بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نواصل الحديث -أيها الأحبة- في الكلام على هذه الآيات التي خاطب الله -تبارك وتعالى- بها بني إسرائيل في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) فيقول مذكرًا لهم بآلائه ونِعمه، مذكرًا بني إسرائيل بالنِعم: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فـ(إذ) هذه تكون مسبوقة بـ(اذكر) مقدرًا، على قول كثير من المحققين من أهل اللغة والتفسير، يعني: وإذ نجيناكم واذكروا إذ نجيناكم وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ [سورةالأحزاب:37] واذكر إذ تقول للذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه.
وهنا وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ أي: اذكروا نعمتنا عليكم، حين أنقذناكم وخلصناكم من بطش فرعون، وأتباعه، وهم يذيقونكم أشد العذاب، فيكثرون من ذبح أبناءكم، وترك بناتكم للخدمة والامتهان، وفي ذلكم اختبار من ربكم، وفي إنجاءكم منه أيضًا نعمة عظيمة، فهذا الابتلاء الذي وقع عليكم من القتل والذبح للأولاد، يسومونكم سوء العذاب، فالابتلاء يكون بالخير، ويكون بالشر، بالمحبوب وبالمكروه وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [سورةالأنبياء:35] فالله -تبارك وتعالى- ابتلاهم بهذا وهذا، فإنجاؤهم كان من البلاء العظيم، فالإنعام يُقال له ذلك، فهنا يُذكّرهم بأن هذه النعمة تستوجب الشكر لله وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وكما ذكرنا من قبل بأن الإنجاء حصل لأجدادهم، والخطاب جاء موجهًا إلى الذين عاصروا النبي ﷺ وقلنا: بأن علة ذلك: أن النِعمة الواصلة للآباء تلحق الأبناء، فالله يمتن على هؤلاء المعاصرين للنبي ﷺ بنعمة حصلت لآبائهم، فهي واصلة للأبناء، فصح الامتنان على هؤلاء، يعني: لا يحق لأحد منهم أن يقول: لم يحصل لنا هذا، هذا حصل لأجدادنا، فهم تبع لهم في ذلك.
وفي قوله: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أضاف التنجية والإنجاء إليه فالنجاة لا تتحقق إلا من قِبله سبحانه، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يُنجي عباده من الكروب والشدائد قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [سورةالأنعام:64] فهنا إذا وقع العبد بالشدة، فينبغي أن يتذكر أن طريق النجاة بالالتجاء إلى الله -تبارك وتعالى- وسوالف ذلك هو بالاستقامة على طاعته، والإيمان به، كما قال النبي ﷺ: احفظ الله يحفظك[1] احفظ الله في حدوده يحفظك احفظ الله تجده تُجاهك[2] وقال: تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة[3] وانظروا إلى حال أولئك الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة، فقد توسلوا بصالح أعمالهم.
وهنا يقول الله : وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ففسّر سوء العذاب بتذبيح الأبناء، واستحياء البنات، فجاء بالفعل المضارع، وجاء به بهذه الصيغة يُذبِّحُونَ التي تدل على كثرة الذبح يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ولم يقل: ذبحوا أبناءكم، وإنما قال: يُذبِّحُونَ كأنه يعرض عليهم هذا المشهد الذي مضى وانقضى وكأنهم يشاهدونه الآن، السكين في رقبة الطفل، حديث الولادة، وهذه أعظم في استحضار المِنة والنِعمة يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ حينما يُعبر عن أمر مضى بالفعل المضارع، ويأتي بهذه الصيغة الدالة على التكثير يُذَبِّحُونَ فكأنك تُشاهد تذبيح هؤلاء الأطفال، وهذا يدل على جبروت فرعون، وتذبيح هؤلاء الصغار بعض أهل العلم يقول: إن سببه أن فرعون قيل له: -إما برؤيا عُبرت، أو بكِهانة تُكهنت- بأنه سيخرج من هؤلاء الإسرائيليين، وكان الإسرائيليون قد جاءوا إلى مصر؛ وهم أولاد يعقوب فحينما صار يوسف عزيزًا في أرض مصر، قال: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ [سورةيوسف: 93] فجاء يعقوب مع زوجته وأولاده جميعًا.
وكما ذكر الله -تبارك وتعالى- في تعبير الرؤيا: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا [سورةيوسف:4] هؤلاء إخوته وهو الثاني عشر وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورةيوسف:4] الأب والأم، فتحقق ذلك، وخروا لها سُجدًا، فبقوا في مصر، وتناسلوا، فكان الأسباط وهم قبائل بني إسرائيل من ذرية يعقوب، تناسلوا من أولاده هؤلاء، وكثروا، والمؤرخون يذكرون المدة التي كانت بين مجيء يعقوب مع بنيه إلى مصر، وحينما خرجوا مع موسى وكم عدد هؤلاء، لكنها أخبار إسرائيلية، لا يعول عليها، بعضهم يذكرون أنهم بلغوا ثمانين ألفًا، وبعضهم يذكرون أنهم بلغوا أكثر من مائتي ألف.
