الجمعة 25 / جمادى الآخرة / 1446 - 27 / ديسمبر 2024
[34] قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ..} إلى قوله تعالى: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}
تاريخ النشر: ٠٦ / رمضان / ١٤٣٦
التحميل: 1674
مرات الإستماع: 1466

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

لا زال الحديث -أيها الأحبة- عن قوله -تبارك وتعالى- في خطاب بني إسرائيل؛ وذلك أنه قال: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورةالبقرة:45] ثم بعد ذلك بيّن صفة هؤلاء الخاشعين، فقال: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورةالبقرة:46] وعرفنا أن الظن هنا بمعنى اليقين.

يُؤخذ من هذه الآية أعني قوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورةالبقرة:46] أن هذا اليقين وبقدر ما يتحقق منه في قلب العبد، يحصل له من خِفة العبادة، ولا سيما هذه الصلاة؛ ولذلك فإن اليوم الآخر كثيرًا ما يذكره الله -تبارك وتعالى- أعني الإيمان به، مع الإيمان بالله وكثيرًا ما يأتي التعليل في إعراض من أعرض، وكفر من كفر، وظلم من ظلم، بأنهم لا يرجون لقاء الله، أو لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، فالإيمان باليوم الآخر هو المُحرك الذي يدفع الإنسان إلى العمل بمرضاة الله -تبارك وتعالى- والامتثال امتثال الطاعة، وترك المعصية.

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورةالبقرة:46] فهذا هو الذي يُخفف عنهم ثِقل العبادات والتكاليف الشرعية، وهو الذي أوجب لهم التسلي حال المصائب؛ لأنه يعلم أنه سيُلاقي ربه -تبارك وتعالى- ويجزيه بحسب ما كان عليه من الأعمال، فإن صبر فله الجزاء الأوفى، وإن هو جزع فقد ضيع حقه من الأجر، وحصل هل الوزر، ولم يعد له ما فات، مما ذهبت نفسه عليه حسرات، فإذا علم العبد أنه سيُلاقي ربه -تبارك وتعالى- وأنه إليه راجع، إذًا هذه الحياة قصيرة، هي لا تستحق أن يعيش الإنسان من أجلها، وأن يحزن من أجلها، وأن تذهب نفسه حسرات عليها، وعلى ما فاته من حُطامها، فهي أقل شأنًا من ذلك، فالكل سيرجع إلى الله.

فهذا الذي مات يحزن الإنسان لموته، ولكن ذلك لا يُفضي به بحال من الأحوال إلى الجزع والتسخط، وهذا المال الذي فات، وهذه الصفقة إذا علم العبد أنه سيرجع إلى الله، فهذا المال الذي قد ذهب لن يكون بعده البقاء لصاحبه، الكل سيذهب، فأين الأولون؟ وأين أموالهم؟ وأين مراكبهم؟ وأين دورهم؟ وأين ذواتهم وأجسامهم؟

كل ذلك قد تلاشى، يفرح أولئك الذين يتتبعون الآثار، وهو أمر ليس بمحمود، فحينما يجدون شيئًا يُضيفونه إلى أولئك الذين قد تصرموا وصاروا خبرًا بعد عين، حينما يجدون قطعة من فخار، أو من شيء من صنائعهم، أو أثاثهم، أو أوانيهم، أو غير ذلك، ولربما لا يقدرون بذلك بثمن، هذا الشيء صار نادرًا، مع أنه قد لا يكون صالحًا للاستعمال، فأين تلك الدور التي كانت قائمة والمدن والقرى والزروع والأنعام والذهب والفضة؟ أين حُليهم الذي كانوا يلبسونه وتلبسه بناتهم؟ أين ذهب ذلك جميعًا؟ أين الأسواق التي كانت عامرة بكل لون من حاجتهم من المطعوم والمشروب والملبوس؟ أين الذين عمروا تلك الديار؟ وأين ذلك العِمران؟ كله قد ذهب، ونحن بالتبع، سيكون ذلك لا محالة، فلن يبقى أحد، لن يبقى لك هذا اللباس، ولا المركب، ولا الأثاث، ولن يبقى إلا ما يُراد به وجه الله -تبارك وتعالى- فالمؤمن يتعزى بهذا الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورةالبقرة:46].

