الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[40] قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى..}
تاريخ النشر: ١٢ / رمضان / ١٤٣٦
التحميل: 1319
مرات الإستماع: 1651

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول -تبارك وتعالى- في جملة ما امتن به على بني إسرائيل: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة البقرة:57] يذكرهم بنعمته حيث ظلل عليهم الغمام، وذلك في تيههم المشهور الذي بقوا فيه تلك المدة الطويلة، فصار السحاب يظللهم من حر الشمس، وأنزل الله -تبارك وتعالى- عليهم المن، وهو كما يقول طائفة من المفسرين: شيء يشبه العسل صمغة حلوة الطعم والمذاق.

وكذلك أيضًا السلوى فهي طائر، كما قال بعضهم: هو السمان أو يشبه السمان، طائر دون الحمامة، يذكرون أوصافه في كتب التفسير، المقصود أنهم صاروا يأكلون المن، والمن في الأصل يقال: لكل ما يمتن الله به على عباده من غير عمل ولا كد ولا سعي من الإنسان، ولهذا قال النبي ﷺ: الكمأة من المن[1] والكمأة من المن باعتبار أن الإنسان لا يزرعها، فهكذا كل ما لا سعي للإنسان فيه فهو في جملة المن، فيدخل فيه الصمغ الذي ينزل في بعض النواحي على الأشجار، وتكون حلوة المذاق تشبه العسل وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى.

وهكذا أيضًا أمرهم أن يأكلوا -أمر إباحة وتوسعة: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ كلوا من هذه الطيبات التي رزقكم الله -تبارك وتعالى- من غير حرج ولا تبعة تلحقكم في ذلك.

ويؤخذ من هذه الآية ما يتصل بالمناسبة وذلك أن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر ما دفع عنهم من النقم شرع يذكرهم بما أسبغ عليهم من النعم: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى قبل ذلك ذكرهم بنعمه، بإنجائهم من آل فرعون، وما كانوا يفعلون بهم، وإنجائهم من الغرق وإغراق هذا العدو، وكذلك أيضًا ما حصل من توبته -تبارك وتعالى- عليهم، ومن إحيائهم بعد موتهم حينما أخذتهم الصاعقة، وما إلى ذلك.

يؤخذ من هذه الآية أيضًا وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ فهذا الظل الذي يحصل للناس لا شك أنه نعمة لكنهم لا يستشعرونها، الناس لا يستغنون عن هذا، فلما كان بنو إسرائيل في التيه ظلل هؤلاء بالغمام، فالله -تبارك وتعالى- جعل لنا من هذه البيوت والمساكن والأشجار وما إلى ذلك جعل لنا فيها الظل الظليل الذي نتقي فيه حر الشمس، ونتقي فيه أيضًا المطر وما يتأذى منه الناس، ولذلك لما كانت بلاد العرب حارة كما هو معلوم ذكر في جملة نعيم الجنة الظل الممدود، والظل الممدود في البلاد الباردة قد لا يقع ذكره موقعًا في نفوسهم، لربما يتمنون رؤية الشمس التي لا يرونها إلا قليلاً أو نادرًا، يستبشرون بذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس ويرونها، ولربما اتخذوا ذلك اليوم عيدًا، لكن في بلاد العرب الحارة والله قد خاطبهم بهذا الخطاب يستشعرون هذه النعمة والحاجة إلى هذا الظل، فذكر ذلك في نعيم الجنة: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [سورة الواقعة:30].

وذكر الطلح المنضود، على قول كثير من المفسرين أن الطلح هو الشجر المعروف من شجر العضاة، وهو الشجر الذي يكون في البرية في أرض الحجاز ونحوها، شجر ظليل ولكنه كثير الشوك، وشوكه أقسى ما يكون، شوكه قاسي، وثلاثي في الغالب أو رباعي، يعني له فروع، وهو في غاية القوة، فمن أراد أن يستظل بذلك الشجر فهو بحاجة إلى تنحيته وتهيئة ذلك المكان بإزالة الأشواك المتناثرة تحته، طلح منضود، طلح شجر الطلح ليس شوك، هذا لا يتصور عندهم، هذا غاية الأماني، فذكره في الجنة.

