نيته، وقصده هذه أريد أن أدخرها للمستقبل، وهذه لعلها كذا، وهذه لعلها كذا، وهذه الأموال وضعتها في مساهمات، ولم تأتِ لها أرباح، ونحو ذلك، ماذا تريد في النهاية، ألا تُخرج الزكاة؟
هذه الزكاة غنيمة وربح وكسب، وزكاة للنفس، وزكاة للمال، فيطهر، ويُنمو، ويثقل في الميزان، أثقل من الصدقة، كالفرق بين الفريضة في الصلاة والنافلة، فأين هذا من هذا؟ فيُخرج الإنسان وهو مُغتبط.
أما هذا الذي يبخل، ويرى أن هذه الزكاة كثيرة بالملايين، فلئن ثروته التي أنعم الله عليه بها كانت كبيرة، فكانت زكاته متناسبة معها، مع أن حجم الزكاة صغير، قليل، لا شيء، لكن هذا يدل على كثرة ما عنده من المال والعرض، وإذا زاد عطاء الله على العبد كانت زكاته أكثر من غيره، فمن الناس من لا يُزكي، بل يأخذ الزكاة، لو شاء ربك كنت أيضًا مثلهم، ومن الناس من يكون على الكفاف لا يُخرج الزكاة، ولا يقبل من الناس شيئًا، ومن الناس من زكاته عشرة ريالات، ومن الناس من زكاته سبعون ريالاً، ومن الناس من زكاته ألف، فهذا الذي زكاته سبعة ملايين، أو عشرة ملايين، أو أكثر من هذا، فذلك لأن الله أعطاه ما لم يُعطِ ذاك، فلا يصح أن تكون هذه الحسابات، أن هذا مال كثير كيف أُخرجه؛ لأن الذي أعطاك كثير، وهو قادر على سلبه بأي لحظة في مساهمة، أو نحو ذلك، وتذهب هذه الأموال في طمع، ثم بعد ذلك يبقى الإنسان لا شيء عنده، بكساد، أو غير ذلك، فيضرب يدًا على يد.
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وكم مرة -أيها الأحبة!- تسمعون وتقرؤون أن سوقًا احترقت إلا متجرًا واحدًا، ما الذي أبقى هذا المتجر؟ أن هذا الإنسان كان يُخرج الزكاة حفظه الله بهذه الزكاة، مزارع تُصيبها الآفات والجراد، وينزل الجراد ويأكل كل شيء، والجراد إذا نزل على النخيل يأكل السعف، فتبقى العُسب مجرد عيدان فقط، في ليلة واحدة، ينزل بالليل فما يُصبح الناس إلا على هذه الصورة والمشهد، النخيل أعواد فقط، يأكل العُسب، ويأكل كل شيء، يأكل الزروع، ويأكل النباتات والأشجار، فيتركها جرداء لا نبت فيها، حصل أن هذا الجراد ينزل، وتسلم مزرعة واحدة، والناس يحفظون هذا، ويعرفونه، هذه كان صاحبها يُخرج حق الله، يُخرج الزكاة، أصحاب دواب مواشي تأتي آفات فتهلك هذه المواشي، وتموت بالآلاف، وهذا الإنسان الذي صاحب هذه الثروة الحيوانية، الذي يظن أنه لن تفنى، تفنى في ليلة، يراها صرعى، تكاد تملأ الفضاء، ويبقى واحد لا يُصيبها شيء؛ لأنه يؤدي حق الله فيها.
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ نعم هذه الآية في الأصل في البُخل في المال، ولكن يدخل أيضًا في ذم البُخل بما آتى الله الإنسان من فضله، البُخل بأنواع العلم، وأقبح ذلك البُخل بالعلم الشرعي يتعلم ويدرس ويُحصل أعلى الشهادات، ولا كلمة في مسجد، كأنه واحد من العوام، ولا شيء، لكن الترقيات والأمور المادية هو أسرع الناس إليها، هذا لا يصح بحال من الأحوال، ولا يكون من كان بهذه المثابة من العلماء الربانيين، مهما كان علمه.
