الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما ذكر الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، ثم قال: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير [آل عمران:180]، فتوعد هؤلاء الباخلين.
ثم ذكر صنفًا خاصًا من هؤلاء، وإن كانت الآيات السابقة تشملهم، وذلك قوله -تبارك وتعالى-: لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق [آل عمران:181]، فهم لم يكتفوا بالبُخل، وإنما قالوا: هذه المقالة الشنيعة بمعنى أن هؤلاء اليهود -قبحهم الله- قالوا: بأن الله فقير، وهم أغنياء؛ لأن الله استقرضهم مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، فقالوا: نحن أغنياء يطلب منا القرض، وهو محتاج فقير، قال الله -تبارك وتعالى-: سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ هذا القول الذي تفوهوا به، وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ، أي: سنكتب هذه الجريمة أيضًا، وهذا وإن كان إنما وقع من أسلافهم، أعني قتل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إلا أن هؤلاء الذين أدركوا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كانوا على طريقة أسلافهم، فصح نسبة ذلك إليهم وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ.
والقاعدة أن المذمة التي تلحق الأسلاف تطال الأبناء إذا كانوا على طريقتهم، على طريقة أسلافهم، كما أن النِعمة الواصلة إلى الآباء تلحق الأبناء بالمنِة، ولهذا يمتن الله على بني آدم بمِنن كثيرة، بخلق آدم ، وإسجاد الملائكة له، وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف:11]، هذا خلق آدم فأضافه إلى الجميع.
وهكذا في قوله تعالى في حق بني إسرائيل: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ [البقرة:49]، وهكذا في قوله: وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة:57]، وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُون [البقرة:50]، فكل ذلك بناء على هذا الأصل.
هذا بالإضافة إلى معنى آخر ذكره بعض أهل العلم بقتلهم الأنبياء، يعني: كيف وجه ذلك لليهود المعاصرين؟ وعُبر بالمُضارع في مواضع، وهنا عُبر بالمصدر: وَقَتْلَهُمُ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61]، وذكرنا هناك في آية البقرة وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
أيضًا بأن التعبير بالفعل المضارع "يقتلون" يمكن أن يكون باعتبار أن ذلك الفعل مُستمر فيهم، حتى حاولوا قتل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ووضعت له اليهودية السُم في الشاة المصلية في خيبر، ولما كان مرض النبي ﷺ الذي قُبض فيه، كان يقول: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم[1]، ولهذا قال بعض أهل العلم: بأن النبي ﷺ مات شهيدًا، يعني: بسبب هؤلاء اليهود.
والمقصود أن الله قال: وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ، وهذا القيد -كما ذكرنا في مناسبات سابقة، وكما يأتي إن شاء الله- أن هذا القيد صفة كاشفة، يعني لا يوجد قتل للأنبياء يكون بحق، كل قتل للأنبياء فهو بغير حق، ولا بد، فيكون ذلك لكشف هذا الحال، والتشنيع على هؤلاء اليهود وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق يُقال لهم، وهم يُعذبون في النار: ذوقوا عذاب النار المُحرقة.
يؤخذ من هذه الآية من الهدايات، والمعاني أن قوله -تبارك وتعالى-: لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء هنا قسم مُضمر لَّقَدْ سَمِعَ أي: والله، فحُذف حرف القسم، وفعل القسم، والمُقسم به، وهو اسم الجلالة، فبقيت هذه اللام دالة على القسم، وأُكد ذلك بقد، القسم يفيد توكيد الكلام، وكذلك دخول "قد" على الفعل الماضي لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ فهذا يدل على التحقيق.
ثم إن ذكر السمع هنا أنه سمع قول الذين قالوا يدل على المؤاخذة، يقول: سمع ما قالوا، فذلك يعني أنه سيُجازيهم، ويؤاخذهم، ويُحاسبهم، كما يقول من لهم اقتدار لغيره ممن وقع منه شيء من إساءة الأدب، أو نحو ذلك، لقد سمعت ما قلت، فهل هذا مُجرد إخبار بالسماع، أو المقصود به الوعيد؟ هو مُتضمن لوعيد مُبطن لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء.
ثم قال أيضًا: سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ، ما قال كتبنا، أو كُتب ما قالوا، وذلك كله "سنكتب" هذا يدل على التوكيد أيضًا، السين للتوكيد، أي: لن يفوتنا أبدًا إثبات ذلك، وتدوينه، كما لم يفوتنا قتلهم الأنبياء، فهذا كله مُسجل عليهم، وسيُجازون به، فهذا كله من شنائعهم، يعني: قرن قولهم هذا الشنيع إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء مع قتلهم الأنبياء بغير حق، فهذا يدل أيضًا على أن هذه العظام من شأنهم، ومن عادتهم، وأن ذلك قد تتابع صدوره عنهم.