والقول الآخر: أن الطلح هو شجر الموز، وأن المنضود يعني: الثمر، أنه قد نضد هذا الثمر نضد بعضه على بعض، لكن الشاهد القول الأول أو المعنى الأول وهو المناسب هنا.

فهناك نعم كثيرة لا يستشعرها الإنسان، وإنما يستشعرها من فقدها، إذا كان الإنسان في مكان حار، إذا كان الإنسان قد تعطلت به مركبته في برية لا يجد شجرة يستظل تحتها ولا سقف عندها يدرك قيمة الظل وأهميته، فضلاً النعم الأخرى من الطعام الذي يحتاج إليه ونحو هذا، فإن الإنسان حينما يجد شدة الجوع أو العطش فإنه يدرك عندها قيمة هذه الأطعمة والموائد التي نسأل الله أن يرزقنا شكرها.

وربما كان البعض قبل الإفطار -في رمضان مثلاً- يظن أنه سيلتهم كل شيء، ولربما قد أتى على بعض الباعة أو من يصنعون الطعام في طريقه في المساء أو نحو ذلك قبل الإفطار فيظن أن ذلك هو غاية الأماني، وأنه لو قدر له أن يفطر في هذا المكان لما أبقى شيئًا من هذا الطعام، هكذا شعور الإنسان، ولذلك لربما يتوسع في الشراء إذا كان في حال الصوم، يذهب يشتري العصر يتوسع في الشراء ويظن أنه سيأكل هذا جميعًا، فإذا أفطر فإن ذلك لربما لا يحرك شيئًا في نفسه، فلو أتى إلى هذه النواحي التي أتى عليها بعد العصر بعد الإفطار بعدما أفطر فإنه لن يجد نفس الشعور الذي كان قبل ذلك، هكذا في استشعار النعم وحاجات الإنسان، وهي أشياء تحتاج إلى تبصر.

نحن في نعم كثيرة جدًا كما ذكرنا في بعض المناسبات في كلام أهل العلم كالحافظ ابن الجوزي[2] والحافظ ابن القيم[3] وأمثال هؤلاء يقولون: من الذي يستشعر نعمة الهواء ويقول: الحمد لله على هذه النعمة، لكن من فقدها، من حُبس عنه النفس يعلم قيمة ذلك، من يمشي وهو يُنقِّل معه جهازًا تنفسيًّا يساعده في تنفسه في المجالس وفي الأماكن الخاصة والعامة، يحمل أسطوانة مثل هذا يستشعر النعمة التي فيها الآخرون، لكن النعم المبذولة كثير من النفوس تزهد فيها ولا تستشعرها، ولذلك انظر إلى حال الفاقدين لها وكيف تتطلع نفوسهم عليها، وانظر إلى من كانت النعم بين أيديهم فإن نفوسهم لا تتوق إليها، يبحثون عن شيء وراء ذلك، أشياء جديدة، حتى الأطفال قديمًا حينما كان الطفل لا يجد شيئًا فإن أدنى الأشياء من حلوى أو نحو ذلك تقع في نفسه موقعًا لا ينساه، بينما الآن لربما لا يسد نفسه شيء؛ لأن ذلك موفور عنده، فهو زاهد في ذلك كله، الذي ما رأى الفواكه والحلويات ونحو ذلك لربما حينما يراها لا يتمالك، أما الذي هي بين يديه صباح مساء لربما يجبر على الأكل، أهله يلحون عليه أن يأكل وهو يرفض رفضًا قاطعًا؛ لأن نفسه لا تطلبه ولا يلفت نظره ولا يحرك فيه ساكنًا، فيبغي استشعار هذه النعم.

فهذا الامتنان من الله -تبارك وتعالى: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ هذا الرزق الذي لا يجده أهل المدن والأمصار، منّ وسلوى والظل بالغمام، ولكن هؤلاء القساة الجفاة زهدوا في ذلك كله وسئموه وملوه، انتبهوا السآمة والملال للنعم والزهد فيها هذا من طبائع كثير من النفوس، إذا استمرأت النعمة رغبت عنها، وصار ذلك لا يحرك فيها مشاعر الشكر لله -تبارك وتعالى- لا في القلب ولا في اللسان ولا بالعمل في الجوارح، بل لربما ينفر منها ويعيبها ويذمها، وهذا لا يجوز بحال من الأحوال، وهو من كفران النعمة على اختلاف النعم وتنوعها، سآمة النعمة.