لذلك إذا أُصيب الإنسان بالمصيبة ماذا يقول؟ إنا لله وإنا إليه راجعون، كما قال الله : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ من هم؟ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورةالبقرة:156] فهو يصنع بنا كما شاء، ونحن جميعًا سنرجع إليه، ونوافي، فيُجازينا على الأعمال؛ ولذلك انظروا إلى عروة بن الزبير -رضي الله عنه ورحمه- وهو من أئمة التابعين؛ لما فقد ولده؛ وذلك أنه دخل وهو صغير اسطبل الخيل للوليد بن عبد الملك في الشام، فذهب أبوه يزور الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي المعروف، فدخل الغلام في الاسطبل فأصابه فرس، فكانت نفسه فيها، فأتوا يعزونه، ووقعت الأكلة برجله، فقُطعت بالمنشار من غير تخدير، ولا مستشفى، ولا تعقيم، وإنما هو القطع بالمنشار، ثم بعد ذلك الغمس بزيت مغلي ليرقأ الدم، فأصيب في هذه الزيارة بولده وبقدمه، فماذا قال؟ قال: "الحمد لله، وهبتني سبعة من الولد، وأخذت واحدًا، وبقي ستة، فإن كنت قد أخذت فقد أبقيت، ووهبتني أربعة من الأعضاء، وأخذت واحدًا، وبقي ثلاثة، فإن كنت قد وهبت، فقد أبقيت"[1] فهذه يحتسبها الإنسان عند الله، أخذ رجله ونظفها وطيبها ولفها، ثم بعد ذلك أمر بدفنها، هذا حال، لكن انظر إلى حال أهل الجزع الذين لا يوقنون هذا، حتى لو كان كما يقول ابن الجوزي -رحمه الله- يتزيا بزي العلم، أو الدين.

وذكر الحافظ ابن الجوزي -رحمه الله- نماذج من هذا، ونقل جملة منها شارح كتاب التوحيد: تيسير العزيز الحميد، وكذلك أيضًا صاحب الآداب الشرعية، وكذلك ذكر قبله ابن عقيل الفقيه الحنبلي في كتابه الفنون، جملة من أخبار هؤلاء المعترضين على أقدار الله الذين ينهارون وينكسرون، رأى أحدهم دابة مريضة هزيلة، فقال كلامًا لا أستطيع أن أحكيه، كلامًا قبيحًا في حق الله ووقع على أحدهم شيء من الجرب، فقال مُعترضًا كلامًا لا يصح أن يُنقل ويُحكى، وكان مما قال: لو كان هذا على بهيمة لكان -نسأل الله العافية- لكان ظالمًا، يعني: ربه -تبارك وتعالى- وآخر عاش في مسغبة.

وكان يتعاطى الفقه، ثم صار في آخر عمره يتعاهده أحد الكُبراء والأغنياء بألوان الطعام، فنظر إليه، وقال: ساقه لي على كِبر حيث لا أستطيع أن أذكره في حق الله يعترض على أقدار الله، يعني: يقول هذا التدبير جاءني في حال لا أستطيع أن أستصيغ هذا الطعام لضعفي وكِبر سني، وقد انقضى العمر ولم يحصل شيء من ذلك، وإنما جاء في غير حينه، وهكذا.

ويمرض أحدهم فيتكلم بكلام قبيح مفاده: ما هذا التدبير؟ فكان هؤلاء يتعرضون على الله يظن الواحد منهم أنه أوتي من العلم أو الذكاء أو الدين والصلاح، ثم يرى آخرين مُنعمين، فيرى أن ذلك من سوء التدبير، وما عملوا أن الله عليم حكيم، وأنه يبتلي المؤمن ليرفعه، وأن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فلم يدركوا هذه المعاني، وما عرفوا الله معرفة صحيحة، لكن المؤمن الذي يعلم ويستيقن أنه لله الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [سورةالبقرة:156، 157] فهؤلاء هم الذين عرفوا ربهم -تبارك وتعالى- معرفة صحيحة، فإذا عرف العبد أنه يرجع إلى الله -تبارك وتعالى- فهذا يهون عليه المصائب، ويحمله على فعل المأمورات، ويزجره عن المحرمات؛ لأنه يعلم أنه سيصير إلى الله ويُحاسب على القليل والكثير وأنه لن يمضي شيء هكذا، الحساب بمثاقيل الذر فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [سورةالزلزلة:7، 8].

