بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يقول الله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] ولقد علمتم يا معشر اليهود ما حلَّ من العقوبة والبأس والنكال بأسلافكم من أهل القرية التي عصت الله -تبارك وتعالى- فيما كان عليهم من تعظيم يوم السبت بترك الاشتغال وألوان المزاولات والأعمال من التجارات والمهن والصنائع وغيرها، فاحتالوا لقلة صبرهم وشدة طمعهم احتالوا في الاصطياد في ذلك اليوم الذي ابتلاهم الله -تبارك وتعالى- فيه، فصارت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعًا، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، في يوم السبت تكون هذه الحيتان قريبة الأخذ سهلة الاصطياد، ظاهرة يرونها عيانًا، وفي غير يوم السبت تذهب في لجة البحر لا يرون منها شيئًا، ولا يتمكنون من صيدها، فاحتالوا بهذه الحيلة بوضع الشِّباك، وحفر البرك قبل يوم السبت، نصبوا ذلك في يوم الجمعة ثم بعد ذلك أخذوه في يوم الأحد، هكذا احتالوا على هذا المنع، وتوصلوا إلى مطلوبهم بهذه الحيلة، ولكن الذي يتعامل مع ربه -تبارك وتعالى- ينبغي أن يكون فطنًا حذرًا تقيًّا لا يتعامل معه بالغش والاحتيال؛ لأن الله -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه خافية.
يؤخذ من هذه الآية من الفوائد والهدايات من قوله : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ فهنا دخلت اللام وقد، هذه تفيد التوكيد بلا شك، ويحتمل أن يكون ذلك أيضًا جوابًا لقسم محذوف، والله لقد علمتم الذين اعتدوا في السبت، وما جرى لهم من العقوبة والنكال، وذلك أن مثل هذا الخبر يحتاج إلى توكيد؛ لأن عاقبتهم فيه كانت في غاية القبح، حيث مسخوا إلى قردة، وذلك مظنة أن ينكروا ذلك، وأن يكابروا فيه، كيف مُسخ بعض أوائلهم إلى قردة.
فهذه -نسأل الله العافية- لا شك أنها عقوبة ليست كالعقوبات، قد يعاقب الإنسان بالهلاك بالموت ولكن حينما يمسخ إلى قرد فهذا في غاية النكال، فربما ينكرون ذلك فجاء بهذا التوكيد: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ لا مجال للإنكار، فالله -تبارك وتعالى- الذي مسخهم هو الذي يؤكد هذا الخبر بهذا الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ثم قال: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ السبت يكون بمعنى القطع فهم ينقطعون عن أشغالهم وأعمالهم ومزاولاتهم، فصار ذلك سواء قيل: بأنهم هم الذين جعلوا ذلك على أنفسهم فأقرهم الله عليه وألزمهم بمقتضاه، أو قيل غير ذلك، المقصود أن الله -تبارك وتعالى- حاسبهم على عدوانهم في يوم سبتهم، فهذا السبت يحرُم عليهم فيه البيع والشراء والعمل والكسب فيتوقفون عن ذلك كله، هو بالنسبة إليهم يوم معظم.
فالمسلمون كما أخبر النبي ﷺ قد هداهم الله ليوم الجمعة[1] أضل عنه اليهود فصار يومهم السبت، وأضل النصارى وهم أضل من اليهود فصار المساكين لهم يوم الأحد، يوم السبت قد يقال: له وجه بالنسبة لليهود، قد يقولون، قد يبررون، قد يحتجون مع أنه لا مجال لهذا الاحتجاج؛ لأن الوحي بيّن أنهم قد ضلوا، ولكن ضلال اليهود دون ضلال النصارى، فيوم السبت هو اليوم الذي لم يكن فيه الخلق، فالله -تبارك وتعالى- خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فكان منتهى الخلق هو يوم الجمعة، وفي آخر ساعة منه خلق الله آدم واكتمل الخلق، ويوم السبت لم يكن فيه خلق، فقد يقول اليهود باعتبار أن هذا اليوم لم يكن فيه خلق يكون بالنسبة إليهم يتفرغون فيه للعبادة ونحو ذلك، ولا يزاولون أعمالهم ونحو هذا، مع أن هذا باطل.
