الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
خاتمة هذه الآيات من خواتيم سورة آل عمران، هذا الخطاب الإلهي الذي يُخاطب الله به عباده المؤمنين بهذه الوصايا الجوامع يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون [آل عمران:200].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أذعنت قلوبهم وأقرت وانقادت وصدقت مع ألسنتهم وجوارحهم، اصْبِرُواْ على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة، واصبروا على كل ما يتطلب الصبر، وَصَابِرُواْ أعدائكم، وصابروا كل ما يحتاج إلى مُصابرة، مما يصل إليكم منه الأذى، ونحو ذلك، وَرَابِطُواْ بالإقامة على جهاد العدو، وحفظ القلب، واللسان والجوارح من كل مخالفة توقع في سخط الله ، وعقابه، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون رجاء أن يحصل لكم الظفر بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.
هذه الآية فيها من الفوائد الشيء الكثير، خاطبهم بأحب الأسماء إليهم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ، وذلك أدعى للقبول، والاستجابة، فيؤخذ من ذلك أن المُخاطب بما يُطلب منه أن يفعله أو أن يتركه، أن يُخاطب بما يكون داعيًا إلى قبوله واستجابته؛ يُخاطب بما يُحب.
ثم أيضًا الخطاب هنا باسم الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ فالإيمان له مقتضيات، ومتطلبات، فهذا الإيمان يقتضي الاستجابة، كما أنه يقتضي ما ذُكر بعده من الصبر والمُصابرة، اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ فهذه أربعة أمور، فذكرها بعد هذا الخطاب باسم الإيمان يُشعر بأن ذلك من مقتضياته، وأن تحقيق الإيمان يتطلب تحقيق هذه الأوصاف.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ الإنسان لا يبلغ مرتبة الكمال، وفيه دواعي ونوازع للخير والشر في داخله، ومنها ما يكون خارجًا عنه، ففي أعماقه: النفس المُطمئنة، والنفس اللوامة، وداعي الإيمان في قلب المؤمن، وهناك أيضًا لمة للملك، وكذلك دواعي الشر من داخله بالنفس الأمارة بالسوء، ومن خارجه ما يُلقيه الشيطان من الوساوس، وما يُلقيه أيضًا شياطين الإنس من تثبيطه عن الخير، ودعائه إلى الشر، وكذلك ما يراه في واقعه من وجود الباطل والمنكر والشر، فإن ذلك يُمثل دعاية لهذا الباطل، فيجترئ الناس عليه، لكنها دعاية صامتة، فهذا الذي يُظهر المخالفة والمنكر هو لا يفعل ذلك فعلاً يعود عليه أثره، بل يعود على المجتمع من جهة العقوبات العامة، ومن جهة أنه يُمثل دعوة إلى هذا المُنكر والباطل، فيهون وقع ذلك في النفوس، والناس كأسراب القطا جُبلوا على تشبه بعضهم ببعض، فيجد تابعًا، ثم آخر، ثم تتابع الناس على فعله، يبدأ بواحد، ثم ما يلبث أن يفشوا وينتشر، وقل مثل ذلك فيمن يُنكر عليه عدم فعل المنكر، وهذا أشد، أو يُنكر عليه فعل المعروف.
وأما في جانب داعي الخير، في خارجه، فيدخل في ذلك ما ذُكر من جهة أضداده، فرؤية الخير حينما ينتشر في الناس هذا يكون داعيًا لفعله، حينما يرى الإنسان الحجاب، المرأة ترى الحجاب ينتشر؛ يدعوها إلى فعله، وهكذا أيضًا حينما يؤمر بذلك، أو يُنهى عن تركه، فكل ذلك يدعوه إلى الامتثال، إلى غير هذا مما يكون داعيًا من جهة خارج النفس، فيحتاج الإنسان إلى صبر مع هذه الدواعي، سواء كانت في نفسه، أو كانت خارجًا عنه، يحتاج إلى صبر، ويحتاج إلى مُصابرة، ويحتاج إلى مجاهدة، وإذا كان عند الإنسان من دواعي الشهوة والغضب ما يحمل على جُملة من الأخلاق الذميمة التي ترجع أصولها إلى دواعي الغضب أو الشهوة، فهو يحتاج إلى مجاهدتها دائمًا، ومن السفه أن يُضرم النار تحتها، أو أن يستسلم لها، فتقوده إلى كل قبيح، وفعل مرذول، فهذا يكون مع الأنفاس في كل نفس، في كل لحظة يحتاج معها إلى صبر ومُصابرة، ومجاهدة ومرابطة، لا بد من هذا.
