الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(213) قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ...} الآية 188
تاريخ النشر: ٢٣ / شعبان / ١٤٣٨
التحميل: 420
مرات الإستماع: 1053

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما ذكر الله -تبارك وتعالى- الأذى الذي لا بد من وقوعه: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا [آل عمران:186]، ذكر الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك أذى من أذى المشركين، والمقصود بهم هنا أهل النفاق، وذلك قوله -تبارك وتعالى-: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم [آل عمران:188]، كما جاء في سبب النزول من حديث أبي سعيد الخُدري المُخرج في الصحيحين ما يدل على أنها نزلت بسبب المنافقين، فقد كانوا إذا أراد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- غزوًا جاءوا إليه واعتذروا عن الخروج معه[1]، وفرحوا بقعودهم خلاف رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فإذا رجع النبي ﷺ استحمدوا أنفسهم عنده، فهذا كان من صنيعهم، والمنافقون كما هو معلوم كفار في الباطن، فهم باقون على كفرهم وشركهم، فهذا من جملة الأذى.

لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ فهذا يمكن أن يُقال: إنه وجه من الارتباط بين هذه الآية وما قبلها، والمعنى: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ، يعني: أيها النبي لا تظنن أن هؤلاء الذين يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ، يعني: من العمل المشين من القعود خلاف رسول الله ﷺ، هؤلاء بقعودهم هذا عن رسول الله ﷺ يفرحون بهذا التخلف عن الغزو معه، ومع ذلك: وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ أن يُثني الناس عليهم بما ليس من فِعالهم، فهؤلاء جمعوا بين هذين الأمرين القبيحين، قال: فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ فلا تظنن أن هؤلاء بمفازة يعني بمنجى من عذاب الله -تبارك وتعالى-، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم مؤلم موجع.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات والمعاني في قوله: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ الذي يفرح بالقبيح، يفرح بالقعود عن طاعة الله ، يفرح بترك محاب الله ومراضيه، هذا ليس على جادة ولا على عمل صحيح، وحال محمودة، فهو بحاجة إلى أن يتوب، وأن يُراجع نفسه، وأن يُنيب إلى الله -تبارك وتعالى- لا أن يفرح بعمله هذا.

وهذا الفرح يدل على تصحر الإيمان في قلبه إذ لو كان الإيمان حيًّا لآلمه هذا القعود عن طاعة ربه -تبارك وتعالى-، المؤمن إذا حصل منه تقصير أو قعود عن الطاعة تألم ولو كان معذورًا، إذا مرض فلم يستطع الذهاب إلى المسجد، أو مرض فلم يستطع الصوم، أو حبسه حابس عن الحج صار قلبه يخفق، ويهفو إلى هذه الطاعة ويتحسر على فواتها، وقد يبكي، وقد لا تحمله الأرض التي يجلس عليها فيُصر على الذهاب، ولو كان معذورًا كما كان بعض أصحاب النبي ﷺ ومن بعدهم، فلربما أصر الواحد منهم على أولاده على أبنائه أن يخرجوا به وهو معذور، لربما كان لا يُبصر لكنه يقول: كيف وقد قال الله تعالى: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة:41]، فيخرج ويحمل الراية.

وهكذا في الصلاة فمثل "عامر بن عبد الله بن الزبير وهو من التابعين من خيار التابعين كان في مرض الموت وسمع أذان صلاة المغرب فقال: احملوني، فقالوا: أنت معذور، فقال: أسمع داعي الله ولا أُجيب!، فخرجوا به إلى المسجد وقد عضد له رجلان، فلما أُقيم في الصف صلى الركعة الأولى ثم بعد ذلك قُبض في الصلاة"[2]، يعني: معناه أنه خرج وهو في النزع، ويسمع الأذان ويقول هؤلاء، "عمر لما طُعن وأُغمي عليه ما استطاعوا أن يوقظوه بشيء إلا الصلاة، الصلاة يا أمير المؤمنين، ففزع واستيقظ، وقال: نعم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة"[3]، وهو مطعون ينزف، سقوه اللبن فخرج مع جُرحه -رضي الله عنهم وأرضاهم-، فالمقصود أن مثل هؤلاء يتحسرون إذا فاتهم الخير أو مواسم العبادة والطاعة وأعمال البر، بينما المنافق يفرح ويغتبط بأنه قعد وترك فوات الصلوات، ولربما كان بعضنا على فراشه ويسمع الآذان ويسمع الإقامة ومع ذلك ينام وقد يخرج الوقت وهو نائم، ولا يتأثر، هل هذا يدل على حال صحيحة وقلب سليم، القلب السليم لا بد أن يتوجع ويتأثر إذا حصل له مثل هذا.