وانظروا إلى ما قص الله -تبارك وتعالى- من خبر سبأ في سورة سبأ ففيها من العجائب والعبر والعظات الشيء الكثير، هؤلاء قد أنعم الله عليهم بالنعم: جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورࣱ [سورة سبأ: 15] هذه نعمة وافرة لا يحتاجون معها إلى شيء آخر، وإذا أرادوا السفر إلى بلاد الشام بلاد بعيدة عن اليمن فكما قال الله -تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً [سورة سبأ: 18] قرى ظاهرة، يعني بمجرد الخروج من هذه القرية يرون القرية الثانية وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ [سورة سبأ: 18] يعني: السير فيها محدود، كيلومترات قليلة، ما يحتاجون إلى أخذ الزاد، وهم في حال من الأمن لا يخافون، لا يحتاجون إلى حرس وفرقة من أجل حمايتهم.

إلى عهد قريب الناس الذين يذهبون إلى الحج، اقرؤوا في كتب الرحالة الغربيين وغير الغربيين، موجودة ومطبوعة في المكتبات، يذكرون ما الذي كان يحدث، بعض هؤلاء الغربيين كانوا يلبسون الزي العربي ويظهرون على أنهم من جملة الحجاج وهم من غير المسلمين؛ ليشاهدوا ويدونوا، وبعضهم له مآرب أخرى، فكانوا يصفون وصفًا دقيقًا كأنك تشاهده في سير الجمال ومن يقود هذه الجمال ويسوسها، وصوت الحادي، ويصفون ذلك الذي يدلهم الطريق ويعرف فهو خِرِّيت يعرف الطرق ويعرف المسالك، ثم بعد ذلك حينما يفاجئهم مجموعة من قطاع الطرق واللصوص ونحو ذلك ومعهم بنادق، وما الذي يحدث، والأوامر التي توجه إلى هؤلاء كيف يفعلون، ثم بعد ذلك حينما يبدأ التراشق والاشتباك مع هؤلاء المهاجمين، انظروا هكذا كانت حياتهم، خوف، واليوم المرأة تسافر، تذهب إلى العمرة في رمضان، وتذهب إلى الحج لربما مع لا أحتاج أن أقول: بلا محرم؛ لأن المرأة ينبغي أن لا تسافر إلا مع محرم، لكن لربما مع غلام حديث البلوغ، وتذهب معه متى شاءت، إن شاءت برًا وإن شاءت جوًا، لا تخاف إلا الله، من أي ناحية شاءت، هذه نعمة لا تقاس ولا تُقدر بثمن، لكن نحن لا نستشعرها.

والشعراء الذين كانوا يصفون أنفسهم بالبطولات، وكيف كانوا يقطعون الفيافي والمهالك والمفاوز البعيدة، فيصفون شجاعتهم أنهم يذهب الواحد منهم على جمله ويقطع هذه الأماكن الموحشة وحده دون خوف ولا وجل؛ لفرط شجاعته؛ لأن هذه الأماكن لا يقطعها الواحد تحتاج إلى جموع من أجل أن يقوِّي بعضهم بعضًا، ويحمي بعضهم بعضًا، أما الآن كل من عنَّ له أمر أو لم يعنّ له أمر يركب سيارته ويذهب.

أسمع أن بعض الشباب -أصلحهم الله- لأتفه الأسباب يقول لصاحبه: أتحداك أن تذهب إلى المطعم الفلاني في الرياض تأتي بكذا وتجي، يشغل سيارته ويذهب، هذه الأشياء نسمع بها ولا نستبعدها، فالله فاوت بين عقول الخلق، فيستفز هذا ويذهب فعلاً ويأتي لهم من هذا المطعم، هذا الذي لو ترك يمشي في الصحراء بدون هذا كله في السابق يستطيع أنه يخرج خلف بيته مائة متر بعد المغرب؟ لا يستطيع، ولكن نعم الله تترا على عباده مع غفلتنا العظيمة الشديدة عنها، من الذي يجلس عند بيته يحرس ويتناوبون للحراسة عند البيوت أو في الأحياء؟ أنا رأيت في بعض البلاد فرق من أهل الحي طول الليل نوبات كل مرة نوبة على مجموعة يحمون الحي يدورون طول الليل؛ لأنهم لا يأمنون.