يعني: تصور إذا أراد الإنسان مثلاً أن يعمل الطاعة، أن يُصلي، أن يتنفل، أن يحج، أن يعتمر، أن يتصدق، تتحرك هذه الدواعي، فيبقى بينها الصراع، وتتحرك الدواعي التي في الداخل، والدواعي التي تكون خارجًا عنه، فداعٍ يدعوه إلى فعل الطاعة، وآخر يُثبطه، يريد أن يتصدق، تتحرك هذه الدواعي، يذهب المال، ينقص المال، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً [البقرة:268]، فهذا نموذج من هذه الدواعي، فكيف بها مجتمعة، لماذا تُضيع مالك؟ أبقه لأولادك، لا تدري ما غِير الدهر، وتقلبه بأهله، لا بد أن يكون لك رصيد تأمن معه، وتؤمن المُستقبل، والمُستقبل عند الله -تبارك وتعالى-، فيحتاج إلى صبر.
ولذلك يقول الله : وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ [البقرة:265]، وقد سبق الكلام عليها في سورة البقرة، وفي الأمثال أيضًا في القرآن وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كما ذكر بعض أهل العلم أن النفس يحصل لها اضطراب عند الصدقة، فيحتاج إلى تثبيت؛ من أجل أن يتغلب عليها، وأن يروضها، وأن يزومها حتى يُخرج هذه الصدقة وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ.
وهكذا في كل الأعمال لاسيما العبادات الشاقة، يريد أن يصوم يومًا يبدأ يحسب، ويُفكر أصوم ما أصوم، غدًا نتغدى سويًا، نذهب إلى المطعم، عندي عمل، ربما أخرج إلى السوق في الشمس، في الحر، النهار طويل، فيبدأ يحسب حسابات، وإذا بدأ الإنسان يحسب حسابات، معنى ذلك أنه يُهيئ للكفة الأخرى، كفة التثبيط، أن تولد مزيدًا من الحُجج، والجنود التي تغزو قلبه فتُقعده، وتُضعفه عما هو بصدده، إذا هممت بالخير؛ فاعزم وتوكل على الله -تبارك وتعالى-، ودع عنك هذه الحسابات.
كذلك أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ هذا أمر، والأصل أن الأمر للوجوب، إلا أن هذه القضايا المذكورة هي قضايا نسبية، بمعنى: أن الصبر يتفاوت، منه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، ومنه ما هو مُباح، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو مُحرم، الصبر على مساخط الله، وعلى معاصيه، وارتكاب القبائح، مع لوم اللائمين مثلاً، هذا صبر مذموم.
كذلك الصبر على ترك المُستحب، أو فعل المكروه، هذا صبر مكروه، الصبر على أعمال الدنيا، ونحو ذلك، وطلبها، هذا صبر قد يكون مُباحًا في بعض أحواله، وأما الصبر على فعل المُستحبات، فهو مُستحب، والصبر على فعل الواجبات، وترك المحرمات هذا واجب.
فقوله: اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ هذا قدر واجب من الصبر، لا بد من تحقيقه، اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ، ولاحظ أن هذه المذكورات جميعًا، هي من أعمال القلوب، وأعمال القلوب منها ما هو واجب، كأعمال الجوارح، ومنها ما هو مُستحب، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو مُحرم، سوء الظن من أعمال القلوب، وهو محرم، الحسد من أعمال القلوب، الشرك، يعتقد أن معبودًا يستحق العبادة سوى الله -تبارك وتعالى-، هذا شرك، وإن لم يعبده، وكذلك أيضًا الإيمان فهو واجب، وبين ذلك أعمال كثيرة منها ما هو واجب، ومنها ما هو مُستحب، المراتب: الصبر والرضا والشكر، في المصائب الصبر واجب، والرضا يقولون: مُستحب، وليس بواجب، وليس مُطلق الرضا، لكن الكلام في المصيبة، يكفي أن يصبر، فإن ارتقى مرتبة؛ صار إلى الرضا، فهذا أكمل وأفضل.