إذًا: هو سيلقى الله وسيُحاسبه، فيكون سلوكه وسيره على الصراط مُستقيمًا، وأما من لم يؤمن بلقاء الله وأنه يرجع إليه، فإن هذه العبادات لا سيما الصلاة تكون شاقة، فبحسب ما يكون عند العبد من اليقين تخف عليه يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها[2] وبحسب ما عنده من الضعف يتململ في الصلاة، ويستثقلها، ويتبرم بها، وإذا أطال الإمام قليلاً ضاق ذرعًا بذلك، فهذه لضعف يقيننا، وذكر هذا المعنى جمع من أهل العلم، كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي[3] وغيره.

ثم هذا الذي يوقن أنه سيرجع إلى الله -تبارك وتعالى- سيخشاه في السر والعلن، تستوي عنده السر والعلانية، وأيضًا سيُراقب ربه -تبارك وتعالى- ثم إنه سيتسحي منه الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورةالبقرة:46] إذا كان سيُلاقي ربه ويرجع إليه فيرجع إليه بحال تُجمله، الإنسان إذا كان يتكلم بكلام لا يليق في حق أحد من الناس من الكبراء، أو غيرهم، ثم بعد ذلك قُدر له أن يلاقاه، فإنه يستحي مما قال، مما صدر وبدر منه، فكيف بالعظيم الأعظم إذا كان المؤمن يوقن بأنه سيلقاه، بل من أدرك هذه الصلاة وما فيها من مُناجاة الله فلا شك أنه سيستحي، كيف يعصي ربه -تبارك وتعالى- ثم يصف قدميه ويقف يُصلي يُناجي ربه؟ ويكون ذلك زاجرًا له من مُقارفة ما لا يليق، إلا إذا كان يُصلي صلاة لا يعقل فيها، فهذا اللقاء المُتجدد والمُناجاة المُتجددة في اليوم والليلة خمس مرات، فهذا لا شك أنه يزجر لمن استشعار وقوفه بين يدي الله .

قوله -تبارك وتعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورةالبقرة:47] يُخاطبهم كما مضى في الآية قبلها في قوله -تبارك وتعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [سورةالبقرة:40] فهنا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورةالبقرة:47] خاطبهم كما ذكرنا من قبل بهذا الخطاب الذي أضافهم فيه إلى أبيهم يعقوب وهو إسرائيل، يقولون: إن إسرائيل بمعنى عبد الله، يا بني الرجل الصالح، والنبي التقي إسرائيل، يعقوب : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، فحينما يُضيفهم إلى أبيه، وهو من هو بالإيمان والتقوى، فذلك يكون باعثًا لهم على الاستجابة والانقياد والقبول؛ ولذلك قال بنو إسرائيل لمريم لما جاءت بعيسى قالوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [سورةمريم:28].

فتذكير الإنسان بآبائه من الصالحين يكون له وقع وأثر في الاستجابة أو الانقياد، أو نحو ذلك مما يُراد أن يُذكر به يَا أُخْتَ هَارُونَ وهارون بعضهم يقول: المقصود به هارون بن عمران وحملوا المعنى بهذا الاعتبار مع البُعد الزمني بينهما يعني يا شبيهة هارون في الصلاح والتقى، ولكن الذي ينبغي أن تُفسر به الآية ولا يُعدل عنه هو ما فسرها به النبي ﷺ حينما وجهوا هذا السؤال إلى المغيرة بن شعبة حينما بعثه النبي ﷺ إلى نجران، وفيها النصارى، فسألوه عن هذا كيف قال: يَا أُخْتَ هَارُونَ مع أن هارون بينه وبين مريم زمنًا طويلاً، فأخبره النبي ﷺ بالجواب، فحينما رجع إليه، وسأله عن ما سألوه عنه بأنهم كانوا يسمون على أنبيائهم، يعني: هارون هذا غير هارون النبي، الذي هو أخو موسى فهم يقولون: يَا أُخْتَ هَارُونَ.

والذي يظهر من السياق -والله أعلم- أن هارون هذا كان من الصالحين؛ ولهذا أضافوها إليه يَا أُخْتَ هَارُونَ وذكروا أباها وأمها مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [سورةمريم:28] من أين جئتِ بهذا الولد؟! فآباؤك: أبوكِ وأمكِ كانوا من أهل الصلاح والتقى! فهنا يقول لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [سورةالبقرة:40] فيُذكرهم بهذه النعم، كما ذكرنا سابقًا، فإن التذكير بالنِعم يقود إلى الشكر، فإذا استحضر العبد النِعمة، فإن ذلك يحمله على شكر المُنعم المُتفضل بها يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وكما قال الله -تبارك وتعالى- في القرآن مخاطبًا هذه الأمة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [سورةالأحزاب:9] إلى غير ذلك مما امتن الله -تبارك وتعالى- به على عباده المؤمنين.