وأما النصارى فجعل اليوم الذي يعظمونه هو يوم الأحد، فهذا لا وجه له إطلاقًا، ولكن هذا يتفق مع قوم إذا ذكر الضلال ذكروا، والعجيب أن يوجد في هذه الأمة الكاملة من يتشبه بهم ويحاكيهم، ولله في خلقه شؤون.
فالذي يتشبه بهؤلاء الضالين يكون أضل من الضالين؛ لأنه جعلهم قدوة، ومن جعل الغراب له دليلاً فإنه يطوِّف به على الجيف، مع أن المسلمين وما هداهم الله إليه في هذا اليوم يوم الجمعة لا يجوز لهم أن يتوقفوا عن أعمالهم، وفرق بين أن يكون يوم الجمعة يوم إجازة لا يذهب الناس فيه إلى وظائفهم أو مدارسهم فهذا لا إشكال فيه أن يحدد يوم يناسب الناس؛ ليتفرغوا لشؤونهم الخاصة مثلاً، ولا شك أن يوم الجمعة هو أنسب الأيام من أجل أن يتفرغ الناس للصلاة، وأن يبكروا لها، لكن فرق بين هذا وبين ما كان عليه اليهود، اليهود لا يزاولون عملاً ديانة، الأمة لا يجوز لها أن تفعل هذا، بمعنى أن الإنسان يقفل متجرة، الناس يقفلون المتاجر، تقفل الأسواق لا بيع لا شراء ولا مهن ولا أعمال ولا صيد ولا غير ذلك، هذا لا يوجد في هذه الأمة، ولا يجوز لأحد أن يترك الأعمال تدينًا في يوم الجمعة.
ففرق بين أن يكون يوم إجازة من الأعمال أو الدراسة الرسمية، وبين أن يكون الترك المطلق لكل مزاولة ومهنة وعمل وتجارة تقربًا إلى الله -تبارك وتعالى- وتعظيمًا لهذا اليوم، فإن الله -تبارك وتعالى- يقول: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [سورة الجمعة:10] يعني: صلاة الجمعة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [سورة الجمعة:9] بعدما قال: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [سورة الجمعة:9] بعد ذلك فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [سورة الجمعة:10].
فهذا الانتشار على الأرجح الانتشار كما قال بعض السلف كابن عباس وغيره لصلة الرحم وطلب العلم[2] ويدخل فيه أيضًا الانتشار لطلب الرزق والبيع والتجارة الذي منعهم في أول الأمر منه إذا نودي النداء الثاني، الذي يكون بين يدي الخطبة: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وذكر الله هنا يشمل الأمرين على الراجح الخطبة والصلاة؛ لأنهم حينما يذهبون بعد هذا النداء سيستمعون الخطبة، فهي داخلة فيه: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وهذا أمر للإباحة بعد المنع، والراجح أن الحكم يرجع فيه إلى ما كان عليه قبل ذلك.
الأمر بعد الحظر يرجع فيه الحكم إلى ما كان عليه قبل الحظر، فكان حكم البيع والشراء ونحو ذلك قبل النداء الثاني للجمعة مباحًا، وبعد النداء صار محرمًا، ثم قال: فَانتَشِرُوا فهذا يرجع الحكم فيه إلى مكان قبل الحظر، هذه القاعدة في هذا الباب.
إذن هذه الآية في سورة الجمعة تدل على أن الأعمال والتجارات وطلب الرزق والكسب وما إلى ذلك أنه لا إشكال فيه في يوم الجمعة، وهذا أمر معلوم مقطوع به من هدي النبي ﷺ وهدي أصحابه وعملهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- وهكذا بقي الحال في هذه الأمة إلى يومنا هذا.
