الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[36] قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}
تاريخ النشر: ٠٨ / رمضان / ١٤٣٦
التحميل: 1409
مرات الإستماع: 1866

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى- في جملة ما خاطب به بني إسرائيل في هذه الآيات من سورة البقرة: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:50] واذكروا نعمتنا عليكم حين فصلنا بسببكم البحر، وجعلنا فيه طرقًا يابسة فعبرتم، وأنقذناكم من فرعون وجنوده ومن الغرق، ثم بعد ذلك أطبق البحر على فرعون ومن معه فغرقوا وأنتم تنظرون، وأنتم تشاهدون عدوكم وهو يغرق، وهو يصارع الموت.

فهذه الآية يمتن الله -تبارك وتعالى- فيها على بني إسرائيل في جملة ما يذكركم به من نعمه وآلائه، وقلنا: بأن ذكر النعم يتسبب عن الشكر ويستجلبه، وذلك من أعظم موجباته وأسبابه؛ ولهذا جاء التذكير بالنعم في كتاب الله -تبارك وتعالى- في غير ما موضع، فنحن بحاجة إلى هذا التذكير من أجل أن تحفظ هذه النعم وتستبقى وتستدام، فإن شكرها يتسبب عن ثباتها وبقائها، وإذا كُفرت فإن ذلك يعني أنها ترتحل وتذهب وتتلاشى.

في هذه الآية: واذكروا إِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ كما قلنا: بأن "إذ" في مثل هذا السياق تدل على مقدر محذوف، واذكروا وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:50] فهذا فيه ثلاثة أشياء، ثلاث آيات كبار، الآية الأولى وهي: فرق البحر، لما قال بنو إسرائيل لموسى حينما رأوا فرعون يطاردهم وقد اقترب منهم غاية الاقتراب قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [سورة الشعراء:61] فموسى أجابهم بلغة الواثق بربه -تبارك وتعالى- ووعده: قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [سورة الشعراء:62].

فهنا قال: إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فهذه المعية من الله -تبارك وتعالى- والهداية ظهر من آثارها أن الله -تبارك وتعالى- أمره أن يضرب بعصاه البحر، هذه العصا التي لا تؤثر في البحر شيئًا حينما يضرب، ولكنه فعل السبب، ولو كان هذا السبب في المنظور البشري لا ارتباط له بالمسبَب، انظروا إلى ما ذكر الله -تبارك وتعالى- من خبر بني إسرائيل حينما قتل فيهم قتيل فأمر الله -تبارك وتعالى- موسى أن يأمرهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [سورة البقرة:72] تدافعوا قتله، كل طائفة تتنصل من ذلك وتضيفه إلى الطائفة الأخرى فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ثم بعد ذلك قال لهم: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [سورة البقرة:73]. 

الضرب هنا بجزء من بقرة ميتة فارقة الحياة، لو ضرب ببقرة حية لربما توهم متوهم أنه اكتسب الحياة من حياتها، هذه تُذبح: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] ذبحت، صارت في عداد الأموات، ميتة لا حياة فيها، فيضرب بجزء منها ميت فترجع إليه الحياة، هنا في ظاهر الحال لا ارتباط بين السبب والمسبَب، ولكنه القدير على كل شيء، وهكذا في أمثلة ونماذج، ومن ذلك ضرب البحر بالعصا، ولو بقي أهل الأرض يضربون البحر بعصيهم، ولو جعل ما في الأرض من شجر عصي يضرب بها البحار ما انفلق طريق واحد، بينما حينما ضربه موسى بأمر الله انفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [سورة الشعراء:63] كأنه جبل الماء: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [سورة طه:77] لن يدركك هؤلاء الذين يطاردونك بجيوشهم الجرارة طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا.

هذا البحر الذي له لربما آلاف السنين وفي داخله ما في داخله من شعب مرجانية وكائنات ونباتات وما فيه من الوحل وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [سورة الكهف:86] متغيرة منتنة، في ثأط وطين سوداء تغير لونها ورائحتها، قد قالوا: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ في قصة ذي القرنين فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قال ابن كثير: "تسقط في المحيط في نظر الرائي كأنها تقع فيه"[1] وهي تغرب من الناحية الثانية، فالعين يقال: للماء الكثير العين المعروفة، ويقال: للبحر كذلك، كأنها تقع فيه، من وقف على شاطئ البحر ونظر إلى الشمس حال الغروب كأنها تسقط في البحر، فسماه بهذا فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ منتنة متغيرة، وفي القراءة الأخرى: (حامية) ساخنة.