هؤلاء من قوم سبأ لما كانت هذه النعمة بينهم وبين القرى التي بارك الله فيها وهي الشام قُرًى ظَاهِرَةً لا يحتاجون إلى زاد وهم في أمان، فملوا هذه النعمة فقالوا: رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [سورة سبأ:19] "باعد" يعني: نريد أن نذوق السفر الذي يقولون فعلاً، نريد أن نرى التعب هذا والمغامرات والخوف، نريد أن نقطع المفاوز الطويلة، نشعر بالسفر الحقيقي، هذا ما هو بسفر، هذا من بطر النعمة والكفر بها.

ونحن قد نقع في أشياء تشبه هذا، فقد يترك الإنسان هذه المراكب التي منَّ الله بها على الناس، مل النعمة لا يدري ماذا يصنع بنفسه وتجده على دراجة عادية هوائية يذهب إلى الجامعة ولربما خمسة عشر كيلو أو عشرين كيلو، تقول: هذا فقيِّر مسكين ما عنده شيء نتصدق عليه، فما باله على دراجة بين هذه السيارات كل شوي تقول: السيارة تبي تشيله؟ هو بطر النعمة، والثاني على دراجة نارية ثلاثة أربعة خمسة ستة، إذا شفتهم ترحمهم تشفق عليهم في طريق سفر، طريق سريع بين السيارات، برد أو سموم وحر، ما بال هؤلاء مساكين ما عندهم شيء؟ أين جالسين؟ يقول لك: هذا الدباب قيمته أربعمائة ألف ريال، هؤلاء بطروا النعمة فملوا كل شيء فيريد يجرب شيء آخر.

وتسمع عمن يذهبون مشيًا على الأقدام مئات الكيلومترات وآلاف الكيلومترات على الأقدام، ما عندكم شيء حفاة عراة، وترى ألبسة وأزياء تظن أن هؤلاء من أفقر الناس، تراه في المطار، تراه في أماكن عامة، وتنظر إلى حذاء بلا شراب وحالة، وإذا نظرته تشفق عليه وتقول: ما هذا الفقير المسكين أريد أتصدق عليه، أشتري له شيء يلبسه، فإذا سألت ما بال هذا بهذا اللباس وهذا اللبس؟ قالوا: هذا الآن هو الموضة، هؤلاء ملوا من الألبسة، فهذا التبذل هو لون من التغيير.

وتشاهد عارضين للأزياء في الملابس المستعملة، وقد تباع أحيانًا بأغلى من سعر الجديد، هذا موجود، فهذا من بطر النعمة، وأصبح الناس يبحثون عن الأشياء القديمة، ويزاودون فيها وتباع بأغلى الأثمان، دلَّة ما تسوى خمسة ريالات يُحرج عليها وتباع بعشرات الألوف، لو قيل لي: بخمسة، قلت: أنا أعطيك خمسة بس وأبعدها لا أراها، نحاس، يعني موضعها الحقيقي اللائق بها هو المزبلة -أعزكم الله- نفايات، عشرات الألوف، وما يدريك سيارتك هذه يجي وقت من يحرج عليها وتباع بملايين، أنا أقترح أن يعجل هذا، ويقال: خذها عجل وخزنها بمليون أو بمليونين، بطر النعمة، أصبح الناس يبحثون عن الأشياء القديمة، يعملون البيوت بهيئة الطين، الألبسة القديمة التي أغنى الله الناس عنها، هذا كله من بطر النعمة.

فيحتاج العبد أن يستشعر نعم الله عليه، انظروا هذا الامتنان، فقوم سبأ حصل له؟ تمزيق وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سورة سبأ:19] فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ [سورة سبأ:19] صاروا -نسأل الله العافية- أحاديث يعني سالفة على ألسن الناس يتعظون ويعتبرون، ما بلغك ما حصل لقوم سبأ؟ سمعت ما حصل لسبأ؟ يتحدث الناس عنهم، مع أنه في السابق لا توجد مثل هذه الوسائل الآن الذي تنقل الأخبار وما يجري وبالصور أولاً بأول.