ثم أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء، ومع ذلك لم يُعاجلهم بالعقوبة، وهذا يدل على كمال حلمه، وعلى صبره على أذى عباده كما جاء في الحديث: لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله [2]، فهؤلاء الذين يُجرمون في حقه ينسبون له الصاحبة والولد، وهو يرزقهم ويُعافيهم كما في الحديث القُدسي: يؤذيني ابن آدم[3]، وكذلك: يشتمني ابن آدم، وما ينبغي له أن يشتمني[4]، ما هذا الشتم؟ هو أنه أضاف له الصاحبة والولد، وما هذا الأذى يؤذيني ابن آدم، وذلك يسب الدهر، وأنا الدهر[5]، فهذا كله من حِلمه -تبارك وتعالى-، وإلا فلو كان ذلك بيد مخلوق؛ لعجل بهم، وأفناهم عن آخرهم، ولكن الله يرزقهم ويُعافيهم مع هذه الشنائع.
بل قال الله -تبارك وتعالى- بأسلوب جاذب للنفوس أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة:74]، هؤلاء الذين نسبوا له الصاحبة، والولد يتلطف بهم هذا التلطف، وكذلك الذين أحرقوا أولياءه في الأخدود فتح لهم باب التوبة إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، بمعنى أحرقوهم في النار، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيق [البروج:10].
فهذا كله يدل على سعة حلمه، وعلى رحمته بعباده، فمع هذا الفُحش في القول، والشطط في الاعتقاد، وقتل الأنبياء الذين هم خيرة خلقه، ومع ذلك لم يعاقبهم حتى بالفقر، اليهود من أغنى الناس كما هو معلوم، ولكن هذا إملاء وإمهال واستدراج؛ ليزدادوا إثما كما جاء في الآيات السابقة، فأخر لهم العقوبة ليزدادوا من هذه الأحمال من الموبقات والسيئات.
لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء هنا لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ هذه جيء بها -كما سبق- للتهديد والوعيد، وهذا بخلاف قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فهذا جاء لتقرير صفتي السمع والبصر، كل ذلك يدل على إثبات السمع لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ هذا بالفعل الماضي، فيدل على هذه الصفة.
وكذلك وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، فهذا كله يدل على إثباتها، لكن الفرق بين الآيتين أن قوله: لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ هذا جيء به في مقام التهديد والوعيد، والآخر لإثبات، وتقرير الكمال، إثبات صفات الرب .
وهؤلاء الذين يقولون: إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء لو سألوا أنفسهم سؤالاً لربما لا يحتاج إلى كثير تكلف، أو إمعان في النظر، إذا كان الله هو الفقير، وهم أغنياء فمن الذي أعطاهم هذا الغنى؟ من الذي أولاهم؟ من الذي أغناهم؟ هل هذا الغنى كان من عند أنفسهم، بل الله -تبارك وتعالى- هو الذي يهب من يشاء الغنى.
وكما سبق أيضًا بالكلام على بعض الآيات السابقة، فالإيتاء من الله، وهو محض فضل منه، فهنا هؤلاء حينما بادروا إلى هذه المقالة القبيحة لم يسألوا أنفسهم قبلها من الذي أغناهم حتى قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، والقاعدة: أن كل كمال يُضاف إلى المخلوق فالخالق أولى به[6].
لكن هذه القاعدة تُقال، ويُراعى فيه أمران:
الأمر الأول: هو أن ذلك في الكمال المُطلق، وليس الكمال النسبي، يعني: الولد، والزوجة بالنسبة للمخلوق كمال، لكنه كمال نسبي لفقر المخلوق وحاجته، أما الله فذلك نقص في حقه، فتنزه عن الصاحبة والولد، الكمال المُطلق من كل وجه، الله أحق به، مثل: الغنى، السمع، البصر، القوة، الغزة، الإرادة، الحكمة، وهكذا.
الأمر الثاني: أن أهل السنة لم يثبتوا صفة مستقلة بهذه القاعدة، ولكنهم يذكرون ذلك على سبيل الإلزام، والرد لمُنكري الصفات.
ثم أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ هذا يدل على أن أعمال العباد، وأقوالهم تُكتب، والله -تبارك وتعالى- يقول: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد [ق:18]، وجاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى إنه ليكتب قوله: "أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت"[7]، ونحو ذلك يُكتب، ثم بعد ذلك يُمحى ما لا جزاء فيه، لكن الذي عليه اتفاق أهل العلم أن كل أعمال العباد ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال أن ذلك يُكتب فيما يترتب عليه الجزاء، فيما يتعلق بالتكليف، ما يُثاب عليه أو يُعاقب، سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ.
والله لا يخفى عليه خافية، وهو غني عن الكتابة، لكن هذا كله من باب التأكيد والتسجيل على هؤلاء وعلى غيرهم، فيكون ذلك مُثبتًا مدونًا في كتاب الأعمال وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا [الإسراء:13]، مفتوح، اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14].