فهنا يقول لهم: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ والنعمة هنا مُفرد مُضاف إلى المعرفة، وهي الضمير (ياء المُتكلم) وقلنا: بأن هذه الإضافة تفيد العموم، يعني: اذكروا نِعمي التي أنعمت عليكم.

وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورةالبقرة:47] وهذا التفضيل هو من جملة هذه النِعم، فهو داخل في هذا العموم الذي قبله، اذكروا نِعمي، ومن هذه النِعم أنهم فضلهم على العالمين، ولكنه خصّ ذلك لما فيه من المزية والنِعمة الجلية العظيمة التي خصصها بالذكر من أجل أن يستحضروها، فهي من أجل النِعم أن يُفضلوا على العالمين، والمقصود بالعالمين، كما عليه إطباق المفسرين، هو أنهم فضلوا على عالم زمانهم، وإلا فلا شك أن هذه الأمة أفضل من بني إسرائيل، فالله يقول: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ يعني: الكتاب الذي كان ينزل على بني إسرائيل الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورةفاطر:32] وهم هذه الأمة، فاصطفاهم الله -تبارك وتعالى- فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [سورةفاطر:32] بطوائفهم الثلاث: من السابقين، والمقتصدين، والظالمين لأنفسهم، فكل هؤلاء من أمة الاصطفاء والاجتباء، والنبي ﷺ قال: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة[4] والله يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورةالبقرة:143] إلى غير ذلك من أدلة تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم.

وكذلك أيضًا في مقامات تجلّى فضل هذه الأمة فيها، لما ابتلى الله بني إسرائيل بتحريم الصيد في يوم السبت، وقد كانوا حرموا ذلك على أنفسهم العمل في يوم السبت، ومنه الصيد، فهي مهنة، فالله -تبارك وتعالى- ابتلاهم، فصاروا في حال من الابتلاء لم يطيقوا معها الثبات والصبر إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا [سورةالأعراف:163] تأتي قريبة في الساحل، وتستعرض أمامهم وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا ينقطعون عن أعمالهم، فإن السبت بمعنى القطع، وهو أحد معانيه لا تَأْتِيهِمْ يعني: في الأيام الأخرى لا تأتي، يبحثون عنها في عمق البحر، ولا يجدونها، فأخذهم القرم، وهو شدة التوقان للحم، فوضعوا شباكهم في يوم الجمعة، وأخذوها يوم الأحد، وبقوا يوم السبت يتفرجون لا يعملون شيئًا، فكانت هذه حيلة عاقبهم الله فيها بالمسخ إلى قِردة.

وأما هذه الأمة، فكما قال الله -تبارك وتعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورةالمائدة:94] فكانوا يأتون على الصيود وهي قريبة المنال، مما تناله الأيدي والرماح، كما أتى النبي ﷺ في سفره في حجة الوداع -عليه الصلاة والسلام- فأتى على ظبي حاقف، والظبي الحاقف: هو الذي قد انحنى عنقه على جنبه إذا نام، وفي طريقهم يمرون عليه لا يتحرك، فقال النبي ﷺ: لا يريبه أحد[5] يعني: لا أحد يستفز هذا الظبي، أو يشد عليه، أو نحو ذلك، فكانوا يأتون وهم عدد كبير، عشرات الألوف، والذين وافوا النبي ﷺ في مكة -كما هو معلوم- بلغوا مائة ألف من الصحابة  فكانوا يمرون فما يريبه أحد، مع أن النفوس إذا رأت الصيد تُستفز، فكانوا أفضل من بني إسرائيل، وأثبت، وأصبر إلى غير ذلك من الأدلة التي تدل على فضل هذه الأمة وثباتها ورفعتها، والنبي ﷺ قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة[6].