ثم اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ هذه الأربع وصايا أوصى الله -تبارك وتعالى- بها في ختم هذه السورة تكون سببًا للفلاح لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون، وما الفلاح؟ الصبر، والنصر على الأعداء، ما وقع في وقعة أُحد من هزيمة، ونحو ذلك، كل ذلك لقلة صبرهم، فتركوا أمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، والله يقول: بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم [آل عمران:125]، فلاحظ ذكر الصبر وهو سبب وسبيل إلى المدد الإلهي، وكذلك ما يحصل من النعيم الأخروي، الفلاح الأكبر لا يكون إلا بالصبر، والمُصابرة والمُرابطة والمُجاهدة، فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالصبر، ولم يُفلح من أفلح إلا بذلك، ولم يفت أحد الفلاح إلا بالإخلال به كما قال بعض أهل العلم.
كذلك أيضًا حينما خاطب الله هؤلاء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ في أول هذه الآيات من خواتم سورة آل عمران إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب [آل عمران:190]، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، إلى آخره، فجاء هنا بذكر هذه الأوصاف الصبر، وما ذُكر معه.
وكذلك أيضًا في هذه الآية الكريمة ما يكون سببًا لإجابة الدعاء، لما ذكر دعاءهم، وتضرعهم، ونحو ذلك ذكر إجابته لهم، ثم أوصاهم بهذه الأمور، وبيّن أنها سبب، وعلة للفلاح، ومن الفلاح إجابة سؤالهم ودعائهم، وتحقيق آمالهم ومطالبهم.
كذلك أيضًا ما ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: "بأن أمر هذا الجهاد اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ أنه لا يتحقق إلا بهذه الأمور الأربعة، هي قضايا مترابطة، فلا يتم الصبر إلا بمصابرة العدو، يعني: بمقاومته، ومنازلته، فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمر آخر، وهو المُرابطة، وهي لزوم ثغر القلب، وحراسته؛ لئلا يدخل منه العدو، ولزوم ثغر العين والأذن واللسان، والبطن واليد والرجل والفرج، ونحو ذلك فهذه يتسلل منها العدو فيجوس خلال الديار إفسادًا وتخريبًا، فالمرابطة لزوم هذه الثغور، فإذا حصل منه غفلة في لحظة فقد يدخل العدو غِرة ويفتك"[1].
ولذلك قلنا: بأن ذلك لا بد منه في كل لحظة، ومع كل نفس، فلا يستغني الإنسان عن شيء من ذلك، وجماع هذه الأمور الثلاثة: الصبر والمُصابرة والمُرابطة تقوى الله -تبارك وتعالى- اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون، والتقوى لا تحقق إلا بالصبر، لا يكون الإنسان تقيًّا، هو التقي يفعل المأمورات، ويترك المحظورات كحد أدنى، وإذا أراد أن يرتقي؛ يترك المكروهات، ويفعل المستحبات، فهذا يحتاج إلى صبر، ولا يمكن أن يرتقي أحد إلا بالصبر، فنفسه تدعوه كما سبق إلى فعل كثير من المحرمات، وتتثبط وتهبط عن كثير من المطالب العالية، وكل ما أرخى لها فإنها تسترخي، ولذلك انظر مع وفور الراحة في الإجازة بالنسبة للمُجازين من الطُلاب والمعلمين، ونحو ذلك، تجد الكثيرين إلا من رحم الله يتضاعف نومه مع كثرة السهر الذي لا طائل معه، فتضيع ساعات الليل والنهار بين نوم وغفلة، والنوم الكثير من الغفلة، فتستحكم غفلته، فيحتاج إلى معالجة طويلة لقلبه حتى يرجع إليه صفاؤه ونقاؤه، وحتى يستعيد نشاطه في العبادة والطاعة، يحتاج إلى جهد وعمل ومعالجة، لماذا؟
لأنه يسترخي، وكلما ازداد ذلك كان ذلك أدعى إلى مزيد من الترهل والفتور وقسوة القلب، فلا بد من صبر لتحقيق التقوى، ولا بد من مُصابرة ومُرابطة في كل حين، فهذا يشمل كما سبق فعل المأمورات واجتناب المنهيات وَاتَّقُواْ اللّهَ.