فأقول: النعم إنما تُقيَّد بالشكر لله -تبارك وتعالى- لكنه قد ينشأ جيل في هذه النعمة ولم يعرف ما كان قبلها، فهؤلاء هم الذين قد يفرطون فيها، ولا يعرفون قدرها، الذي عرفوا الجوع في السابق إذا رأوا النعم هذه لربما سالت دموعهم، وسألوا الله أن يحفظ هذه النعم، وبدأوا يبحثون عن المحتاجين والفقراء ويواسونهم؛ لأنهم يعرفون ما كانوا فيه من الفقر والمسغبة، ما يجدون شيء يأكلونه.

أحد الأحياء الموجودين يحدثني مباشرة عن أبيه هنا في هذه البلاد، يقول: كان يمص النوى يفطر على النوى، ليس عنده شيء في رمضان، يفطر على النوى، يمص النوى العبس التمر، ليس التمرة نوى نواة يمصها يفطر عليها.

بعض الأحياء الموجودون يحدثون عما كانوا يقولون: لا نعرف اللحم إلا في الأضحى، ونبقي العظام من الأضحى إلى الأضحى، نضعها في الطعام، رائحة بس اللحم، انظروا الآن إلى الموائد والنعم التي فاضت على الناس، ما كانوا يجدون هذا، أهل النخيل، أنا أقول لهم أحيانًا أسألهم أقول: أين نخيلكم؟

يقولون: النخيل يباع؛ لأنهم يزرعون بالسلم، يأخذون قروض من الناس ويزرعون ثم بعد ذلك إذا جاء وقت الحصاد أخذ هذا وأعطي للدائنين، وأنتم ما لكم؟ قالوا: نأخذ الذي يتساقط في الأرض، يتساقط من النخيل، ويأخذون الذي يتساقط من الحبوب عند حصد الحنطة، يتساقط، يسمونه اللقاط، واقرؤوا في "سير أعلام النبلاء" في ترجمة الإمام أحمد حينما خرج بعد الحصاد من أجل أن يلتقط حبات تسقط بعد الحصاد في الأرض، فرجع مسرعًا، فسئل: ما التقطت مع الناس؟ قال: رأيت منظرًا كرهته، ماذا رأيت؟ قال: رأيت الناس يمشون على أربع[4].

يعني الحب هنا حبة، هنا حبة، هنا حبة، ما يستطيع يقوم ويجلس، فصار الناس ماذا يفعلون في الحقل؟ على أربع؛ لأنه ما يريد أن يقوم ويجلس، فصاروا كأنهم في هذا الحقل دواب، فكره الإمام أحمد هذا المشهد وما التقط ورجع؛ لعزة نفسه وحيائه.

الإمام أحمد يخرج للقاط، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لما ذكر النجاسات وما لا يمكن التحرز من يسير النجاسة ماذا ذكر؟ قال: "كبعر الفأر في الدقيق في الطحين"[5] بعر الفأر، يعني هذا عندهم شيء لا يمكن الاحتراز منه عادي، أن هذا يعفى عنه يسير النجاسة، من منا الآن يأكل خبز أو معجنات أو غير ذلك -أعزكم الله- فيها بعر الفأر، أنا أعرف أن الكلمة تشق على الأسماع مجرد ذكرها فكيف بمشاهدته، فكيف بأكله، حتى نستشعر النعم التي نحن فيها، نحن الآن إذا جلسنا على أطيب الطعام، والإنسان شعرة من اللحم من الذبيحة شعرة عافت نفسه الطعام كله، شعر، لربما لم يتمالك وأعلن هذا أمام الذين يأكلون وعاف اشمأز.

وفي السابق بعض الأحياء يتحدثون عن شربهم يقولون: كنا نأتي الآبار وفيها -الله يعزكم- الحشرات والجعلان والطين والوحل، يعني تتحدث عن حشرات، أو تتحدث عن فيروسات، أو تتحدث عن جراثيم، أو تتحدث عن بعوض وملاريا، يقولون: نضع الغترة صفَّاية من أجل تصفي الماء الذي نشربه أحياء يرزقون، وانظروا الآن إلى شربنا، انظروا الذي أمامكم الآن هذه النعم، هذا الماء.

