بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فنواصل الحديث عما قص الله -تبارك وتعالى- من خبر بني إسرائيل، حيث ذكَّرهم الله -تبارك وتعالى- بتلك الأمة من بني إسرائيل الذين اعتدوا في السبت فجعلهم الله قردة خاسئين.
يقول الله -تبارك وتعالى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:66] جعلنا هذه القرية وجعلنا ما جرى لأهلها عبرة وعظة لمن بحضرتها من القرى الذين بلغهم خبر هؤلاء الممسوخين وما حل بهم فيكون ذلك عظة للمذنبين المسيئين المحتالين على حدود الله -تبارك وتعالى- وأحكامه وشرائعه، ويكون ذلك تبصرة وذكرى للمؤمنين، فيكون ذلك مدعاة لثباتهم، ولزومهم صراط الله المستقيم.
ويؤخذ من هذه الآية التي جاء التعقيب بها على هذا الخبر المجمل عن أولئك الذين مسخوا: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:66] أن العقوبات وما فيها من التنكيل تكون عظة وعبرة تردع المذنب ولربما استأصلته، وتكون أيضًا زاجرة لغيرة ممن تسول له نفسه أن يفعل فعله، فالسعيد من وعظ بغيره والشقي من وعظ بنفسه، هذه العقوبات منها ما يكون من قبيل الحدود، ومنها ما يكون من قبيل النكال الذي ينزله الله بالظالمين، سواء كان ذلك على سبيل العموم بأمة ينزل بها العذاب، إما أن يكون العذاب مستأصلاً، وإما أن يكون دون ذلك.
وكذلك أيضًا ما يقع للأفراد بسبب جناياتهم وذنوبهم، وهذا يعرفه كل أحد من نفسه، وكثيرًا ما يرد هذا السؤال من قبل بعض من يبتلى نسأل الله العافية للجميع: كيف يعرف أن هذا من قبيل العقوبة أو من قبيل الابتلاء الذي يكون لأهل الإيمان؟
ويمكن أن يكون الجواب في ذلك على سبيل الإيجاز: أن ما نشأ عن العقوبة أو تولد عنها، ما نشأ عن المعصية أو تولد عنها فالظاهرة أنه من قبيل العقوبة، فهذا زنى فأصيب بداء عضال لا يرجى برؤه، وهذا سكر فوقع له مكروه سقط في بئر، أو صُدم أو غير ذلك، وهذا لربما فعل شيئًا من هذه الأمور المحرمة بكونه قد خرج مغاضبًا لأبويه، أو لأحدهما فوقع له مكروه في مخرجه وغضبته تلك.
وهكذا هذا الذي يدخن -أعزكم الله - ومن يسمع ثم بعد ذلك يصاب بالسرطان في رئته أو في البلعوم فمثل هذا المظنون أنه عقوبة معجلة، يعني الذي يصاب بمرض من هذه الأمراض -نسأل الله العافية للجميع- يقال: هذا ابتلاء من الله، والله -تبارك وتعالى- لا يقضي لعبده المؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وهذا يكون رفعة لك في درجاتك، وتكفيرًا لسيئاتك، ونحو ذلك، لكن الذي يكون المرض هو بسبب الذنب والمعصية يقال له: تب إلى الله هذه عقوبة معجلة، اتق الله، وهذا الذي يؤسف على مثله ويُحزن لحاله أن عُجل له في عقوبته مع أن ذلك أخف من التأجيل في الآخرة، المهم أن ما تولد من المعصية أو نشأ عنها فالظاهر أنه من قبيل العقوبة، هذا النوع الأول.
النوع الثاني: ما نشأ عن الطاعة أو تولد عنها، فإن ذلك يكون من قبيل الابتلاء لأهل الإيمان الذي يكون تكفيرًا لسيئاتهم، ورفعًا لدرجاتهم؛ لأن ما يحصل من البلاء والمكروه والمصائب أنها ليست مجرد تكفير سيئات بل هي رفع في الدرجات، كما صح ذلك عن رسول الله ﷺ كالذي ذهب إلى الحج فمرض أو وقع له حادث، أو كُسر، أو نحو هذا.