ثم أيضًا هذه العقوبة: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] ذكرنا في بعض المناسبات أن العقوبات في القرآن في كثير من المواضع تأتي موافقة ومجانسة ومناسبة للذنب والجرم الذي اجترحه الناس، فهنا هؤلاء فعلوا شيئًا في صورة المباح وحقيقته المنع والتحريم، فوضعوا الشباك يوم الجمعة وأخذوها يوم الأحد، قالوا: نحن يوم السبت وضعنا رجلاً على رجل ولم نحرك ساكنًا، وما صِدنا شيئًا، وعظّمنا يوم السبت ولم نقارف فيه ما يخل بتحريمه وتعظيمه.
الصورة ككثير من المعاملات التي يقال عنها: بأنها معاملات إسلامية، قروض وما إلى ذلك، وهي في واقعها حيل على الربا، الصورة بيع وشراء نبيع لك سلعة من السلع، ماذا تريد؟ أنا أريد قرضًا، أريد مائة ألف، لا بأس، نحن نبيع لك سلعة ثم نبيعها بالنيابة عنك في السوق العالمية السوق الدولية السوق الكذا، نقسطها عليك بمائة وعشرين ألف، ثم نبيعها لك وتفضل هذه المائة ألف، تريد مائة ألف ورجعها مائة وعشرين، أنا لا أريد سلعة أنا لا أريد حديد، ولا أريد خشب، أنا أريد مائة ألف، تريد قرضًا حسنًا، هذا لا يتأتى، إذن ما العمل؟ العمل نبيعك سلعة ولو كنت لا تريدها، نحن نبيعها بالنيابة عنك نقسطها عليك ثم ادفع أقساط مائة وعشرين ألف، ما الفرق بين هذا وبين الربا؟
تطويل القضية وحديد وبيع وأنا لا أريد الحديد وهم يعرفون هذا جيدًا، وأنا أعرف هذا جيدًا، مباشرة هات مائة ألف وخذ مائة وعشرين مقسطة، وأرح نفسك من هذا العناء الطويل، فما الفرق بين الربا الصريح والحيلة على الربا، توصل إلى مطلوبه بهذه الزيادة المحرمة بهذه الطريقة، سماه بيعًا، وقل مثل ذلك في أنواع الحيل كالعينة بيع العينة ونحو هذا.
الشاهد: أن هؤلاء جاءت عقوبتهم مناسبة لجرمهم وفعلهم، فهم جاؤوا بشيء صورته الإباحة وفي حقيقته المنع والحظر والتحريم، الصورة لا غبار عليها في الشكل الظاهر إذا أخذنا بالظواهر، لكن في الباطن ليس كذلك، فمسخوا، فالقرد في صورته فيه شبه من الآدمي وإن كان أصل الآدمي ليس بقرد قطعًا، الله يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين:4] وأحسن تقويم هذا يشمل الصورة الظاهرة والصورة الباطنة على الفطرة.
ولا يمكن أن يقال: بأن أصل الإنسان يرجع إلى أنه قرد، ونظرية دارون هذه نظرية كاذبة كافرة مكذبة للقرآن، والله أخبرنا عن خلق آدم حينما خلقه في أحسن صورة، يوسف الذي قطَّع النساء أيديهن حينما رأينه ذهلن وبدلاً من أن يقطعن الفاكهة قطَّعن الأيدي، دون أن يشعرن من الذهول من حسنه: وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [سورة يوسف:31، 32] رأيت ما لا صبر لي عنه.
لاحظ هذا الجمال الذي أعطي شطر الحسن ليوسف آدم أجمل من يوسف بقدر الضعف، وهؤلاء يقولون: إن أصل المخلوقين يرجع إلى قرد، ونظرية التطور هذه لا تقف عند هذا أن أصل الإنسان قرد، هي نظرية شاملة في جوانب مختلفة في الحياة، ومراحل الحياة، وأطوار الحياة، فيقولون: العصر البدائي والعصر البرونزي والعصر الحجري، والعصر الكذا، هذا كله كذب، الله يقول عن الأمم المهلكة حينما خاطب قريشًا يقول: وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ [سورة سبأ:45] يعني الذي عند قريش ليس بشيء، بالنسبة لما أوتيته تلك الأمم الممكنة القوية، وكان الناس على التوحيد عشرة قرون حتى وقع الشرك في عهد نوح فكيف يقال هؤلاء، ونظريتهم لا تقف عند هذا.
