الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما نهى الله -تبارك وتعالى- عن الاغترار بما عليه الكفار لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَد [آل عمران:196]، وأن هذا يُمتعون به قليلاً، ثم يصيرون بعد ذلك إلى جهنم، وبئس المهاد.
بين الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك ما يكون لأهل الإيمان والتقوى من الأبرار لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَار [آل عمران:198]، فهذا على طريقة القرآن -كما هو معلوم- يجمع بين الترغيب والترهيب، فإذا ذكر صفات أهل النار أو مآلهم وجزاءهم؛ ذكر ما يكون لأهل الجنة؛ ليبقى المؤمن في حال من الرغبة والرهبة، فيجمع بين الخوف والرجاء، وهما كالجناحين للطائر لا يطير إلا بهما، فالخوف يزعه عن مواقعة القبيح، والرجاء يحدوه إلى العمل، والمُضي قُدمًا في طاعة الله -تبارك وتعالى-، والسعي في مرضاته، فهذا ما ينبغي أن يكون عليه أهل الإيمان، ولذلك تجد كثيرًا في القرآن الجمع بين هذا وهذا.
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ الذين اتقوه بفعل طاعته، واجتناب معصيته، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، هؤلاء يُجزون هذا الجزاء، الجنات، وكما سبق أنها تُقال للحدائق ذات الأشجار الكثيرة، وأنه قيل لها ذلك "جنة" لأنها تستر من بداخلها لكثرة أشجارها، وأن هذه الأنهار الجارية تجري من تحت هذه الأشجار، ومن تحت تلك القصور، فهي قصور تُشرف على الأنهار، وذلك المكان البديع الذي لا يمكن وصفه، ولا يمكن أن يُقرب بأجمل صورة في الدنيا؛ لأن أشجار الجنة ليست كأشجار الدنيا، لو جُمع كل ما في الدنيا فإنه لا يُقارب شجرة واحدة في الجنة، النبي ﷺ لما ذكر طوبى، وهي شجرة في الجنة، قال: إن في الجنة لشجرة، يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها[1].
يعني: الذي يركب على جواد مُضمر سريع، بلا توقف مائة سنة، لا يقطع ظل هذه الشجرة، شجرة واحدة، فكيف بأشجار الجنة، وثبت عن النبي ﷺ ما يدل على أن سيقان الأشجار في الجنة من الذهب[2]، فتصور هذه الأشجار العظيمة، وإذا كان هذا حال الشجرة فما حال القصر؟ وما حال من يسكن في هذه القصور؟ وما حال تلك الأنهار التي تجري تحت تلك الأشجار؟ وما طولها؟ إذا كان الجنة عرضها السماوات، والأرض مع الخلود الأبدي السرمدي خَالِدِينَ فِيهَا، لا يخرجون منها.
نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ، والنُزل يُقال لما يكون للضيف مما يُهيأ له، وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَار، فهذه نُزلهم، وما عند الله -تبارك وتعالى- لأهل طاعته خير، ولا يمكن أن يكون هناك أدنى مفاضلة أو مُقايسة بين ما لأهل الجنة وما عليه أولئك الكفار، وما يتمتعون في الدنيا في التقلب في البلاد.
وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَار خير مما أُعطيه أولئك الكفار الذين يُمتعون بتلك المُتع، فأين هذا من هذا، والله حينما يذكر ذلك إنما يذكره من أجل أن يختار العبد كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-، يعني: تبصر هذا يكون لأهل الإيمان في الجنة، وذاك التمتع القليل في هذه الدنيا بحرها وبردها، وما فيها من الأكدار يُمتع به المتاع القليل أولئك الكفار، فكيف يؤثر العاقل هذا المتاع الزائل مع ما فيه من الكدر والتنغيص على النعيم الباقي الدائم الذي لا يزول[3].
ولاحظ هنا لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ جاء بهذا الوصف التقوى بهذا الحيز صلة الموصول الَّذِينَ اتَّقَوْاْ فهذا فيه تنويه بهم، وبهذا الوصف، ولاحظ هنا اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ فالتقوى من أجمع العبارات يعني تدل على أنهم على حال من الاستقامة والسداد يتوقون معها مواقعة المعاصي، ويفعلون الطاعات.
