الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(215) قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ...} الآية 190
تاريخ النشر: ٠٦ / شوّال / ١٤٣٨
التحميل: 492
مرات الإستماع: 1045

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

نسأل الله -تبارك وتعالى- لنا ولكم القبول، وأن يجعل أيامنا عامرة بطاعته وذكره، وأن يجعلنا وإياكم من عتقاءه من النار، وأن يُعيد علينا رمضان ونحن في حال من العافية والإيمان، وأن يُثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

ونبتدأ بما وقفنا عنده من أواخر سورة آل عمران؛ وهي قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191]، الآيات.

فهذه قرأها النبي ﷺ حينما قام من الليل قبل أن يُصلي، وقال ﷺ فيها، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، هذه الآية التي تتضمن التفكر، قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر[1]، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المُتفكرين المُتدبرين.

فقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، هذه الآية وما بعدها يمكن أن يكون وجه التعلق يعني وجه الارتباط والمناسبة أن الآية التي قبلها مُباشرة كانت تُضيف مُلك السماوات والأرض لله -تبارك وتعالى-، وذلك في هذا المُلك والعالم العلوي والعالم السُفلي في ذلك من الآيات والدلائل على وحدانيته وقدرته وعظمته الشيء الكثير.

وكذلك أيضًا فإنها جاءت بعد ما سبق من تقرير وحدانيته والرد على النصارى.

وكذلك ما جاء فيها في السياق الطويل في شطرها الآخر من الحديث عن وقعة أُحد، وما حصل فيها من العِظات والعِبر، وما ذكر الله -تبارك وتعالى- من مداولة الأيام بين الناس، فكل شيء بيده وتحت تصرفه، والخلق خلقه والملك ملكه، ونحن عبيده يُصرفنا كيف شاء، فذكر هذه الدلائل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.

كذلك أيضًا فإن هذه الآيات جاءت بعد ذلك الذي وصفنا من حديث طويل في أولها في الرد على النصارى، ثم بعد ذلك في الحديث الطويل عن وقعة أُحد وتوابعها، فجاء الكلام عن أهم المُهمات الذي يحصل به النجاة في الدنيا والآخرة والنصر على الأعداء وهو التوحيد، التوحيد وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض.

هذه الآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بمعنى أن ربنا -تبارك وتعالى- يُخبرنا أن في هذا الخلق العظيم لهذه المخلوقات الهائلة وما في مضامينها السماوات والأرض، وكذلك أيضًا هذا الصُنع العجيب المُتقن الذي مضى عليه من الأزمان ما لا يعلمه إلا الله، منذ متى خُلقت السماوات والأرض؟ ولا يوجد فيها شقوق ولا فطور ولا ضعف ولا وهن ولا تغير في غاية القوة والثبات والتماسك والإحكام، مع تدبير ما في هذه السماوات من الأفلاك والكواكب والنجوم تسير وفق سير دقيق مُحكم، وما جعل الله لها من المنازل والأبراج وما إلى ذلك، هذا الصُنع المُتقن، واختلاف الليل والنهار هذا التعاقب الليل يتلوه النهار بصورة دائبة مُستمرة كل ذلك دلائل وآيات واضحة وبراهين ساطعة لأصحاب العقول الراجحة، فهي تُبرهن على أن الله واحد لا شريك له في إلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.

وتُبرهن أيضًا على عظمته وقدرته وغناه، وعلى كماله من كل وجه، لكن هذا لمن يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، يذكرونه في كل حالاتهم، هؤلاء أصحاب العقول الراجحة فتجول أفكارهم وأذهانهم وعقولهم في هذا الكون الشاسع، فكل شيء يُذكرهم بالله، وكل شيء يدلهم عليه فهم أهل عبرة وعِظة ينتفعون بكل هذه المُشاهدات.

ثم لا يجدون بُدًا من انطلاق ألسنتهم قائلين: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً، يعني: لم يكن ذلك عبثًا من غير حكمة عظيمة رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ، نُنزهك عن ذلك، فَقِنَا عَذَابَ النَّار فكان هذا سؤالهم ومطلوبهم، هذا مُجمل المعنى.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ تأكيد هذا الخبر بإن يدل على أهميته، وكما ذكرنا في مناسبات سابقة أن "إنّ" بمنزلة إعادة الجملة مرتين، وإنما يُكرر أو يؤكد ما يكون له شأن وأهمية.