لكن هؤلاء الذين يفرحون بما أتوا من الفعل القبيح والقعود عن طاعة الله هؤلاء هم أهل النفاق وهم الذين وصفهم الله: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى [النساء:142]، لأنه لا نية لهم أصلاً، لا يرجون ما عند الله، ولا يحتسبون: يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلا [النساء:142]، فهذه صفة المنافقين، ينبغي أن يبتعد عنها المؤمن ويتحاشى ذلك؛ لئلا يكون مُشاكلاً لهم مُشابهًا لهم في صفاتهم، هل نقوم ننشط إذا سمعنا النداء وتتحرك قلوبنا، إذا كان الإنسان معذورًا أو غلبه نوم في حالة نادرة ما حاله؟ الأمر طبيعي إلى آخر النهار لم يحصل شيء، فاتته الصلاة مع الجماعة، كيف تكون حال الإنسان؟ كيف يكون قلبه في ذلك اليوم؟ كيف يستطيع أن يُنجز عملاً من الأعمال وقد فاتته الصلاة؟! إذا كانت السُنة القبلية قبل الفجر خير من الدنيا وما فيها فكيف بمن فاتته الفريضة، من الذي فاته؟!

ولو أن أحدًا منا فاته شيء من أموره الدنيوية، فات الاختبار لإنسان، أنا رأيت طالبًا يرتجف يضطرب حتى رحمته، وعيناه مُحمرتان غلبه النوم وجاء حتى خشيت عليه أن يُصاب بمكروه، أو نحو هذا من شدة ما به من الوجد والخوف والاضطراب والجزع والهلع، ورأيت آخر فاته مقصود من مقاصده في الدراسة يبكي بعويل كالطفل، أو أشد بعويل بصوت مرتفع، هذا إذا فاته، لكن من منا بكى إذا فاتته الصلاة، مثل هذا أو ارتجف أو اضطرب، أو جاء وهو في حال من الارتباك وعيناه محمرتان، وفرائسه تضطرب وترتدع، من؟! تفوت الصلاة والأمر قد يكون غير مؤثر، لكن لو فات الاختبار لأحد من الأبناء مشكلة في ذلك اليوم تحتاج إلى حل، وتدخل أطراف أخرى ومعالجة واستدراك، ولوم وعتاب وسائر اليوم، وكيف حصل هذا؟ ومن الذي يتحمل المسؤولية هل هو هذا الولد الذي نام؟ أو أن أمه، أو الأب هو الذي يتحمل ذلك، لكن إذا فاتت الصلاة لا يوجد شيء من هذا.

فهذا كما ترون في صفة المنافقين الذين ليسوا بمفازة من العذاب، ليسوا بمنجى ومنأى من عذاب الله -تبارك وتعالى-، لا تحسبن أيها النبي، وهو خطاب أيضًا للأمة، وفي القراءة الأخرى المتواترة: لاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ لا يظنون هم أنفسهم أنهم على خير، وأنهم حصلوا خيرًا بقعودهم هذا عن طاعة الله .

لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ أيها النبي، للتأكيد بأن هذا الظن لا ينبغي أن يكون بحال من الأحوال، وفي القراءة الأخرى (لاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ يَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ) لا يظن هؤلاء في أنفسهم أنهم حصلوا خيرًا يغتبطون به.

وفي القراءة المتواترة الثالثة: (لاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ) لا يظن هؤلاء ولا تظن أنت أيضًا أنهم بحال مرضية، وأنهم في حال يُغبطون عليها، وأنهم بمنجى من عذاب الله -تبارك وتعالى-.