فهذه النعم إذا كان الله يقول: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [سورة التكاثر:8] لَتُسْأَلُنَّ هذه اللام تدل على قسم مضمر والله لتسألن يومئذ عن النعيم، ما هو النعيم عندهم؟ لما سئلت عائشة -رضي الله عنها: ما كان يعيشكم؟ يعني النبي ﷺ وأهل بيته، فقالت: الأسودان: التمر والماء[6] فأخبرهم أنه سيكون السؤال عن هذا النعيم.

ولما ذهب خرج ﷺ ما أخرجه إلا الجوع، وخرج كذلك أبو بكر وعمر  وأتوا إلى الأنصاري، وجاء لهم بعذق من بسر، وأكلوا ثم جاء بشاة وأطعمهم من لحمها، فقال النبي ﷺ: لتسألن يوم القيامة عن هذا النعيم[7]

إذن نحن في كل يوم على هذه النعم وهذه الموائد، كل يوم ولا تنظر إلى ضخامة الآنية وتنوع وأصناف الطعام، لا لا، هذا الطعام الكثير هو الواقع أن الذي تأكل منه هو شيء قليل، يعني لو لم يكن بين يديك إلا بهذا الحجم بكف اليد من الطعام فهذا هو القدر الذي يأكله ذاك الذي أمامه، صنوف الموائد والأطعمة وكما يقال: الأواني ذات الأرقام القياسية من ضخامتها، هو ماذا يأكل الإنسان؟ بهذا القدر، فلو كان الذي أمامك بهذا القدر، أو كانت موائد مستطيلة طويلة فالنتيجة واحدة أنك وجدت ما يحصل به الشبع، فهذا كله من النعيم، بل أكثر من هذا الله في الحديث القدسي: ألم نروِّك من الماء البارد؟[8] الماء البارد من النعيم الذي يسأل عنه الإنسان.

كل هذا يحتاج إلى شكر وإلا فإن النعم تتلاشى وتذهب وترحل إذا ما شُكرت، ولا زالت البيوت القديمة تذكر بحال كان الناس عليها، فالبطر ليس من صفات أهل الإيمان وأهل التقوى.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة البقرة:57] هم ببطرهم هذا ما ظلموا الله -تبارك وتعالى- ولكن الجناية كانت عليهم هم، فالإنسان يظلم نفسه حينما يتعدى حدود الله، ويكفر بنعمته، أو يظلم نفسه، صاحب المعاصي، صاحب الفجور لا يظلم ربه فالله غني عن الخلق وعن عبادتهم لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا[9] فالله غني عن الناس وعن عبادتهم.

ثم أيضًا تأمل قوله: وَمَا ظَلَمُونَا هو هل يستطيع الناس أن يظلموا الله ؟

الجواب: لا، هم أضعف من ذلك، فهذا يدل على قاعدة لها شواهد ودلائل، وهي: أن نفي الفعل لا يدل على إمكان الوقوع. وَمَا ظَلَمُونَا فلا يمكن لأحد أن يظلم ربه -تبارك وتعالى- نفي الفعل لا يستلزم إمكانه.

وأيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة البقرة:57] هو كان يخاطبهم يقول لهم: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ مخاطَب وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [سورة البقرة:57] بصيغة الخطاب هنا امتنان ناسب أن يخاطبهم بذلك، لكن لما أعرضوا جاء الالتفات إلى الغائب وَمَا ظَلَمُونَا ما قال: وما ظلمتمونا وَمَا ظَلَمُونَا فهذه الجنايات التي حصلت منهم اقتضت الإعراض عنهم والإغفال لهم، فتعدد هذه القبائح لغيرهم، صاروا يتحدث عنهم، تحول الخطاب من المخاطبة: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ بعد جحودهم وكفرهم وعتوهم صار الحديث لغيرهم: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة البقرة:57] أغفلهم لأنهم لا يستحقون المخاطبة والاهتمام، وهم في هذه الحال.

وهكذا أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَمَا ظَلَمُونَا هذا فعل ماضي وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ هذا فعل مضارع، فجمع بين الماضي والمضارع، فيدل على أن الحال السابقة للأسف مستمرة، فهم على نفس المهيع والنهج من العتو والظلم وكفر، الكفر بنعم الله -تبارك وتعالى.