هم يقولون: إن العالم لجأوا إلى أشياء من الوهم والخرافة والخيال، وثم بعد ذلك السحر، ثم بعد جاءت فكرة -قبحهم الله- يقولون: جاءت فكرة عبادة الله لأن الإنسان ضعيف ويخشى من الطبيعة فيبحث عن شيء يحتمي به، يقولون: الآن الإنسان قهر الطبيعة وساد في هذا الكون، فهذا آخر ما توصل إليه الإنسان من القوة والتمكين والحضارة والرقي، والإلحاد.
ورأيتم عاقبة الملحدين ودولة الملحدين كيف تهافتت في مدة لم تتجاوز الثمانين سنة، وهذا من أعجب الأشياء، دولة ضخمة كانت تحتل مساحة هائلة في الخريطة، من نظر إلى الخرائط التي لربما لم تجاوز الخمس وعشرين سنة يجد أن العالم في صورته وهيئته يختلف، ثم بعد ذلك تهافتت في أقل من ثمانين سنة، وهذا عمر في غاية القصر بالنسبة لأعمار الدول، ثم كيف كانت نهايتهم؟ والناس يرجعون حتى في تلك النواحي التي حملوا فيها الناس على الإلحاد، ومنعوا كل مظاهر الدين إلا فئة واحدة وهم اليهود تركوهم؛ لأن أصل هؤلاء أصحاب النظريات الإلحادية كانوا من اليهود، فتركوا اليهود بحجة أنهم وقع عليهم من الاستضعاف عبر القرون ما يكفي، فتركوهم يتعبدون كما شاءوا، والباقي ساموهم الخسف والذل، وقتل عشرات الملايين من البشر، وإذا رأيت بعض الصور القديمة ترى أكوامًا من البشر هائلة جثث فوق بعضها كالأهرام الضخمة تجرفهم الجرافات، هكذا فعلوا بهم، ثم ماذا كانت نهايتهم؟
كانت نهايتهم الزوال، ورجع أهل الأديان إلى أديانهم، رجع النصارى إلى دينهم، ورجع المسلمون إلى دينهم، ولما سقط الاتحاد السوفيتي سنة ألف وأربعمائة واثنا عشر للهجرة جاء وفد من بعض تلك الجمهوريات؛ لأنه تقسم إلى جمهوريات، جاء وفد من المسلمين من إحدى الجمهوريات رأيتهم في المدينة النبوية، جاءوا على الأقدام، على أقدامهم جاءوا من هناك إلى المدينة، فسألت رئيس الوفد: هل تفعلون ذلك تقربًا إلى الله؟ كنت أريد أن أبين لهم أن هذا لا يشرع، قصد المشقة والعناء، أنكم تتقصدون المجيء إلى الحج على الأقدام، قال: لا نحن لا نتقرب إلى الله بهذا.
قلت: إذن ما الذي حملكم على هذا المشي لهذه المسافات الشاسعة؟
قال: غُيِّبنا عن مكة ثمانين سنة فأردنا أن نعلن للعالم أجمع أننا ما نسيناها، وأن آباءكم الذين جاءوا على الجمال حتى نقلوا إلينا الإسلام نحن نأتيكم ولو حبوًا، فأتيناكم على أقدامنا، فلما سمعت هذا الرد سكتُّ، وهذا لا أنقله رواية عن أحد سمعته منه مباشرة.