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ فمن أراد أن يصير إلى هذا المصير، والنعيم المُقيم، فعليه أن يتحقق بالتقوى، فذكر هذا الوصف الذي قد عُرفت حقيقته، وهذا الحد الذي يُدرك السامع ما تضمنه من أجل أن يتخير المُكلف ما عند الله -تبارك وتعالى- من النعيم المُقيم، فيتحقق بالتقوى، أو يكون ممن اغتر بذلك المتاع الزائل، ثم تكون المصير إلى جهنم، أعاذنا الله وإياكم وإخواننا المسلمين منها.
ولاحظ قوله -تبارك وتعالى-: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ ما قال: لكن الذين اتقوا الله، وإنما ربهم، فالرب -كما سبق- هذا الاسم الكريم دلالته معروفة من جهة أن الرب هو المُدبر، وهو الرزاق، وهو الخالق، وهو النافع الضار، وهو المُعطي، وهو المُحيي، وهو المُميت، فالنفع والضُر كله بيده، والخلق لا يملكون شيئًا، وإذا كان الأمر كذلك فمن الطبيعي أن يتقي الإنسان ربه.
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إضافة ذلك إلى الربوبية يُفيد هذا المعنى: أن هذا أمر مُدرك، وأنه أمر ينبغي أن يتقي الإنسان من بيده العطاء والمنع، والنفع والضُر، والجنة والنار، والهداية والإضلال، وكل شيء، فهذا كله من معاني الربوبية، الرب، اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ، ومن معاني الرب: أنه المالك، فهو مالكهم، ومن معانيه: السيد، فهو سيدهم، كيف لا يتقونه؟!
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ فهذا الذي يتمرد على الله بالكفر والمعاصي ومحادته ومحادة رسله هذا آبق على ربه، لكن الذي يتقيه هو الذي يسير في الطريق الصحيح.
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ "لهم" هنا اللام تدل على الملك لَهُمْ جَنَّاتٌ لأن اللام هذه إذا أُضيف شيء من الأعيان التي من شأنها أن تُملك إلى من شأنه أن يملك، مثل الإنسان، فيكون إضافة ملك تقول: السيارة لزيد، والدار لعمرو، هذه إضافة ملك، وإذا أُضيف معنى، أو صفة إلى موصوف: "الحمد لله" هذه للاستحقاق، يعني: مُستحق لله، وإذا أُضيف عين أو ذات إلى ذات أو عين ليست من شأنها أن تملك، تقول: المفتاح للباب، وتقول الكرسي للمسجد، فهذه اللام بعضهم يقول: للاختصاص، وبعضهم يقول: غير ذلك، فصار عندنا الملك، والاستحقاق، والاختصاص، ثلاثة أشياء، فهنا لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ فهنا أُضيفت الجنات لمن؟ لمن من شأنه أن يملك، فهي لهم، أُعدت للمتقين.
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ جري الأنهار لا شك أنه من الأشياء التي تبعث البهجة، وجريها يدل أيضًا على الوفرة في المياه، الوفرة فيما يتبع ذلك من الزروع والثمار، ونحو ذلك، وإذا كانت الأنهار كثيرة تجري من تحتها، وقريبة من تحتها، فالناس يذهبون لينظروا إلى الأنهار، ويُقيمون على شواطئها ليتمتعوا بالنظر إلى جريها، فكيف بمن تنخر هذه الأنهار تلك النواحي أمام قصورهم.
خَالِدِينَ فِيهَا، وهنا ذكر الخلود؛ لأن المُتع مهما كانت، فإذا تذكر الإنسان الانتقال عنها فإن ذلك يُحزنه، يكون ذلك تنغيصًا عليه، إذا اجتمع الناس في البهجة والسرور والفرح في منتجع، أو في ناحية جميلة غناء بكثرة الأشجار والثمار، ونحو ذلك، إذا تذكر الإنسان أنه سيطوي هذه البُسط عما قريب، في مساء ذلك اليوم، أو اليوم الذي بعده؛ يتكدر ويتنغص، فهنا ذكر الخلود، فهم لا يموتون، ولا يُخرجون، خالدين فيها.