فهذا البحر المحيط الذي يكون في وراء المغرب، الذي يسمى اليوم بالمحيط الأطلسي، وقديمًا كان يسمى ببحر الظلمات، فالمقصود أن ضرب البحر ثم يتحول إلى طُرق كل طريق في حال من اليبس هذا يحتاج إلى مدة طويلة حتى ييبس ويجف يَبَسًا وكذلك: كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [سورة الشعراء:63] على ما قال بعض المفسرين: أن البحر وقف هكذا بين هذه الطرق، طرق متعددة بعدد هؤلاء القبائل من بني إسرائيل، اثنا عشر طريق كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الطود: الجبل، فالبحر صار يابسًا، طرقًا يابسة، والماء واقف من الجوانب كأنه جبل، فالماء لا يقف، لكن الله إذا أراد له ذلك وقف.

فهنا ضربه فانشق وصار طرقًا يسيرون عليها آمنين، لا يخافون من أن يدركهم فرعون، وانطلق فرعون في أثرهم، ويذكر في الأخبار، والنبي ﷺ قال: وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[2] فالله أعلم، إذا كان ذلك لا ينافي ما عندنا، يقال: بأن موسى كان على فرس أنثى، وفرعون كان على ذكر، وتعلمون أن الخيل إذا رأى الذكر منها الأنثى فإن ذلك يستفزه جدًا فينطلق بصاحبه دون توقف، يقولون: فانطلق على أثره، ودخل لجة البحر، يظن أن هذه الطرق أيضًا هو سيمضي عليها كما مضى بنو إسرائيل، فلما دخلوا في وسط البحر هو وجنوده حتى إنه قيل: لم يبق في أرض مصر من الفراعنة إلا النساء والضعفاء، فكل الملأ خرجوا، أرسل فرعون في المدائن حاشرين يحشرون الناس من أجل الاصطفاف مع فرعون لملاحقة هذه الشرذمة كما يقول فرعون: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ۝ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ [سورة الشعراء:54، 55] فأخرجهم الله من: مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ۝ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ [سورة الدخان:25- 27] وأورثها هؤلاء الضعفاء من بني إسرائيل، فلم يبق في مصر كما يقول المؤرخون: إلا النساء والضعفاء ممن لا شأن له، وخرج الملأ وعساكر فرعون في جميع النواحي في البلاد المصرية، أرسل في المدائن في المدن المصرية من يحشرون الناس، كل من يستطيع حمل السلاح يخرج معهم، فأخرجوا هؤلاء جميعًا فدخلوا في البحر، فماذا كان؟

نَجَّى الله موسى ومن معه لم يغرق منهم أحد، وأما هؤلاء فأطبق عليهم البحر: فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ [سورة البقرة:50] فهذا فرق البحر آية عظيمة جدًا معجزة، ولذلك الله -تبارك وتعالى- أخبر عما أعطى موسى من الآيات فذكر الآيات التسع، ولموسى آيات أخرى، واختلف المفسرون هل فلق البحر منها أو لا؟!

والأقرب أنه ليس منها؛ لأن ذلك لم يكن آية لفرعون، وإنما كان سبيلاً لنجاتهم من فرعون، وقد حان وآن الأوان لإغراقه، لكن الآيات الأخرى مثل: اليد تخرج بيضاء من غير سوء وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [سورة القصص:32] كذلك حينما يشعر بالخوف فيحصل له الأمان، وكذلك أيضًا ما ذكر الله من الجراد والطوفان والقمل والضفادع والدم كل هذا من الآيات التي أعطاها الله لموسى والآية الكبرى هي العصا فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى [سورة النازعات:20] فهذه الآية هي العصا التي يلقيها فتكون حية تسعى، فهي التي التقمت الحبال والعصي التي جاء بها السحرة ثُعْبَانٌ مُبِينٌ [سورة الأعراف:107] ثعبانًا ضخم من الحيات، ووصفها الله -تبارك وتعالى- في موضع آخر: كَأَنَّهَا جَانٌّ [سورة النمل:10] فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [سورة النمل:10] الجان: هو الصغير من الحيات سريع الحركة، ولا تناقض بين الأمرين، فهي في ضخامتها ثعبان، وفي سرعة حركتها كالجان من الحيات سريعة الحركة، الحيات الصغار الدقيقة حركتها سريعة كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [سورة النمل:10].

فالشاهد هنا أن فرق البحر هذه آية، إنجاء بني إسرائيل يعني حينما مضوا عليه وهو في هذه الحال من اليبس هذه آية، لم يغرقوا، نجاهم الله -تبارك وتعالى- ثم إغراق الفراعنة بعدما خرج الإسرائيليون هذه آية.