فالمقصود: أن الناس رجعوا إلى أديانهم، ولهم في هذا أحوال وأخبار كثيرة في رجوعهم وحرصهم وفرحهم وشدة تشوقهم لمعرفة أحكام الشرع، كان بعض طلاب العلم الذين زاروهم في تلك السنة إذا هموا بزيارة ناحية أو قرية أو مدينة أو نحو ذلك خرج كثير من الناس إلى ظاهرها ينتظرونهم، ولربما بقوا يومًا وليلة ينتظرون خارج البلد ينتظرون هؤلاء يقدمون عليهم، إلى هذا الحد.
وكان بعضهم قد أخذ معه أوراق ووضع عليها أوراق ووضع عليها خرق وربَّطها بخيوط ثم عرضها يظن أنها من القرآن وإذا هي صحيفة روسية تكتب بالحروف العربية، وجدها ظن أنها قرآن، وباقية محفوظة عنده سنين طويلة وهو لا يدري ما بها.
فأقول: انظروا كيف كانت عقوبة هؤلاء الذين احتالوا على هذا الحظر، ويؤخذ من هذا تحريم الحيل، وأن المتحيل على الشرع لا يخرج عن وصف العدوان لقوله: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [سورة البقرة:65] فهذا عدوان على حدود الله -تبارك وتعالى- وشرعه، وهذا التوبيخ المتوجه لليهود الذين كانوا في زمن النبي ﷺ وقد علموا ما حل بأسلافهم بسبب هذا العدوان، فذلك من أجل أن يرتدعوا ويتعظوا؛ لئلا يحل بهم ما حل بأولئك، والسعيد من وعظ بغيرة، والشقي من وعظ بنفسه -نسأل الله العافية.
ويذكر في الأخبار الإسرائيلية أشياء، نحن نقول: الله أعلم بها، يقال: إن هذه القرية لما جاء أهل النواحي الأخرى قد مسخوا جميعًا، أعني أهل تلك القرية، أن الواحد منهم كان يأتي إلى قريبة ممن لم يمسخ إذا رآه عرفه، ثم بعد ذلك يحتضنه ويبكي وهو قرد، لكن لا يقال: بأن هؤلاء اليهود أنهم أحفاد القردة؛ لأن النبي ﷺ أخبر: إن الله لم يجعل لمسخ نسلا[3] يعني إذا مُسخ شيء، إذا مُسخ أحد من الناس بصورة شيء من هذه الدواب والبهائم والحيوانات ونحو ذلك لا يكون له نسل، يعني ينقرض مباشرة، أولئك الذين مسخوا لا يتناسلون.
وقد كان النبي ﷺ قال حينما ذكر الفأرة، كان يشك النبي ﷺ أنها أمة من بني إسرائيل مسخت، وأنها ذهبت أمة من بني إسرائيل لا يدرى أين هي؟!، فكان النبي ﷺ ينظر إلى حال وصف هذه الفأرة من ناحية اللبن، ونحو ذلك، يعني النبي ﷺ رأى فيها بعض أوصاف اليهود[4] لكن هذا قبل أن يوحى إليه: أن الله لم يجعل لمسخ نسلاً.
كذلك لما وضع الضب على مائدته ﷺ لم يأكل منه[5] والنبي ﷺ نظر إلى أصابعه وعدها خمسة أصابع، فكأن النبي ﷺ خشي أن يكون مما مُسخ، لكن هذا قبل أن يُوحي إليه ربه -تبارك وتعالى- بما سبق أنه لم يجعل لمسخ نسلاً.
إذن أولئك الذين مسخوا إلى قردة لم يكن لهم نسل، فهذه القردة التي نشاهدها الآن ليست من نسلهم، فالقردة كانت معروفة قبل هؤلاء، قبل المسخ، ومعروفة أيضًا في ذلك الحين الذي مسخوا فيه، والتي وجدت بعدهم لم تكن من نسلهم بحال من الأحوال، وإنما هذه خَلْق مستقل خَلَقه الله هكذا.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، برقم (876)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، برقم (856).
- انظر: تفسير البغوي (8/ 123).
- أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر، برقم (2663).
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، برقم (3305).
- أخرجه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب إباحة الضب، برقم (1949).