لا أرى الموت يسبق الموت شيء | نغص الموت ذا الغنى والفقير[4] |
إذا تذكر الإنسان أنه سيموت عافت نفسه ما يُشاهد من الأمور التي تطرب لها النفوس، وإذا قرّب الموت إما بالتفكر فيه، أو بما ألم به من اعتلال، ونحو ذلك؛ زهد في الدنيا برُمتها، ولم تعد له تلك الرغبة التي تجذبه للذهاب إلى هذه النواحي، والنظر إليها، يكتئب إلا من رحم الله ، يعني: يكون راضيًا مُنشرح الصدر، وإن كان الموت قريبًا، لكن الكثيرين إذا كثُرت عللهم، وقرُب الأجل، إما لكِبر سن، أو لآمارات أخرى، فإن ذلك يجعل الإنسان يزهد في كل شيء، لا يريد الخروج، ولا لقاء الناس، ولا يجذبه جري الأنهار، ولا غير ذلك.
لكن هنا خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ فهذا كله منه -تبارك وتعالى-، وإذا أُضيف ذلك إلى الله؛ فلا تسأل عن حاله، لما يذهب الإنسان إلى مكان، إلى ضيافة، إلى مُنتجع، ويكون صاحب هذا المكان الذي أعطاه إياه، أو هيأه له من الكُبراء، فهذا يعني بالضرورة: أن كل من سمع أنك ستذهب إلى المكان الفلاني لفلان أنك ستجد فيه ما لذ وطاب، وما يحصل به أنواع البهجة، أليس كذلك؟
هنا من عند الله نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ فكيف يكون مقدار ذلك وحاله وصفته من عند الله الذي يملك كل شيء، والذي خزائنه ملأى، والدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة؛ هذه الدنيا التي ترون والتي يتنافس فيها المتنافسون، ويتطلع كثيرون إلى السياحة فيها، والذهاب، والنظر إلى الأماكن الجميلة، ونحو ذلك هي كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلو كانت تساوي عنده جناح بعوضة؛ ما سقى منها كافرًا شربة ماء، لكنها لا تساوي شيئًا، فهي لا تستحق أن تتوجه القلوب إليها، فيكون ذلك سببًا لتضييع الهدف الذي من أجله وجد الإنسان، وهو عبادة الله فينساه من أجل الدنيا، نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ، والله -تبارك وتعالى- أكرم الأكرمين، يعني: إذا نزلت على كريم لك أن تُسرح الذهن بما يمكن أن تجد، وتلقى، فكيف بالله الذي هو أكرم الأكرمين.
وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَار، الأبرار المتصفون بالبر، وهو غاية التقوى، والعمل الصالح، وقد قال بعض أهل العلم: "الأبرار هم الذين لا يؤذون أحدًا"، وبعض السلف قال: "الأبرار الذين لا يؤذون الذر"[5]، يعني: لا يصدر منهم أذى حتى للذر، لا بالقول، ولا بالفعل، لا يؤذون أحدًا، والجزاء من جنس العمل، من عاش في هذه الدنيا سالمًا من أعراض الناس ومن دمائهم ومن أموالهم ومن ظلمهم فإنه يأتي يوم القيامة إن سلم من الشرك سالمًا من المُطالبة والمُقاصة.
فلاحظ في أول الآية: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ، وفي آخرها: وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَار فدل ذلك على أن تلك الأعمال من أعمال التقوى، وهي من أعمال البر، وأن البر والتقوى معنيان يتناوبان؛ لأن الموصوف واحد، فالبر كالتقوى، كما قال شيخ الإسلام، وغيره: "هي من العبارات الواسعة"[6]، فالبر يشمل كل محاب الله من الإيمان، وشرائع الإيمان، الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان[7]، فهذا -كما في أول الآيات- يدل على أن أولئك الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ويتضرعون إلى الله -تبارك وتعالى- ويبتهلون إليه، أن هؤلاء هم أهل التقوى، وهم الأبرار.
فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من عباده المتقين الأبرار، وأن يُدخلنا الجنة بغير حساب ولا عقاب، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم (6552)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، برقم (2828).
- انظر: سنن الترمذي، (4/252).
- انظر: تفسير ابن كثير، (2/192)، و(6/249).
- انظر: الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، للنهراوني، (521).
- انظر: الزهد، لأحمد بن حنبل، (309/2244).
- انظر: مجموع الفتاوى، (20/427)، وكتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، (20/427).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (35).