وتأمل الاستثناء: وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ جاء قبله نفي وَمَا ظَلَمُونَا ثم جاء بعده إيجاب أنهم كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فحينما كانوا بهذه المثابة جاء هذا الاستثناء: وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ جاءت هنا "لكن" يعني: أن هذا الظلم لم يقع على الله -تبارك وتعالى- طيب إذن أين ذهب؟ الواقع أنه تحول إليهم وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

قد يقول قائل: لو قال: وَمَا ظَلَمُونَا هذا نفي، إذن ظلموا أنفسهم، فقال: وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فالنفس تبقى متطلعة متشوفة لمعرفة من وقع عليه الظلم حينما نفاه عن نفسه -تبارك وتعالى- فبين أنه واقع بهم.

فهنا: وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فقدم المعمول، الأصل في الكلام: ولكن كانوا يظلمون أنفسهم، مفعول به، يظلمون أنفسهم، فقدمه: وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فهذا يدل على أن هذا الظلم الذي يمنى به ويقع عليه إنما هي هذه النفوس الظالمة العاتية على ربها، وذلك يدل أيضًا على الحصر أنهم لا يظلمون غيرهم، الواقع أنهم يظلمون أنفسهم، فهذا المسكين الذين يجني الجنايات ويفعل الموبقات نقول: لا تُكثر على نفسك، ترى يا مسيكين تحمل على ظهرك، لا تُكثر، حاسب وشوف ماذا حملت، وانظر كيف تتخفَّف منه أو أن تُسقِط ذلك جميعًا، ترى تُكثر على نفسك، فحينما تتغامز وتضحك وتسخر ممن ينكر عليك، أو ينصحك، أو نحو ذلك، أو تتبجح أو، لا، ترى هي عليك يعني ليس أحد ثاني، أنت الذي ستحملها فارفق بنفسك وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [سورة الإسراء:13] الطائر العمل هنا وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ۝ اقْرَأْ كِتَابَكَ [سورة الإسراء:13، 14] كتاب مفتوح منشور كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ۝ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [سورة الإسراء:14، 15] القضية لا تتعلق بزيد وعمرو، أو إذا تبت وأحسنت حالك مع الله أنك تحسن إلى الله أو تحسن إلى الآخرين، لا، فأنت تحسن إلى نفسك.

ثم انظروا إلى هذه الترتيب في هذه الآيات، تناسق آخذ هذه القضايا آخذ بعضها بحُجز بعض، فالله -تبارك وتعالى- ذكر الإنجاء من سوء العذاب، تذبيح الأبناء واستحياء النساء، وإخراج موسى لهؤلاء من مصر، ثم فرق البحر بهم، وكذلك أيضًا أن الله أراهم هذه الآية، وكذلك ما حصل من إيتاء التوراة لموسى وما حصل من هؤلاء من عبادة العجل والعفو عنهم وهكذا، ثم جاءت هذه النعم التي أنعم بها عليهم، والله سبحانه لما ذكر هذه النعم: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ [سورة البقرة:56] وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [سورة البقرة:57] أضاف ذلك إلى نفسه، ولما ذكر العقوبة: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [سورة البقرة:55] ما قال: فأخذناكم بالصاعقة، وهذا فيه إضافة الأشياء من النعم ونحوها إلى الله والأمور الأخرى من العقوبات ونحوها قد يُبهم الفاعل، مع أن الجميع من الله .

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب المن شفاء للعين، برقم (5708)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب فضل الكمأة، ومداواة العين بها، برقم (2049). 
  2.  انظر: التذكرة في الوعظ (ص:21). 
  3.  مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (2/ 54).
  4.  انظر: سير أعلام النبلاء (11/ 320). 
  5.  انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 219)، ومجموع الفتاوى (21/ 534). 
  6.  أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب كيف كان عيش النبي ﷺ وأصحابه، وتخليهم من الدنيا، برقم (6459)، ومسلم، في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2972). 
  7.  أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، وبتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، برقم (2038).
  8.  أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب ومن سورة ألهاكم التكاثر، برقم (3358)، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (5196). 
  9.  أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577). 

مواد ذات صلة