فقوله: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد [ق:18]، لاحظ "قول" هنا نكرة في سياق النفي مِن قَوْلٍ، وسُبقت بـ"من" مِن قَوْلٍ التي تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح، النص صريح في العموم، مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد [ق:18]، ملكان يكتبان، ويرصدان كل شيء، فأنفاس مرصودة ممن لا يخفى عليه شيء، السر يستوي عنده بالعلانية، فإذا أيقن المؤمن بذلك، واستقر في قلبه، فعند ذلك يستوي سره وعلانيته؛ لأن الله يعلم حاله وظاهره وباطنه، والملك يكتب، فليُكثر على نفسه أو يُقل، هذه الكلمات، هذا الهذر الكثير في المجالس والمجامع والكتابات الكثيرة التي يتكثر بها في هذه الوسائل، وأن له من المشاركات كذا وكذا، وكل قضية يريد أن يُسجل حضورًا فيها ويُعلق خلفيات ذلك أو لا يعلم مُلابسات ذلك.
هو لا بد أن يُسجل حضورًا، ويُعلق على كل شيء، ويُفتي في كل شيء، ويتكلم في كل شيء، لم يُطلب رأيه، ولم يُطلب حكمه، ولم يُطلب قوله، ولم يُطلب حضوره، وكل قضية يُريد أن يُسجل فيها رأيًا، هو لا يفقه ولا يفهم، ومع ذلك يقول: هذا مُخطأ يستحق كذا، هذا ينبغي أن يُشهر به، هذا ينبغي أن يُعزر، من سألك؟! يوجد قُضاة، ولن يضيع الحق إن شاء الله، وأنت من وراء وراء وراء على فراشك، وتكتب: هذا مُخطأ، وهذا كذا.
سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُون [الزخرف:19]، حينما يحكم الإنسان هذا مُصيب، وهذا مُخطأ، وهذا غلطان، وهذا طيب، وهذا سيء، وهذا بر، أو فاجر، هذه شهادات ستُكتب، ويُسأل الإنسان عنها ما حاجتك بالاستكثار من هذا، كل كلمة تُجرجر فيها، ويُقال لك: قلت كذا، هات البُرهان على ما تقول، هل هذا يليق بالعاقل، فضلاً عن المؤمن؟
فمن أيقن بذلك -أيها الأحبة!- أمسك لسانيه، اللسان الناطق، واللسان الآخر، الراقم، القلم، يُمسك، ويحفظ نظراته وإشاراته وخطاباته وكلماته، ويحفظ حركات اليد والرجل وسائر الأعضاء؛ لأنه سيلقى جميع ذلك في كتاب يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [الإسراء:13] مفتوح حتى ما يحتاج إلى فتح، هذه الأعمال والمزاولات هي التي تؤهل مع رحمة الله، أو إذا فقد هذه الرحمة أن يأخذ كتابه بيمينه، أو يأخذ كتابه بشماله، لماذا هذا يأخذ كتابه بشماله، وهذا يأخذ كتابه بيمنيه، ويا لها من حسرة.
هذا الذي يأخذ كتابه بيمينه يطير من الفرح هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيه [الحاقة:19-20]، يعني: علمت أني سُأحاسب، فحاسبت من قبل، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة فِي جَنَّةٍ عَالِيَة قُطُوفُهَا دَانِيَة كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا، بماذا؟ بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَة [الحاقة:21-23]، الأعمال الصالحة: الصوم، العبادة، الصلاة، الذكر، طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، بِمَا أَسْلَفْتُمْ.
لكن الذي أسلف بالتضييع، والتفريط ماذا ينتظر؟ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه خُذُوهُ فَغُلُّوه ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوه ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوه [الحاقة:24-32].
هذه الخسارة الكبرى، هذا الإخفاق الحقيقي، هذا الذي ينبغي أن يعمل الإنسان له، وأن يستعد الاستعداد الأكبر، وأن يضع ذلك نُصب عينيه لا يُفارقه بليله ونهاره، وذهابه ومجيئه؛ من أجل أن يُحقق هذا الفوز الأعظم.
وهكذا أيها الأحبة! فإن هذا الإنسان الذي يحصل له هذا الفوز الكبير يكون بلا شك قد جاوز كل أسى، وكل حُزن وتعب ومرض واعتلال وجاوز الفقر والهم والغم والصُداع والحر والبرد والقلق والضيق والكلام الباطل، وكل شيء من أنواع الأذى، انتقل من السعادة الكاملة من كل وجه، لا يوجد ملل، ولا يوجد حر، ولا رطوبة، ولا برد، ولا إرهاق، ولا تعب، ولا اعتلال في الصحة، ولا ارتفاع حرارة، ولا انخفاض ضغط، هذا كله لا وجود له، بينما الذين في الناحية الأخرى في النار -نسأل الله العافية- هؤلاء كل بؤس، وكل بلاء، وكل أذى، وكل عذاب، وكل شدة هي نازلة فيهم.
فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، برقم (4428).
- أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لا أحد أصبر على أذى من الله -عز وجل-، برقم (2804).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] الآية، برقم (4826)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر، برقم (2246).
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]، برقم (3193).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] الآية، برقم (4826)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر، برقم (2246).
- انظر: شرح العقيدة الوسطية، للهراس، (1/74)، وشرح الرسالة التدمرية، لمحمد الخميس (199).
- انظر: تفسير ابن كثير، (7/399).