وهذه الآيات فرعون تعالى وتعاظم وتكبر على موسى كان يحتقر موسى يقول: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [سورة الزخرف:52] وكان يفتخر ويقول لقومه: انظروا إلى ما عندي وما عند هذا أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [سورة الزخرف:51] تحت القصور والمنتجعات التي اتخذها من أموال المكدودين الكادحين ومن دمائهم، فكان يفتخر، فكان هلاكه بهذا الماء الذي يقول: وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [سورة الزخرف:51] فصار الماء يجري من فوقه، هذا الماء اللطيف الرقيق الذي هو قوام الحياة يتحول إلى شيء آخر إذا أراد الله -تبارك وتعالى- فيهلك به أعداءه.

أول هلاك وقع بعذاب مستأصل لأهل الأرض كان في قوم نوح، وذلك كما قص الله -تبارك وتعالى- وجعل آية لذلك: وَفَارَ التَّنُّورُ [سورة هود:40] فإذا فاض التنور والراجح أنه ما يخبز به فهذه علامة على بداية الطوفان، فانشقت السماء بالمطر، وفجرت الأرض حتى صارت عيونًا، فالتقى الماء النازل من السماء والخارج من الأرض عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ۝ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ [سورة القمر:12، 13] سفينة تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [سورة القمر:14] بحفظنا ورعايتنا، انظروا إلى الألطاف الربانية لأوليائه، يغرق جميع أهل الأرض حَمَلْنَاهُ ما غرق عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ هذا نوح وأولئك غرقوا، حتى من كان يحاول النجاة فيرتقي جبلاً؛ ليمتنع به كما حاول ابن نوح: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ في هذه اللحظات وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [سورة هود:43] وهذا الماء النازل من السماء والنابع من الأرض صارت له أمواج تضرب، صار كالبحر الهائج الذي يغطي رؤوس الجبال فلم يستطع أن يمتنع منه أحد، وبقي هؤلاء عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ۝ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ [سورة القمر:13، 14] وهو نوح كفَرَه قومه وكذبوه، فهكذا تكون رعاية الله - ، وتقدست أسماؤه.

وهؤلاء مشوا بغير سفينة في البحر، ودخل فرعون يظن أن الحال لربما من قبيل السحر أو غير ذلك مما يتوهمه إلى آخر لحظة حينما رأى البحر بهذه الطريقة يراه أمامه وهو يعرف أن البحر لم يكن هكذا، يضرب البحر وينشق ومع ذلك يبقى في عتوه وفي حربه لأولياء الله إلى آخر رمق، ثم يرتد عليه البحر ومن معه، فحينما صار يصارع الموت قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [سورة يونس:90] لكن هذه ليست ساعة إيمان، حينما يعاين الإنسان فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ [سورة يونس:98] إذا رأى الناس العذاب فهنا لا ينفعهم الندم، استثنى الله قوم يونس أنذرهم وذكر لهم علامات العذاب، فلما رأوها تضرعوا، وقيل: إنهم فصلوا الرجال من الناس، وأخرجوا البهائم والأطفال، وفصلوا الصغار عن الأمهات، وجلسوا يبكون ويتضرعون وتابوا إلى الله، هؤلاء الذين استثنوا فقط، نفعتهم توبتهم لما عاينوا.

أما البقية ففرعون قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [سورة يونس:90] ولم يقل: آمنت أنه لا إله إلا الله؛ لأنه كان يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [سورة القصص:38] فهنا: الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [سورة يونس:90] ولذلك قال السحرة: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [سورة الشعراء:47، 48] رب العالمين يمكن يتوهم فرعون أنه هو؛ لأنه كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [سورة النازعات:24] قالوا: رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ فهذا المتجبر الذي يدعي الإلهية: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [سورة القصص:38] ويدعي الربوبية أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [سورة النازعات:24] وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [سورة الزخرف:51] فصارت تجري من فوقه، أغرقه الله فكان هذا الغرق كما ذكر الله -تبارك وتعالى: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:50]. 

وآل فرعون أنه يدخل فيهم دخولاً أوليًا فرعون نفسه ومن معه من أتباعه وجنوده، فهؤلاء غرقوا جميعًا عن بكرة أبيهم، وذهبوا في البحر طعامًا لدوابه بعدما كانوا في حال من العتو والقوة والغضب، ونجى الله فرعون: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [سورة يونس:92] غرق حتى جاء في بعض المرويات أنه حينما كان يقول: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [سورة يونس:90]، يقال: بأن جبريل كان يؤخذ من وحل البحر ويضع في فيه مخافة أن تدركه الرحمة.