وفي قوله: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورةالبقرة:47] يعني: على عالم زمانكم.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- مخاطبًا لهم: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [سورةالبقرة:48] خافوا يومًا أي اجعلوا بينكم وبين هذا اليوم وقاية، اليوم لا يُتقى، وإنما يُتقى ما فيه من الأهوال والأوجال، ويكون ذلك بالأعمال، فهناك لا ينفع أن الإنسان يأتي وقد لبس درعًا أو تُرسًا، وأنى له ذلك؟! هناك لا يُتقى إلا بالأعمال الصالحة، وترك مساخط الله -تبارك وتعالى- وَاتَّقُوا يَوْمًا اليوم ظرف، والمعنى: واتقوا أوجال يومٍ لا تَجْزِي نَفْسٌ أي: لا يُغني أحد عن أحد، ولا تُقبل فيه الشفاعة للكافرين، ولا تُقبل الفدية، ولو افتدى بأموال الأرض جميعًا، ولا يملك أحد في هذا اليوم أن يُنقذه، وأن ينصره، لاحظ قطع عليهم جميع سُبل الخلاص.

وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا [سورةالبقرة:48] نفس: نكرة في سياق النفي، أي نفس كبير أو صغير، لا أحد يجزي عن غيره نَفْسٌ ونفس هنا نكرة أيضًا، أي نفس شَيْئًا نكرة في سياق النفي، أي: شيء لا قليل ولا كثير، لا صغير ولا كبير، لا أحد يجزي عن أحد شيئًا لا يُغني عنه.

وقد يقال: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا لكنها تُقبل الشفاعة والواسطة، فيُشفع له ويُترك، لا؛ ولهذا قال: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ لا توجد شفاعات لهؤلاء الكفار، وأما لغير الكفار فهي موجودة، ولكن بشرطها، وهو أن يأذن الله للشافع وللمشفوع له، وهذا لكمال غِناه، ولكمال مُلكه، فإن الكبير من أهل الأرض ربما يقبل الشفاعة من الآخرين، إما لأنه لا يقوم ملكه إلا بهم، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله[7] أو لأنه يتخوف غوائلهم، إما أنه يرجو نفعهم، أو ليدفع ضررهم، يتخوف أنهم ينقمون عليه إذا ما قبل الشفاعة، فيقبل الشفاعة استدفاعًا لشره، يخشى إن رد شفاعته يحصل عنده نقمة عليه، أو يكون هو محتاج إليه، فيقبل شفاعته؛ ليُحصل من وراء ذلك أمورًا أخرى يطلبها منه، فهي مسألة مقايضة.

أما الله فلكمال غِناه فلا يحتاج إلى أحد، فلا أحد يتقدم بالشفاعة عنده إلا بإذنه، فهنا لا تُقبل هذه الشفاعة وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فهذه طرق الخلاص: واسطة يُؤخذ منها عدل، يعني الفداء، يُقال: خلاص يُطلق كم؟ مليون، عشرة ملايين، مائة مليون، مليار، خذ فلان مكانه، لا يمكن، لو كان له ما في الأرض جميعًا يريد أن يفتدي به من عذاب يوم القيامة لا يُقبل، كنوز الدنيا كلها التي عند الناس من الأولين والآخرين يريد أن يقدمها ليتخلص ويُطلق سراحه ويُترك هذا لا يوجد، طيب ما الذي بقي؟ بقي التخليص بالقوة، أن يُفك أسره بالقوة وَلا هُمْ يُنصَرُونَ لا يمكن أن يأتي أحد فيُخلص هذا.

فإذا كان الإنسان يرى أقرب الناس إليه: أباه وأمه وأولاده، الأم تقول: أُلقي نفسي ولطالما سمعنا هذه العبارة من النساء حينما تُعذب وتُظلم من قِبل زوج لا يرقب الله فيها، وتعيش في قهر وحال بائسة، فيقال لها: طيب تطلقي منه، تقول: الأولاد، أُلقي نفسي بالنار في سبيل هؤلاء الأولاد، أصبر وأتحمل هذا الظلم والضرب والعسف والقهر، ومصادرة جميع الحقوق، والسب والشتم لها ولأهلها صباح مساء، وتقول: أُلقي نفسي في النار من أجل الأولاد، فهذه الكلمة طالما سمعناها من النساء، طيب في الآخرة تُلقي نفسها في النار؟ أبدًا يُبَصَّرُونَهُمْ أي: يعرفهم، هذا قريبه، وهذه أمه يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [سورةالمعارج:11] تصور هؤلاء الأولاد الذي يُلقي نفسه في النار من أجلهم يتمنى لو يُقبل منه أنهم يؤخذون جميعًا إلى الجحيم في سبيل أنه يتخلص؛ لأنه يرى ما لا قِبل له به، هناك الوشائج والعلائق تنتهي، ويبقى العمل هو الذي يُخلِّص الإنسان، فتقطع جميع طرق الخلاص، فما الذي يبقى؟ الإيمان، والعمل الصالح.