ولاحظ الاقتران بين الصبر والتقوى كثير في القرآن، فعليه مناط الفلاح، وبه يُدرك المطلوب بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ [آل عمران:125]، إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ [يوسف:90]، إلى غير ذلك، يحصل به كفاية الرب -تبارك وتعالى- لعباده من كيد الأعداء وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، لا بد من الصبر والتقوى، فكل موضع قُرن فيه التقوى بالصبر اشتمل على الأمور الثلاثة، فحقيقة التقوى هي فعل المأمور واجتناب المحظور.
ولاحظ التعبير أيضًا بصيغة المُصابرة: وَصَابِرُواْ، والعادة أن مثل هذا الوزن مفاعلة يكون بين طرفين اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ، وبعض أهل العلم يقول: "إنه عُبر بذلك لشدة الصبر لاسيما إذا كان الإنسان في موضع يحتاج إلى مزيد من الصبر، والمجاهدة"، يحتاج إلى أن يصبر ويُصابر أكثر من غيره، فالذي يعمل في مكان يرى فيه النساء مُتبرجات، ونحو ذلك، مكانًا فيه كثرة فتن، أو في زمان تكثُر فيه الفتن، هذا يحتاج إلى مزيد من الصبر أكثر من غيره، مع أن كل أحد يحتاج إلى الصبر، لكن ليس هذا كالذي يعمل في الصحراء منقطعًا عن الناس، الذي يعمل في مكان فيه إغراء بالمال لربما تُعرض عليه الأموال الرُشى، ونحو ذلك، ولكنه يمتنع خوفًا من الله -تبارك وتعالى-، ويكتفي بمرتب قد يكون قليلاً، خمسة آلاف، أو ستة آلاف، وهو يستطيع أن يُحصل الملايين لكنه يحتاج إلى صبر ومُصابرة.
وبعض أهل العلم يقولون: عُبر بذلك، يعني: المُصابرة، باعتبار أن المُصابرة هنا تعني الصبر فيما يكون مع نفسه في فعل الطاعات، وترك المعاصي، والمُصابرة فيما يكون مع غيره من أذى يصل إليه، وأعداء يوصلون إليه ألوان المكروه، وهكذا.
فلاحظ هذه الآيات التي خُتم بها بهذه الوصايا كما خُتمت سورة البقرة أيضًا بتلك الأوصاف: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير [البقرة:285]، والدعاء أيضًا: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وقول الله : قال: قد فعلت[2]، فهكذا خُتمت هذه الآيات بهذه الوصايا، وعادة ما يُختم به يكون هو الأرسخ في الأذهان، والأبقى، والأعلق في القلوب، آخر ما يُذكر، ولذلك يُقال إن موسى أمر السحرة أن يبدؤوا بإلقاء الحبال والعِصي؛ ليكون ما يُشاهده الناس في ذلك اليوم الذي اجتمعوا فيه هو ما يعلق في قلوبهم، يعني: آخر ما يُشاهد، فيمسح المشهد الأول في نفوسهم، وهكذا.
فعلى كل حال هذه السورة أيضًا اشتملت على كثير من الأحكام والأوامر والنواهي والعقائد، ونحو ذلك، وذُكر فيها في السياق الطويل قصة أُحد، فهنا جاءت هذه الوصايا اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ، يعني: حتى تُحققوا ذلك، وتصلوا إلى المستوى المطلوب، الذي يؤهلكم للنصر والظفر والرفعة في الدنيا مع نيل رضا الله -تبارك وتعالى-، والجنة، فإن سلعة الله غالية، ولا تُنال بالاسترخاء.
وكما قيل: "من رافق الراحة فارق الراحة"، فهذا الذي في وقت الزرع الناس يزرعون ويدأبون، وهو مُسترخ ونائم إذا جاء وقت الحصاد فإنه لا يجني شيئًا ويتحسر، وأما هؤلاء فيجنون الثمار الحلوة، وينسون ذلك التعب في الزرع والسقي والحرث، ونحو ذلك.
هكذا الآخرة، هذه الدنيا دار هي مزُدرع للآخرة، فهذا التعب والبذل والجهد، والعمل المتواصل يجد الإنسان ثمرته عند الله -تبارك وتعالى-.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم من المُفلحين، ويرزقنا وإياكم الصبر والمُصابرة والمُرابطة والمُجاهدة، إنه سميع مجيب، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: الجواب الكافي، (97).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة:284]، برقم (126).