هذا العاتي المتجبر المجرم، انظروا كيف كان هلاكه بالماء ليس بالنار، وليس بسلاح، بالماء، وكما أن هذا الهواء اللطيف الذي يتنفسه الإنسان ولا حياة بدونه جعله الله هلاكًا لقوم عتاة زادهم الله بسطةً في الخلق، وهم قوم عاد، أرسل عليهم ريحًا عقيمًا: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ۝ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [سورة الحاقة:7، 8] أعجاز النخل هو أسافلها، وهؤلاء لضخامة أجسامهم كأن الواحد منهم أعجاز هذه النخل قد سقط على وجهه، جثث ضخمة، هلكوا بالريح، الهواء، الهواء إذا أراد الله صار شيئًا آخر.

وانظروا إلى يأجوج ومأجوج الذين يمر أولهم على البحيرة فيشربونها ويأتي آخرهم ويقولون: لقد كان هاهنا ماء؛ من كثرتهم: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [سورة الأنبياء:96] كل حدب، كل طريق، كل ممر بين جبلين، لكثرتهم ينسلون يمشون مشي النسلان، وهو مشي السباع، يفعله المقاتلون حينما يدخلون في حال من الحذر إلى ناحية فهؤلاء أهلكهم الله بدويبة، يهلكم الله عن بكرة أبيهم، دواب صغيرة تكون في آنافهم فلا يبقى منهم أحد، بعدما يفسدون غاية الإفساد، ثم يضربون إلى السماء بنبالهم وسهامهم، ويقولون: قهرنا أهل الأرض، ثم ترجع إليهم هذه النبال، يريدون أن يقهروا أهل السماء، ترجع مخضوبة بالدم، هكذا بهذا الجبروت يريدون مقاتلة أهل السماء، فيفتنون وتخرج ترجع إليهم هذه النبال وفيها دم، ثم يكون هلاكهم بهذه الدويبة التي يقال لها: النغف، لا يبقى منهم أحد، ثم هذا الهلاك: فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:50] هذا فيه منة عظيمة فإن إهلاك العدو وفي الحال الذي يكون عدوه يشاهده وهو يهلك ويصارع الموت هذا أبلغ وأعظم في التشفي شفاء النفوس.

ثم أيضًا فرعون لربما لا يُصدق أحد أنه غرق، هذا كان يدعي الربوبية والإلهية، هذا أعتى العتاة، إذا قيل: فرعون، يكفي ذلك للتعبير عن كل أنواع العتو، فبنو إسرائيل الذين استذلهم وكانوا يقولون لموسى : أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا [سورة الأعراف:129] قال: عَسَى وعسى هنا بلغة الواثق عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:129] قد لا يصدقون إذا جاء الخبر أن فرعون قد غرق، لربما تكون فرقة من الجيش، لربما، فرعون! وهم يشاهدونه يغرق أمامهم، تشفي وتوثيق، وأما الذين هناك تركهم وراءه فهؤلاء أيضًا قد لا يصدقون أن هذا الذي كان يدعي أنه الإله أنه قد غرق، إذن فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [سورة يونس:92] يشاهدونه يرون، وكأني أراه ملقى على شاطئ البحر عاري تمامًا قد بدت سوأته، ينظر إليه هؤلاء ويعجبون كأنه قشة ملقاة على ساحل البحر، قد ظهر عليه آثار البحر والغرق، ولطم الأمواج، والتراب الذي يسفي على وجهه وجسده، هذا الذي يدعي الإلهية يخرج غريقًا عاريًا ملقى على شاطئ البحر.