كذلك أيضًا هذه الآية: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ هذه الصفة الثانية، يفرحون بقعودهم عن الخير والبر والطاعات، ويحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فجمعوا بين هذا وهذا، فهذا حب المدح والثناء على التقصير وعلى ما لم يفعل فهذا لا شك أنه أمر غير جيد، وينبغي للمؤمن أن يحذر منه، يُحب أن يُحمد على أمور لم يفعلها، وهذا فيه شبه من ذاك الذي يتشبع بما لم يُعطَ، يعني: يذكر أمورًا لم يُحصلها، وكمالات لم يُحققها، وأعمال لم ينهض بها من أجل أن يُثنى عليه ويُمدح، كأن يقول مثلاً: أنا أتصدق وأنا أبذل، وأنا لا يأتيني أحد إلا بذلت له وأعطيته، ونحو ذلك ولا أرد سائلاً، وهو ليس كذلك؛ ليُمدح ويُثنى عليه، أو يذكر من اشتغاله بمعالي الأمور كالعلم، ونحو ذلك، ومحبته لهذه المطالب العالية، وأنه قد حصل ما حصل منها، وليس كذلك، هو بارد الهمة فاتر العزم، لا ينهض بناهضة من ذلك في قليل ولا كثير، ويتشبع بهذه الأمور.

والقضية ليست بذكر مثل هذه الأعمال التي لم يعملها حتى يُمدح، هذا قبيح جدًا، لكن هذا الوصف المذكور في الآية يحصل لمن أحب مجرد المحبة، وهذا أخطر والله يعلم ما في قلب الإنسان، يُحب أن يُمدح في أمور لم يفعلها، يُمدح مثلاً أنه يصوم التطوع، وأنه يقوم الليل، وصاحب تهجد وعبادة، الناس يُحسنون الظن به ويفرح، ويُحب هذا المدح، هذه ليست بعاجل بُشرى المؤمن، مدحوه بأعمال وأوصاف ليست فيه وهو مُحب لذلك فرح مُغتبط به، بخلاف من كان على عمل صالح وإيمان صحيح وجد واجتهاد فأُثني عليه فوجد شيئًا من الانشراح والسرور بذلك فهذا لا إشكال فيه إذا صحت نيته، قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ [يونس:58]، وتلك عاجل بُشرى المؤمن كما قال النبي ﷺ[4]، فقد يطلع الناس على بعض عمل الإنسان وقد لا يطلعون لكن الله يجعل للمؤمن الصادق العامل بطاعته كما قال ابن الجوزي -رحمه الله-[5]: يجعل لذلك وقعًا في قلوب الناس فيُحبونه، ولم يطلعوا على عمله هم لا يدرون ماذا يعمل لكن يُحبونه، ويعلمون أنه صادق، وآخر لا يعلمون عن عمله القبيح لكنهم يُبغضونه وتنقبض قلوبهم منه لما أوقع الله له من البغضة في قلوب الخلق، هذا يحصل وهو أمر لا يخفى.

فالمقصود: وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ مفهوم المخالفة أن من أحب أن يُحمد بما فعل إذا صحت نيته فهذا لا يدخل في هذا الذم: وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِين [الشعراء:84]، وكذلك أيضًا: سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِين [الصافات:79]، لكن لا ينبغي أن يوجه المؤمن قصده ونظره وإرادته إلى مثل هذه المطالب، فإن ذلك يصعب معه ضبط النية والقصد والإخلاص، وإنما يكون مراده أن يرضى الله عنه، وأن يُعتق من النار ويُزحزح عنها، وأن يدخل الجنة، أما الناس فلا شأن لك بهم، وإنما عليك أن تُصحح العلاقة مع رب الناس الذي إذا رضي عنك أرضى الناس، وإذا سخط أسخط الناس، والناس إنما يطلعون على الظاهر، والله يطلع على الباطن والظاهر، فلا شأن لك بالناس ولا تلتفت إليهم، ولا تُزين كلامك من أجلهم، ولا تُزين عملك من أجلهم، وإنما تزين أمام من لا تخفى عليه خافية، يعلم خلجات النفوس، وما يعتلج في الصدور ويعلم السر وأخفى.

فهؤلاء متوعدون بالعذاب الأليم، وأنهم ليسوا بمنأى ولا نجاة لهم منه ولا خلاص، فهاتين صفتين ليكن ذلك منا على بال دائمًا: يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ من الخيبة والقعود عن طاعة الله، {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ}، فيُجانب المؤمن هذه الأوصاف القبيحة.

أسأل الله أن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحُسن عبادته، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب (لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا)، برقم (4567)، ومسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2777).
  2. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (5/220).
  3. أخرجه مالك في الموطأ (1/44)، برقم (101)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/438)، برقم (37067).
  4. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أثني على الصالح فهي بشرى ولا تضره، برقم (2642).
  5. انظر: صيد الخاطر (ص:502).

مواد ذات صلة