وكذلك أيضًا لو أن أحدًا من الناس اعتكف فمرض بسبب تغير المكان، بسبب برودة غير معتادة بالنسبة إليه، أو نحو هذا، فمثل هذا يكون من جملة عمله، ويكون زيادة في حسناته.
النوع الثالث: ما لم يتولد من الطاعة ولا من المعصية، فهذا يُنظر إلى حال العبد، فإن الغالب عليه الاستقامة والخير والطاعة ونحو ذلك رُجي أن يكون ذلك من قبيل الابتلاء الذي يكون لأهل الطاعة أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل[1] وإذا كان الغالب عليه خلاف ذلك فيخشى أن يكون ذلك من قبيل العقوبة المعجلة، هذه ثلاثة أنواع.
بعد ذلك نرجع إلى هذه القضية، وما يكون في العقوبات الإلهية من العظات والعبر والزجر سواء كانت كما سبق بنكال يُنَّزله الله وعذاب من عنده، أو كان ذلك من قبيل الحدود الشرعية، فالله -تبارك وتعالى- يقول: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النور:2] فبدأ بالزانية أقوال للمفسرين والأقرب -والله تعالى أعلم- باعتبار أن مبدأ الزنا إنما يكون من المرأة بترخيم صوتها أو تبرجها وتكسرها وتغنجها ونحو ذلك، ولهذا قال الله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ [سورة الأحزاب:32] يعني: أنتن أشرف من غيركن من النساء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا [سورة الأحزاب:32] قال: فَلا تَخْضَعْنَ ثم قال: فَيَطْمَعَ الفاء هذه تدل على التعليل وترتيب ما بعدها على ما قبلها فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ.
إذًا ترخيم الصوت والغنج مباشرة أصحاب القلوب المريضة هؤلاء تصغي قلوبهم لهذا، وتنجذب إليه، والمرض المقصود به هنا الميل المحرم إلى النساء، مع أن غالب المواضع في القرآن إن لم يكن جميع المواضع إذا ذُكر المرض فهو النفاق، وفي بعض المواضع النادرة يحتمل أنه ضعف الإيمان، كقوله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12] فيحتمل أن ذلك؛ لأن العطف يقتضي المغايرة فيكون الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين.
الشاهد: أنه بدأ بالمرأة الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي بينما في السرقة وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [سورة المائدة:38] باعتبار أن السرقة تحتاج إلى جرأة، فهي في الرجال أكثر.
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [سورة النور:2] كُلَّ وَاحِدٍ لو قال: فاجلدوهما مائة جلدة، ظن الظان أنها منصَّفة كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة النور:2] رأفة: رحمة رقيقة، رأفة أرق الرحمة تسمى الرأفة.
فِي دِينِ اللَّهِ أي: في حكمه وشرعه، بتخفيف الحد؛ تخفيف يعني في صفة الضرب، أو تقليل بعدد الجلد، كأن يقال: يُكتفى بعشر بدلاً من المائة، هذه امرأة ضعيفة ما تحتمل مسكينة، هذا رجل كبير في السن، هذا مريض هذا هزيل، لا، مائة.
وكذلك أيضًا بالإسقاط وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إسقاط الحد أو تخفيف في الصفة، صفة الجلد، أحيانًا يكون مجرد تحلة قسم، هذا لا يصح، وكذلك أيضًا تقليل العدد.
إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ [سورة النور:2] هذا أمر، والأمر للوجوب وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إذن لازم أن تقام الحدود في مكان عام، ويحضر طائفة على خلاف في الطائفة التي تحضر هل يشترط أن لا يقل العدد عن أربعة باعتبار أنه أقل ما يكون في شهادة الزنى، كما قاله جمع من المفسرين واستحسنه أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله[2] أو أن ذلك يكون بثلاثة باعتبار أنه أقل الجمع على المشهور عند الجمهور، أو يكفي في ذلك اثنان كما يكون الشهادة عمومًا، وعلى أنه أقل الجمع كما قال صاحب المراقي:
أقل معنى الجمع في المشتهر | اثنان عند الإمام الحميري[3]. |
يعني الإمام مالك -رحمه الله- وفي قوله تعالى في المواريث: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [سورة النساء:11] في حجب النقصان من الثلث إلى السدس، وبالاتفاق يحجبها هذا الحجب وجود اثنين من الإخوة للميت، فقال: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ.
المهم أن هذا الحضور لهذه الطائفة أيًّا كان العدد على خلاف من أجل ماذا؟ بعض المفسرين يقولون: من أجل أن يرتدع الحضور، ليكون زجرًا لهم من هذه المقارفات، إذا رأوا مثل هذا يُجلد أو يُرجم يبقى هذا الذي شاهد هذا يُرجم حتى ينزف ويموت ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، وإذا ذكرت الفاحشة صار يستفرغ -أعزكم الله- هنا يحصل الردع، وتصير الفاحشة في غاية الكراهة والمقت والقبح، لا أن النفوس تشتاق واللعاب يسيل ويتحين أصحاب القلوب المريضة الفرص، ويبحث هنا وهناك، وإذا مرت امرأة تمشي بمشية غير عادية تبعها أسراب من هؤلاء المرضى طمعوا فيها، فمثل هذا يكون كما يقول العامة: هذا المشهد الذي شاهده: "إزاوله". يعني يتراءى له دائمًا، فلا تحدثه نفسه بريبة أو فاحشة.
والأقرب -والله أعلم- أن ذلك ليس فقط لردع هؤلاء الحضور وإنما أيضًا لزيادة النكال لهذا المحدود، ومعلوم أن الكثيرين ممن لديه بقية من حياء أو مروءة أو ماء وجه لا شك أنه يتمنى أن يضاعف عليه الضرب والجلد بدلاً من المائة أربعمائة على ألا يراه أحد، لكن حينما يقال: نأتي بك عند الجامع في السوق وتجلد، فهذا أشد في النكال، ولو كانت ضربة واحدة أمام الناس يشاهدونه، وهذا فلان، ونحو ذلك، هذه لا شك أنها نوع من التشهير به، فهذا يردع النفوس.
فهنا هذه العقوبة عقوبة المسخ المذكورة في هذه الآية: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا [سورة البقرة:66] بحضرتها من القرى، ما جاورها، من بلغهم الخبر هؤلاء صاروا قردة.
وَمَا خَلْفَهَا من يأتي من بعدهم ممن يبلغهم الخبر.
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ يتعظون بها، فإن الموعظة تارة تكون بالمشاهد، وما يقع وما يجري فإن أهل الإيمان يتعظون ويعتبرون بكل ما يشاهدونه.
وكذلك أيضًا تكون الموعظة بما يُسمع، والله لما قص أخبار الأمم التي أنزل بها بأسه قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [سورة ق:37] على القولين المشهورين في الآية، فالجمهور من المفسرين يقولون: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ إن الـ "أو" هذه بمعنى الواو، يعني له قلب حي وقّاد مع إحضار قلبه عند السماع والإنصات لما يُلقى، فهذا الذي تحصل له الموعظة إذا استجمع هذه الأوصاف الثلاث، صاحب قلب حي ما طبع على قلبه، وأحضر قلبه لم يكن قلبه مشغولاً حينها بشيء آخر، وأحضر سمعه، فهذا يتعظ وينتفع.
وعلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[4] وقول الحافظ ابن القيم[5]: أن "أو" هذه للتنويع إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ هذا القسم الأول النوع الأول وهو صاحب الفطنة والقلب الكامل كامل الحياة، فهذا يتعظ بأدنى إشارة بأدنى تنبيه لا يحتاج إلى شرح ولا تفصيل ولا تركيز ولا، كما قيل: الحر تكفيه الإشارة إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ.
