الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(212) تتمة قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ...} الآية 187
تاريخ النشر: ٢٢ / شعبان / ١٤٣٨
التحميل: 415
مرات الإستماع: 923

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا يزال الحديث متصلاً في الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُون [آل عمران:187]، تحدثنا عن صدر هذه الآية، وأن أخذ الميثاق على الذين أوتوا الكتاب يعم بحكمه أهل العلم كافة، ولا يختص بمن مضوا وقضوا، فالبيان والبلاغ وعدم الكتمان كل ذلك مما يجب على العلماء، وهذا فيما يحتاج إلى بيان، وإلا فإن ذلك قد يُستغنى عنه بالنسبة للمُعين إذا وجد من يقوم مقامه أو يكفيه، أو يكون أولى بذلك منه، من جهة العلم والإمامة، وما أشبه ذلك، بمعنى أنه يمكن للمُفتي أن لا يُجيب على سؤال سائل لوجود غيره ممن يُجيب هذا السائل، ولذلك كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يتدافعون الفُتيا تورعًا فتدور على جملة منهم حتى لربما رجعت إلى الأول يتدارءون ذلك، ما كانوا يجترئون على الفُتيا، ولذلك فإن محمل الكثير مما جاء عن السلف في ترك الكلام في التفسير مثلاً أن ذلك من باب التورع، نعم قد يكون يخفى عليه هذا الذي سُئل عنه، ولكن هي أحيانًا أمور هي في نظرنا في غاية الوضوح، ونجد مثل ابن عباس -رضي الله عنهما- يتورع، ونجد من كبار الصحابة ممن هو أعلى طبقة من ابن عباس يتورع.

فهذا محمل صحيح أن العالم يمكنه أن يتورع، الإمام مالك يُسأل عن عشرات المسائل فيُجيب عن عدد قليل ثلاث مسائل أو أربع أو نحو ذلك، والباقي يقول: الله أعلم، هل معنى ذلك أنه ليس عنده جواب مطلقًا، أو أن عنده شيء من التردد، فالعالم يحصل عنده تجاذب في المسألة عند النظر فيها بين النصوص والقواعد ونحو ذلك فيبقى عنده شيء من الموازنة فيبقى مترددًا في ذلك بسبب هذه الأمور المجتمعة فهو ينظر إليها جميعًا بخلاف العامي الذي قد يسبق في مجلس العالم، ويتكلم ويتفوه بالجواب ولا يُبالي؛ لأنه لا ينظر إلا من ثُقب الإبرة، هو لا ينظر إلا إلى هذا فقط الذي سمعه وهذا الدليل المُعين، فيقول: المسألة واضحة هذا الدليل، والعلماء لماذا يختلفون، ويتعجب لماذا هذا العالم يتوقف أو يتورع أو يُحيل إلى غيره والمسألة واضحة في نظر هذا العامي، فهذا وجه صحيح في ترك البيان والجواب والفُتيا.

وهناك وجوه أخرى أيضًا يُمنع فيها، أو قد يمتنع فيها العالم، ويكون معذورًا مثل: فيما إذا كان السؤال في أمور لم تقع، والله قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا [المائدة:101]، ومحمل ذلك في وقت نزول الوحي في زمان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، لكن العلماء قالوا: بأن السؤال عن الأمور التي لا تقع لا يجب الجواب عنها، ولكن إن كانت من المسائل قريبة الوقوع فالجواب عنها صحيح، يعني: بمعنى أن ذلك لا يُمنع، وإن كان ذلك مما يبعُد وقوعه يعني لا يقع إلا نادرًا أو لا يكاد يقع فهذا لا يحسُن الجواب عنه؛ لأن السؤال لا يحسُن إيراده.

ومن الأمثلة على ذلك الذي يقول: بأن الدابة لو أنها ناقة يعني أو الراحلة لو وطأت دجاجة ميتة فخرج منها بيضة ففقست هذه البيضة عنده فخرج منها فرخ هل يجوز أكله أو لا؟ باعتبار أنه خرج من دجاجة ميتة؟ هذه مسألة! لكن في مثل هذا الوقت ممكن عن طريق هذه الآلات الحاضنة للبيض يمكن يقع مثل هذا، لكن في ذلك الزمان، ولذلك كان مثل هذا السائل يُزجر عادة، وكان بعض أصحاب النبي ﷺ يمتنعون من الجواب ويذكرون عِلة ذلك أنهم توجه إليهم أسئلة لم يسألوا عنها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولم يشتغلوا بتحصيلها، يرون أنها من قبيل التكلف، فالأسئلة المُتكلفة يمكن أن لا يُجيب الإنسان عنها، ولذلك نُهينا عن الأغاليط، الأغاليط صعاب المسائل، يعني الذي يولد مسائل صعبة مسائل عسيرة من أجل أن يمتحن فيها الناس، فإذا عُلم أن هذا السائل يُريد الامتحان فلا يُجاب.