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب، خلق السماوات والأرض هذا يدل على قدرته ، الآن لو تأمل الإنسان في صُنع البشر مهما كان قويًّا لك أن تتصور أعرق الشركات وأقدر الشركات في البناء والتأسيس مهما كان ذلك يقوم على دراسات وأبحاث وتجارب طويلة ولو امتدت لمئات السنين، شركة عريقة عمر هذه الشركة ثلاثمائة سنة لكن إذا بنت بناء كم يعيش، لو سألنا أهل الخبرة في هذا الباب في الأبنية التي نُشاهدها عندنا هنا؟ فإنهم يقولون: بأن العُمر الافتراضي للبناء للمباني هذه قد لا يتجاوز عشرين سنة في الحد الافتراضي، فيقولون: بحسب ما يكون من المواد والصُنع قد يصير إلى ثلاثين سنة لكنهم حينما يعرضون ذلك من أجل تثمينه فإنهم يحسبون قيمة الأرض فقط، لو ذهبت تعرض دارك التي مضى عليها عشرون سنة هم يقيمون الأرض فقط، طيب والبناء؟

البناء جيد البناء ما تغير هم ما يسألون عن هذا؛ لأن العمر الافتراضي انتهى، وقد يبني الإنسان البناء وقبل أن يكتمل تبدأ الشقوق، أما رأيتم هذا، هذا في صُنع البشر، الآلات التي يصنعونها من المراكب وما إلى ذلك يتطرق إليها الخلل، قد تشتري سيارة جديدة ثم بعد ذلك تُعاني في إصلاحها منذ أول أسبوع، أو أول شهر.

هذا صُنع البشر، ولربما يكتشفون مع كثرة مصنوعاتهم وطول تجاربهم لربما يكتشفون خللاً في هذه الصنعة لم يتفطنوا له قد يودي بحياة الكثيرين، أما صُنع الله -تبارك وتعالى- فيختلف عن ذلك غاية الإتقان، هل رأيتم بناء يبقى آلاف السنين لا يتغير ولا يتصدع؟

أبدًا، هذا لا وجود له، مع أننا لا نعلم كم مضى للسماوات وكم مضى للأرض، والأرض تتجدد، هل تظنون أن هذه الأرض بفلواتها وجبالها وسهولها وغير ذلك مما يوجد فيها، هل تظنون أنها بِكر في هذه المساحات الهائلة الخالية التي قد تراها في السفر وأنت في الطائرة أو غير ذلك هل تظن أنها بكر لم يرها ولم يُشاهد ذلك إلا أنت؟، هذه سكنها أقوام ثم أقوام ثم أقوام ولم يبق منهم أثر، لم يبق لهم باقية، إذا نظرت الآن إليها كأنها لم تُسكن، كأنهم ما عمروها، وإذا أردت أن تعرف هذا انظر إلى ما يكتشفه أهل الآثار ولربما عن طريق الأقمار الصناعية يصورون، يُخرجون أشياء من تحت الأرض مُدن مباني ونحو ذلك، وإذا نظرت إلى سطح الأرض التي اُكتشف فيها هذا الموضع تجد أنها أرض كأنها لم تُسكن جرداء، هذا أمر مُشاهد.

فهذه المباني، وهذه الطُرق التي تُشاهدون، وجد في السابق بنايات وطرُق ثم ذهبت ويفرح أهل تلك الاكتشافات إذا وجدود كِسرة من جرة أو بقية من بناء ويرون أن ذلك من المكاسب العظيمة حيث توصلوا إلى ذلك، فأين الأمم المُمكنة، الأمم القوية الذين عمروا الأرض أكثر مما عمرها أولئك الذين بُعث فيهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أين هم، أين ما أنشأوا وشادوا؟ كل ذلك اضمحل وتلاشى، أما هذه السماوات والأرض لا تتبدل ولا تتغير إلا إذا أراد الله -تبارك وتعالى- ذلك، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور [الملك:3]، شقوق، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِير [الملك:4]، مع هذه الزينة: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ [الملك:5]، مصابيح ما تحتاج إلى إيقاد من الخلق، ويرونها على مسافات هائلة شاسعة الله أعلم بمداها، وباقية، سُهيل الذي كان يُشاهده قوم نوح هو سُهيل اليوم، هذا القمر الذي كان يُشاهده آدم هو هذا القمر الذي تُشاهدوه، هذه الشمس التي تطلع مُشرقة في كل صباح هي الشمس التي كانت تطلع في زمن آدم ، لم تخمد، ولم تنطفأ، ولم تضعف، ونحن نوقد النار مستدفئين أو مُتلذذين أو مُستنيرين، وما تلبث بعد ساعة أو ساعات حتى تخبو ثم تتحول إلى رماد.

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ اختلاف الليل والنهار طولاً وقصرًا وما في ضمن ذلك مما يكون في الليل والنهار من البرودة والحرارة والعز والذُل والرفعة والضعة والرخاء والشدة ونحو ذلك، كل هذا فيه آيات تدل على وحدانية المعبود وعلى عظمته، وأنه الذي ينبغي أن تخضع له الرقاب، وتنقاد له النفوس، وأن يُعبد وحده دون سواه؛ لأنه المالك لهذا الملك القادر على كل شيء، وهو العظيم الأعظم.

ثم إن هذا الإخبار عن ذلك فيه حث على التأمل والتفكر، فالله ذكر ذلك في سياق مدح لهؤلاء المتفكرين المُعتبرين لآيَاتٍ، والآيات بمعنى الدلائل والعلامات تدلهم على الله، ولا خير في علم لا يدل على الله.

نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (620)، وابن كثير في تفسيره (2/189)، وجود إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيح، برقم (68).

مواد ذات صلة