قد يكون من خزائن العلم، قد يكون من أوعيته، ولكن لا ينتفع به الناس في قليل ولا كثير، ويبخل، وقد يكون البخل فيما آتاهم الله من فضله، يبخل بهذا العلم، قد يكون عنده من الكتب والمخطوطات والنفائس ما لا تراه الشمس، لا يريد أن يطلع أحد عليه، أو يستفيد منه أحد، أو يأخذ أحد من هذه المخطوطات، فيُحقق ذلك، ويُخرجه للناس، لا، هو يُقفل عليها لا يراها إلا الظلام، هذا يوجد، وهو من أنواع البُخل.
ويدخل في هذا البُخل بالعلم بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران:170]، قد يكون طبيبًا بارعًا، ويأتي عنده من هؤلاء من المتدربين، ولكنه يُضيعهم، لا يريد أن يتعلم هؤلاء، وأن يستفيدوا من معرفته وعلمه وخبراته بُخلاً منه، يعني: بدعواه، بزعمه: هذا علم، تعبنا فيه.
بعضهم جمع عبارات البلغاء الفصيحة في كتاب، يعني مما لا يُحصله الإنسان عادة إلا بعد عرك الكتب، ومعاناة مصنفات العلماء، وكثرة النظر فيها، والقراءة، فيكون عنده حصيلة لغوية من العبارات الجزلة، والفصاحة، وما إلى ذلك، هذا يحصل بكثرة النظر والاطلاع والقراءة، وبحسب من يقرأ لهم إذا كان يقرأ لأهل الأدب؛ جاءت عباراته أدبية، إذا كان يقرأ مثلاً لشيخ الإسلام؛ جاءت عباراته لربما صعبة بعض الشيء، إذا كان يقرأ للشاطبي أصعب، فهو بحسب ما يستقي منه، مثل الطعام والشراب العلم كذلك، والقراءة، والاطلاع كذلك.
الشاهد أن أحد العلماء يوجد في أكثر من كتاب، جمع هذه العبارات الفصيحة، البليغة التي يُعبر بها عن أشياء تحت عناوين، يعني: ماذا يُعبر عن الإنسان مثلاً إذا أُصيب بخيبة أمل؟ عبارات كثيرة بليغة، ماذا يُقال في هذه المناسبة؟ ماذا يُقال، بماذا يُعبر، ماذا يقولون عن الإنسان إذا ظفر بمطلوبه، عبارات فصيحة جدًا، جُمل يُعبر بها عن ذلك إلى آخره.
أحد أهل اللغة لما رأى هذا، قال: وددت أن يده قد قُطعت، يعني: الذي ألف هذا الكتاب، لماذا؟ يقول: جمع لهؤلاء ما يُقضى العُمر بالاطلاع عليه، ومعرفته، ومعاناته، فجمعها لهم في كتاب ما يحتاجون إلى تعب، طيب، وإذا جمعها لهم في كتاب، فالحمد لله، قربها لهم بهذه الطريقة من غير كد، ولا تعب، استوينا وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ.
وتجد بعض أصحاب المِهن، والحرف يعرف، وإذا جاء يُصلح قال بيده هكذا؛ من أجل ألا تراه كيف يُصلح هذا الشيء البسيط، من أجل ألا يأخذ أحد هذه المهنة، وتبقى عنده، وتجد هذا في أشياء كثيرة في المعارف، والاختراعات والحِرف والمُبتكرات وأنواع الفنون، فيبخل الإنسان بذلك، فلا يُبديه لأحد من أجل أن يبقى حكرًا عليه، يتميز به، فهذا ليس بخير له.
وزكاة هذه الأمور أن يبذلها الإنسان، والحمد لله من مزية العلم أنه يكثر بالبذل، لا ينقص، أما المال فالمال دونه، فإذا بذلته نقص، لكن الزكاة والصدقة لا تُنقصه، لكن إذا أنفق الإنسان في حاجاته، وما إلى ذلك ينقص هذا المال، هذا المال لا يفنى، فهذا كله مذموم، وهذه الآية تدل عليه دلالة واضحة.
أدركنا الوقت، أتوقف هنا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، واجعل عاقبتنا الفردوس الأعلى من الجنة، وارحمنا برحمتك، وتقبل منا إنك سميع مجيب.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب كراهية منع العلم، برقم (3658)، وأحمد في مسنده، برقم (8637)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود، برقم (3658).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، برقم (1403).
- (أخرجه أحمد في مسنده، برقم (1674)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (814).