هذا الذي يقولون الآن: بأنه هو فرعون موسى الذي غرق، يزعمون ذلك يصورونه وفي أحد هذه الأهرام، هذا لا يوجد شيء يثبته، فالله أعلم، وقول الله : فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لا يقتضي أنه لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً أن يكون ذلك على مدى الأجيال، لا، يكفي أن يراه من وجد في ذلك الوقت فيتوثق ويتيقن أن هذا ليس بإله وأنه فعلاً قد غرق، يكفي، لا يحتاج إلى أن يبقى أمد الدهر بدليل أن هذه الأهرام لم يٌفتح ما فيها ويستخرج ويراه الناس ويدخلونه، إلا بعد الحملة الفرنسية بقيادة نابليون، جاء معهم بمائة وست وأربعين عالم آثار، فاستخرجوا هذه وقالوا: هذه للفراعنة، وقالوا: هذا فلان، وهذا فلان، وهذه أخبار الله أعلم بها، وإلا فالعلماء قديمًا كما ذكر صاحب "الخطط" وهو المقريزي - رحمه الله - وكذلك في كتاب "حسن المحاضرة بأخبار مصر والقاهرة" للسيوطي، المتوفى سنة: 911 للهجرة، ذكر العلماء هؤلاء منذ القدم قبل الحملة الفرنسية، محاولات الدخول للأهرام من قديم، وفتحوا بعض الأهرام الكبار ودخلوها ووجدوا فيها التوابيت ووصَّفوا الذي وجدوا قديمًا قبل الحملة الفرنسية، هذا يوجد في كتاب "حسن المحاضرة"[3] وفي "الخطط" للمقريزي[4].

وذكروا هذه المحاولات المتكررة في عهد الدولة العباسية وغيرها، فلا جديد، لكن هؤلاء يقولون: بأن هذا كان للفراعنة، والأولون يقولون: إنه لا يعرف له تاريخ، وما لا يعرف له تاريخ فيضيفونه إلى ما قبل الطوفان، طوفان نوح يقولون: قبل الطوفان، يقول: لو كان بعد الطوفان لعرف من الذي بنى الأهرام.

ليس هذا شأننا الآن، لكن المقصود أن هذا الذي يقولون: إنه فرعون موسى لا يوجد شيء يثبت ذلك فقط هذا القدر بصرف النظر عن الجوانب الأخرى من الذي بنى الأهرام، وهل ما قاله الفرنسيون صحيح؟ هذا موضوع آخر، لكن هنا أغرق الله هؤلاء الفراعنة وهؤلاء ينظرون هذا فيه تشفي.

والأمر الثاني: أيضًا يتأكدون ويتوثقون، وإلا يمكن ألا يصدق أحد أن فرعون يغرق.

وهذا البحر الذي أغرق الله فيه فرعون كان سببًا لحفظ موسى فالله -تبارك وتعالى- أمر أم موسى: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [سورة القصص:7] فألقي في التابوت الذي حملته أمواج اليم حتى وصل إلى قصر فرعون فكان سبب نجاة موسى هو هذا الإلقاء الذي أمر الله به، هذا البحر هو نفسه -لا أعني نفس الذي غرق فيه فرعون- لكن هو الماء، فالماء الكثير يقال له: بحر في لغة العرب سواء كان حلوًا أو ملحًا، الملح يعني البحر المعروف، والأنهار يقال لها: بحر، في لغة العرب، فهنا هذا الذي حفظ الله به موسى كان سببًا لهلاك فرعون.

ثم أيضًا هذا الهلاك بهذه الطريقة في الماء يغرق لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، يصرخ يصيح بأعلى صوته، يحاول، وفي حال الغرق ما في أحد يريد أن ينقذ أحد، إذا غرق الناس الكل يريد أن يصارع من أجل الحياة، فلو أن أحدًا تعلق به دفعه، كل أحد يقول: نفسي نفسي؛ لأنه إن تعلق به أحد أغرقه معه، وهنا لا مجال للنجاة، فتصور هؤلاء بقوتهم أصبحوا يريدون فقط غاية المراد هو تحقيق النجاة من غير شيء آخر، يعني هو لا يريد ما معه من أموال ولا دواب ولا سلاح ولا عتاد ولا طعام ولا غير ذلك، هو فقط يريد أن يُخلص رقبته ولو خرج عاريًا، الغريق يلقي كل شيء، لو معه كنوز الدنيا ألقاها، نفسي نفسي، وتصور هؤلاء العتاة الذين خرجوا بهذه الأبهة ثم بعد ذلك يصارعون الموت، يصارعون من أجل البقاء، وهؤلاء المساكين من بني إسرائيل الذين استضعفوا يتفرجون وينظرون إليهم، كيف تكون مصارعهم؟ وكيف يموتون؟ ومن آخر واحد، من هذا البطل الذي يستطيع أن يبقى آخر واحد ما يغرق؟ الكل سيغرق لكن من الذي يستطيع أن يصارع ليكون هو الأخير في الهلاك؟ فيتفرج الجمع من الإسرائيليين على هذا الشاطئ، فهذه آيات الله وتقدست أسماؤه.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسِّينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا. 

  1.  تفسير ابن كثير (5/ 191). 
  2.  أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3461). 
  3.  حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة (1/ 71). 
  4.  المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (1/ 212). 

مواد ذات صلة