فالمقصود: أن تذبيح هؤلاء الأولاد قيل بأن ذلك حينما استقر عند فرعون أنه يخرج من هؤلاء الإسرائيليين غُلام يكون هلاك فرعون على يده، فصار يُذبح هؤلاء الأولاد، وهارون ما ذُبح، قالوا: بأنه كان يذبح سنة، ويترك سنة، لماذا؟ قال: حتى لا يُفنيهم، فيُبقي بعضهم للخدمة، حتى لا ينقرضوا، والله -تبارك وتعالى- أخبرنا عما أوحى إلى أم موسى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [سورةالقصص:7] فهذا قاله بعض أهل العلم في التعليل.
وبعضهم يقولون: بأن التذبيح كان بسبب أنه أراد أن يُضعف بني إسرائيل، بحيث يبقون تحت السيطرة، ويشتغلون في الخدمة، دون أن يُفنيهم، يعني بصرف النظر عما قيل من أنه حصل كِهانة أو رؤيا، أو غير ذلك، وإنما أراد إضعافهم، فصار يذبح سنة، ويترك سنة؛ ليبقون أقلية تكفي للغرض الذي أراده فرعون، وهو أن يكون هؤلاء في خدمة الفراعنة يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [سورةالبقرة:49] هذا ذكره في جملة البلاء العظيم، قد يقول قائل: إبقاء البنت حية هذه نِعمة، فلم تُذبح، يذبحون فقط الأبناء، فما وجه كون ذلك من البلاء؟
الجواب عن هذا: أن إبقاء البنت حية في يد عدوها يستذلها، ويُهينها، ويُسخرها في الأعمال المُذلة والمهينة والشاقة، فهذا من أعظم البلاء، فحينما يستحضر الإنسان أن بنته تُستذل، وتكون سُخرة لهؤلاء الفراعنة في الأعمال التي يترفعون ويتنزهون عنها، فهذا شاق، الموت أسهل عليه من كونها تبقى في يد هؤلاء الأعداء، لكن لاحظوا هنا في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) لما ذكر ما يفعلون بهم يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [سورةالبقرة:49] مُباشرة قال: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ [سورةالبقرة:49] ما جاء بحرف العطف، فلم قال: ويذبحون أبناءكم، وإنما قال: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ فكان تفسيرًا لسوء العذاب الذي كانوا يسمونهم به، فحُذفت الواو، لكن في سورة إبراهيم يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [سورةإبراهيم:6] وهناك قال: ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ما الفرق بين المقامين؟
هنا تذكير بجنس النعمة اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [سورةالبقرة:40] فالنِعمة جنس مُضاف إلى معرفة، تذكير لهم بجنس النعمة، فجعل ذلك تفسيرًا لهذا يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وليس مقام تفصيل في النِعم وتعداد، فهناك في سورة إبراهيم قال: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [سورةإبراهيم:5] فهو مقام تفصيل للنِعم، تعداد للنعِم، فجاء بها مُفصلة ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ فهذه نعمة مستقلة، وهكذا وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ فهذا فرق بين المقامين.
وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ولاحظ التفخيم في التنكير (بلاء) و(عظيم) بلاء نكرة، ثم وصفه بأنه عظيم، فهذا يدل على التهويل.
وآل الرجل يُطلق بإطلاقات مُتعددة، فمن هذه المعاني: أن يُقال ذلك يدخل فيه الرجل الذي أُضيف إليه، آل فرعون، ويدخل فيه أتباعه، فحينما يقول: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [سورةالبقرة:49] فيدخل فيه فرعون، وأتباع فرعون، وهكذا في قوله: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ [سورةالبقرة:50] فأول من غرق هو فرعون، فهو المقصود أساسًا، فيكون داخلاً في ذلك، وحينما نقول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، هنا ذكر محمدًا ﷺ ثم ذكر آله، فالآل هنا لما عُطف عليه صار غير الرجل الذي أُضيف إليه، آل محمد، فيدخل فيه الآل الذين هم زوجاته وقرابته ممن مُنعوا الصدقة، ويدخل فيه أيضًا أتباعه على دينه، فالآل يُطلق بإطلاقات مُتعددة، إطلاق ضيق، وإطلاق أوسع، وإطلاق واسع جدًا.
فهذا ما يتعلق بهذا الموضع، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع برقم: (2516) وصححه الألباني.
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع برقم: (2516) وصححه الألباني.
- أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (2803) وقال محققو المسند: "حديث صحيح".