وتنكير اليوم في قوله: وَاتَّقُوا يَوْمًا يدل على التعظيم والتهويل، فهو يوم هائل وعظيم، لا يمكن أن يُقادر ما فيه من الشدائد، يكفي أن الله -تبارك وتعالى- قال عن هذا اليوم: يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [سورةالمزمل:17] الولدان حديث الولادة رأسه أبيض من شدة الأهوال.

والحامل يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [سورةالحج:2]، وتكلمنا على هذا المعنى في بعض المناسبات، وقلنا: إن الأوصاف المختصة بالإناث مثل: الحمل والإرضاع، والولادة يقال: مُرضع ومُرضعة، فإذا دخلت عليها التاء (مُرضعة) فهي تعني المُباشرة، وإذا جُردت من التاء، فهي تعني مُطلق الوصف، يعني: لو قال: يوم ترونها تذهل كل مرضع عن ما أرضعت، هي مُرضع من شأنها أن تُرضع، لكن الولد في البيت، وهي في زيارة، أو في المسجد، أو غير ذلك، عندها ولد تُرضعه، لكن حينما يقول: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [سورةالحج:2] فلما دخلت عليها التاء دل على المُباشرة، أنها ألقمت الولد الثدي، وهذه حالة لا يمكن أن يُوضع حال تصف الشفقة أبلغ منها، منتهى الشفقة هي شفقة الأم، وفي حال الإرضاع، فتصور إذا قامت القيامة تذهل عن هذا الولد الذي تُرضعه، خلاص ينتهي، يسقط من يديها، وتذهل عنه، ولا تراه ولا يكون في خلدها؛ لشدة الهول، كل مرضعة، وليست الخوافة مثلاً، لا، كل مرضعة عن ما أرضعت من الآدميين والبهائم، فهذا في يدها تركته.

وإذا كان في بطنها وَتَضَعُ كُلُّ [سورةالحج:2] وليست الضعيفة، أو ذات الحمل الهش، أو الذي يحتاج إلى مُثبتات، لا، وإنما كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ [سورةالحج:2] تنزل ما في بطنها من الأميين والبهائم، فشيء هائل، تضع كل ذات حمل حملها، وأيضًا فمن كانت لا حامل ولا مُرضع وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى [سورةالحج:2] السكران كيف يمشي؟ يخبط يضرب بالجدار والباب، ولا يدري أين يذهب؟ ولا يدري أين يتجه؟ يمشي بلا وعي وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [سورةالحج:2] هذا يوم القيامة.

فهنا نكر هذا اليوم وَاتَّقُوا يَوْمًا يوم شديد هائل لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وتنكير النفس يُفيد العموم، ففيه إقناط كلي، لا يقول: والله هذا عنده حسنات كثيرة، وهذا من أهل الإيمان القوي الراسخ، سينفعنا يوم القيامة، إذا كان هؤلاء على غير الإيمان لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا الشفاعة ثابتة بين المؤمنين، ولكن هذا الذي لا يؤمن لا يستطيع أحد أن يُخلصه، ولا يجرؤ أحد أن يشفع له وَلا هُمْ يُنصَرُونَ جاء بها جملة اسمية، وهناك وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي فعل وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ فعل وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ يعني: فدية، ثم جاء بجملة اسمية وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [سورةالبقرة:48] وهذا يدل على المُبالغة، ويدل على الثبات والديمومة، وأن النصر لا يكون في لحظة من اللحظات، ولا يحتاج أن يتحين لعله تحصل له فرصة، فيُنصر، لا لا، هذا قد قُطع عليه الطريق، نسأل الله العافية وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [سورةالبقرة:48].

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ربنا اغفر لنا ولوالدين ولإخواننا المسلمين.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

  1.  المعرفة والتاريخ (1/ 553). 
  2.  أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة برقم: (4985) وصححه الألباني. 
  3.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 51). 
  4.  أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة برقم: (876) ومسلم في الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة برقم: (855). 
  5.  أخرجه مالك في الموطأ، رواية أبي مصعب الزهري برقم: (1139) وابن حبان برقم: (5111) والبيهقي في السنن الكبرى برقم: (11958). 
  6.  أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب كيف الحشر برقم: (6528) ومسلم في الإيمان، باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة برقم: (221). 
  7.  قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 13).

مواد ذات صلة