كذلك فيما لو أن هذا السائل كان مقصوده من هذا السؤال هو البحث عن رُخص الفقهاء، يعني: هو عُلم أن هذا الإنسان يتتبع فيأتي أحيانًا ويُصرح يقول: سألت قبلك عالمًا أو سألت فلانًا فأجابني بالمنع، فما تقول أنت؟

فهذا لا يُحسن الجواب لمثله، فيُقال له: تكتفي بسؤالك الأول ولا تتطلب رُخص الفقهاء، رُخص الفقهاء غير رُخص الشارع، رُخص الشارع مثل: الفطر في السفر، وكذلك قصر الصلاة الرُباعية، هذه رُخص الشارع، الذي لا يستطيع أن يُصلي قائمًا يُصلي قاعدًا، أما رُخص الفقهاء هذا أباح وهذا حرم، فالذي أباح كان ذلك ترخيصًا في مسائل كما هو معلوم في النبيذ، أو نحو ذلك من الفتاوى التي لربما توافق هوى المُستفتي أحيانًا فيبحث عنها، يبحث عما يوافق هواه في مسائل طلاق، أو مسائل بيع وشراء أو غير ذلك، يبحث عن الذي يهواه، فهذا لا يُجاب.

ومن هذه الأسئلة التي لا تليق في الآلات الحديثة الآن يُرسل لأكثر من عالم أو مُفتي يُرسل لهم نفس السؤال ويظهر في الرسائل مُشتركة فلان وفلان وفلان، وإذا كانت الأسماء مُخزنة عندك أسماء هؤلاء من أهل العلم تظهر أسمائهم أن هذا أرسل إلى ثلاثة أو أربعة أو نحو ذلك فهو يريد أن ينظر جواب هذا وجواب هذا وجواب هذا، هذا لا يحسُن هذا لا يُجاب، ولا يليق أن يسأل بهذه الطريقة، ويضرب أقوال أهل العلم ببعضها فقد يورثه حيرة، وللأسف يفعل هذا إذا أراد أن يسأل كتب رسالة، وهذه الرسالة واضح أنها أُرسلت إلى مجموعة يعني رسائل جماعية يسألهم.

وكذلك إذا كان يترتب على الجواب مفسدة أو يترتب على البيان مفسدة، إما بالنسبة لهذا الشخص المعين قد يكون ذلك سببًا لفتنته، أو بالنسبة لعموم الناس أو لغيره من الناس.

ولذلك كان بعض أهل العلم لا يُحدث ببعض الأبواب؛ خشية أن يُفتن الناس، وأبو هريرة ذكر أنه حفظ عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- جرابين أو وعائين أو نحو ذلك، وأنه حدث بواحد ولم يُحدث بالآخر[1].

ما هذا الآخر الذي لم يُحدث به؟ هو ليس مما يتعلق بالأمور العملية أو الأمور التي يحتاج إليها الناس وينتفعون بها، وإنما كان فيما يظهر أنها قضايا تتعلق بأشخاص ذكرهم النبي ﷺ بذم، أو أمور تتعلق بدول وخلفاء ونحو ذلك، فكان يقول: "لو حدثت به الآخر يعني لقُطع هذا".

فكان يترتب على التحديث بهذا مفسدة، هؤلاء الناس سيزهدون بهؤلاء ثم بعد ذلك يحصل من الخروج عليهم والقتل وما إلى ذلك والفساد العريض في الأرض كما حدثنا في العِبر من التاريخ، فلو حدث عنهم بهذه الأحاديث لقام الناس عليهم لربما، أو من لا يصبر ومن لم يؤت من العلم فيحمل هذه الأمور على غير محملها، فما كل ما عُلم يُقال، ولذلك لا يكون الإنسان فقيهًا بصيرًا عالمًا إلا إذا كان بصيرًا بما يُحدث به، ولا يكون بتلك المثابة إذا كان يُحدث بكل ما سمع، أو كل ما حفظ، أو كل ما بلغه، وهذا جاء عن جماعة من السلف عن الشعبي وغيره أئمة كبار جبال، ولذلك جاء في الأثر: "ما أنت بمحدث قوم حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"[2]، في الأثر: "حدثوا الناس على قدر عقولهم أتريدون أن يُكذب الله ورسوله"[3]، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "من المسائل ما جوابه السكوت"[4].

وذكر أن ذلك لا يُحدث به أو يُجاب هذا السائل إذ كان ذلك مما لا يُطيقه بعقله، يعني: لا يعقل هذه الأمور فلماذا يُحدث بها، هي أكبر من عقله يُفتن، لاسيما أولئك الذين لربما أسلموا حديثًا أو نحو ذلك أو لم يُسلموا من الكفار المعتنين ببعض الأمور جوانب قضايا تتعلق بحقوق الإنسان أو المرأة ورضعوا هذا وأُشربوه بطُرق مغلوطة منتكسة، ثم يأتي ويسأل عن أمور في الشريعة في مسألة: دية المرأة، أو في مسألة: ميراث المرأة أو نحو ذلك فلا حاجة أن يُحدث، يُصرف الحديث إلى أمر آخر، من أجل أن لا يكون هذا سببًا لصدود أو ردة أو مفاسد أخرى، ما كل سؤال يُجاب عنه.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- النوع الآخر وهو ما لا يُطيقه من حيث القُدر البدنية والإمكانات ما يستطيع، عرفت الجواب عن هذه المسألة ثم ماذا، هذا أمر فوق طاقتك لا تستطيع أن تُغيره إذن لماذا السؤال؟ اشتغل بالأمور العملية التي تستطيع أن تفهمها وأن تُدركها، وأن تعمل بها، وأن تنتفع، فهذا هو العلم النافع بالنسبة إليك، وأما ما عدا ذلك فهذا لم تُبتلَ به، ولن تُسأل عنه، وليس من القضايا العملية التي يترتب عليها عمل بالنسبة إليك، هذا كله خارج عن حد البيان المطلوب، وإلا فالأصل أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولذلك بناء على هذا الأصل يمكن أن يؤخر البيان إلى وقت الحاجة، ولذلك كان بعض أهل العلم يسأل السائل يقول: هل وقع ذلك؟ فإذا قال: لا، يصرفه، يقول: حتى نُبتلى بذلك، أرحنا منه، أرحنا من هذه المسألة حتى نُبتلى بها، يعني: حتى تقع، طالما أنها لم تقع.

لكن هناك فرق بين المسائل قريبات الوقوع والمسائل البعيدة المُفترضة ولذلك كره جماعة من المتقدمين ومن السلف أرأيت أرأيت، المسائل التي يُكثر من الفرضيات.

لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُون، ذكرنا هذه المؤكدات في قوله: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ، يعني: يُبين البيان الذي لا كتمان فيه أو لا كتمان معه بحال من الأحوال.

ولا شك أن هذا ذم شنيع لأهل الكتاب؛ لأن الله قال: فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُون، فوجوه الذم في هذه الآية كما ترون متنوعة، فَنَبَذُوهُ النبذ يدل على الطرح والإلقاء بشدة، يعني: أنهم لم يتركوه فقط، أو يُعرضوا عنه بل نبذوه نبذًا، ولم ينبذوه فقط ليكون تلقاء وجوههم بل وراء ظهروهم فهم لا يرونه، ولا يتذكرونه، ولا يرون ما يُذكرهم به، فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ.

فهذا لا شك أنه يدل على شدة إعراض هؤلاء، والمُبالغة في بيان الترك لهذا الميثاق، ويدل على شدة عتو هؤلاء وتمردهم على الله -تبارك وتعالى-، واستخفافهم بعهده وميثاقه.

وقوله -تبارك وتعالى-: وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ فهذا حديث عن غائب: الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ، ثم قال: فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ، وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ، وجه الخطاب إليهم هذا التفات، ثم عاد إلى الغائب مرة أخرى: فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً، لكن عند قوله: لَتُبَيِّنُنَّهُ وجه الخطاب إليهم انتقل من الغيبة إلى المُخاطب، كأن هذا -والله أعلم- باعتبار أن هذه قضية تحتاج إلى إيقاظ، إلى تنبه، إلى مواجهة بالخطاب مباشرة، أخذ الميثاق والعهد عليهم لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ، قال: فَنَبَذُوهُ، ولم يقل: فنبذتموه، فَنَبَذُوهُ فأعرض عنهم، فتحول الخطاب إلى الغيبة كأنهم لا يستحقون أن يوجه الخطاب إليهم بعد هذا الميثاق الواضح الصريح الذي خُوطبوا به، والله تعالى أعلم.

فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وهنا التعقيب بالفاء، وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ، الفاء تدل على التعقيب المُباشر، يعني: كأن هؤلاء مُباشرة لم يتريثوا ولم يتمهلوا ولم يعملوا به زمانًا يعني البيان، ويقوموا به على الوجه المطلوب وإنما مُباشرة النبذ، وهذا لا يُستغرب من هؤلاء حينما خرجوا من البحر ورأوا فرعون يغرق الذي يدعي الإلهية والربوبية ويفتك بهم ويُطاردهم، ويقولون: إنا لمدركون، ثم بعد ذلك يُنجيهم الله بفلق البحر، ويرون كل قبيل من بني إسرائيل كل سِبط منهم يمشون في فِرق من هذا البحر، ويرون البحر يقف كالجبال ويمشون على أرض يبس والبحر جامد واقف، الماء واقف محجوز وهم يمشون يجتازون لا يفقدون إنسانًا ولا متاعًا، وبمجرد ما يجتازون ويرون البحر ينطبق على جيش بكامله مع فرعون الذي جمعهم من أقطار مملكته، تصور أرسل في المدائن حاشرين، وجمع هؤلاء إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الشعراء:54]، فجمعهم من أطراف مصر وحشد الناس لمُلاحقتهم ثم يغرقون جميعًا، ثم يأتي هؤلاء على قوم يعكفون على أصنام لهم يقولون: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، هذا شيء غير عادي في العتو على الله هذا شيء غير عادي، يرون الآية أمامهم ويفعلون هذا، أمة غريبة، يتوجهون إلى بلاد الشام إلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم: ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [المائدة:21]، ثم بعد ذلك يقولون: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون [المائدة:24]، لن نقاتل، ويقول لهم: كتب لكم هذه الأرض، يعني: أن النصر مُتحقق، ومع ذلك يقولون: اذهب أنت وربك، معهم كبير الأنبياء أنبياء بني إسرائيل موسى ويقولون له هذا الكلام فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ، ما قالوا اذهب أنت وربنا "ربك" منتهى الجرأة على الله ، ثم لما بقوا في التيه ومُنعوا من دخولها ينزل عليهم المن والسلوى، ويقولون: نريد بصل وقثاء وثوم وعدس، يعني: أمة متمردة، ويذهب موسى إلى الميقات ويعبدون العجل، هارون يعتذر لموسى لما رجع غضبان يقول: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي [الأعراف:150]، إلى هذا الحد نبي بين أظهرهم هارون استضعفوه وكادوا يقتلونه من أجل العجل حينما نهاهم عنه، ويقول: فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ [الأعراف:150] معناها أنه يوجد بين هؤلاء أعداء لهارون وسيشمتون به، نبيهم، فهؤلاء لا طب فيهم.

وهنا: فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ، يعني: مُباشرة لم يتريثوا ويمكثوا مدة من الزمن، وإنما مُباشرة النبذ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً استعاضوا بشيء من حطام الدنيا، وكل ما في الدنيا قليل حتى لو أعطوا الذهب الأحمر، والكنوز هو قليل بالنسبة للآخرة وبالنسبة لعذاب الله ، ونسبة لتضييع العهد والميثاق والأمانة التي حُملوها، وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً وصفه بأنه قليل مهما كان كثير، لو أعطوا الأحمر والأصفر هو قليل، كل ما في الدنيا قليل: قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77]، فهؤلاء اشتروا به ثمنًا قليلا، فهذا يدل على إيثارهم للدنيا الفانية وترك الآخرة الباقية، ويدل على شدة تعلقهم بالدنيا وحبهم لها، وأنهم يُضحون بالميثاق والعهد والدين والأمانة من أجل تحصيل هذا الطمع.

ولفظة: وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً تدل على رغبة بهذا الذي اشتروه، رغبة في هذا المأخوذ والإعراض عن هذا المبذول الذي هو عهد الله وميثاقه عليهم بالبيان واشتروا به ثمنًا قليلا.

ثم ذمهم: فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُون بئس هذا الشراء الذي استعاضوا به بالفانية على الباقية، وهذه كما سبق وإن كانت في أهل الكتاب، فكذلك أيضًا في هذه الأمة فإن من اعتاض عن الآخرة بهذه الدنيا فهذا لا شك أنه مُضيع بئس ما فعل، بئس ما اشترى.

وكذلك أيضًا كل من ضيع من أهل العلم عهد الله وميثاقه بالبيان وكتم أو بدل وغير وحرف فله نصيب من هذه الآية، وهذه الصفة، فالله ذكر ذلك من أجل التحذير، والناس في هذا على مراتب ليسوا على حد سواء، من الناس من يكتفي بالكتمان، من الناس من لا يكتفي بالكتمان بل يُبدل ويُحرف ويكذب على الله ويفتري، يعني: هو لا يقول الحق لا يُبين الحق للناس الذي جاء في الكتاب والسنة وإنما يُبدل ذلك ويكذب على الله، ويقول: بأن حكم الله كذا، هذا التبديل والتحريف هذا أشد من الأول، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يتكلم بالحق فلا يجوز له أن يتكلم بالباطل، لا يتكلم بالباطل، والله المستعان.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب حفظ العلم، برقم (120).
  2. أخرجه مسلم في المقدمة (صحيح مسلم) (1/11).
  3. ذكره البخاري في صحيحه معلقا بصيغة الجزم في باب من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا، (1/37)، برقم (127).
  4. مجموع الفتاوى (20/59).

مواد ذات صلة