القسم الثاني: هو الذي فيه نوع بطء وتأخر في الفهم والاتعاظ والاعتبار، هذا يحتاج أن يُحضر قلبه وأن يُركز مع الملقي، فهذا ينتفع ويحصل له بذلك الذكرى.
ثم تأملوا: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:66] أن هذا هؤلاء الذين وعظ الله بهم ونكَّل بهم ما الذي أوجب لهم ذلك من أجل أن يرتدع الناس عن فعلهم؟ هو التحايل على أحكام الشرع نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا كل من يأتي إلى يوم القيامة، تحايلوا فانظر إلى نوع العقوبة المسخ، وهم حينما صاغوا هذه المزاولات بصيغة عمل لا غبار عليه كأنه يوافق المشروع أو المباح قلب الله صورهم فحولها إلى صورة القردة.
هذا بالإضافة إلى ما يتحلى به القرد كما قد علمتم من كثرة العبث، وما تعلمون من أخلاق هذه المخلوقات، فإنه فيها صفات سيئة وذميمة معروفة، فقلبهم الله إلى هذه الحال، فيحذر المؤمن من أن يستحل محارم الله -تبارك وتعالى- بأدنى الحيل، فهذا من أسباب العقوبات كما ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- كلام على هذه المسألة في كتابه: "بيان الدليل على بطلان التحليل"[6].
ثم أيضًا: وَمَوْعِظَةً لمن؟ لِلْمُتَّقِينَ فيؤخذ من هذا أن الذين يتعظون ويعتبرون وينتفعون بالمواعظ سواءً كان ذلك في الكتاب المتلو أو كان ذلك في صفحة الكون والآفاق وما يقع فيها، فإن ذلك إنما يكون للمتقين، وكما قلنا مرارًا: بأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه.
فيؤخذ منه أنه بقدر ما يتحلى به الإنسان من تقوى الله يحصل الاتعاظ والاعتبار والانتفاع، فإذا ترحَّلت التقوى من القلب لا يتعظ ولو وقع له ذلك بنفسه لا يتعظ، يخرج من هذه العظة التي يعتبر بها أولو الألباب وكأن شيئًا لم يكن، كأنه ما وقع له ضُر، ولم يقع له مكروه، ولم يقع له عقوبة، والناس يعتبرون به، لكن هكذا القلوب إذا صارت إلى حال من استحكام الغفلة وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.
ومن ثَم فإن هذه الوقائع الكائنة في أرض الله الواسعة نقرأها ونسمعها والعالم كما يقال: اليوم أصبح كالقرية، بل أصغر من القرية؛ لأن الإنسان أحيانًا في القرية ولا يعرف بعض أخبارها، وتتوارد اليوم الأخبار إلى الإنسان وهو في بيته من كل ناحية، الخبر مباشرة ينتشر، أسرع من انتشار الخبر في القرية سابقًا.
فالمقصود أن ما يجري يحصل طوفان مدمر، زلزال هائل، هذا الذي يسمونه بتسونامي ونحو ذلك، يجتاح ترى السفينة تبرك على السطوح، سفينة تخرج من البحر كأنها قشة وتلقى على سطوح البنيان، أما السيارات فتطفو كالقش، والناس يتراكضون كأنهم الذر يريدون الفرار، وترى بعض الصور أحيانًا هل هي صور حقيقية أو صور مركبة، السيارات تذهب ثم يأتيها الطوفان مسرعًا ثم ترجع تعود مسرعة تطلب النجاة، يطلب أصحابها النجاة، ثم بعد ذلك يأتي الطوفان ويحمل هذه الطرقات والكباري والمباني ونحو ذلك التي تجري عليها الشاحنات ولا تتحرك ثم بعد ذلك تكون قشًا، بلحظات تراها تتطاير كأنها ورق، هذا وبعد أن يُقلع هذا الطوفان وينحسر البحر ترى آثار هؤلاء صار كهشيم المحتضر.
صارت مبانيهم وصارت أمورهم وأحوالهم ومساكنهم كهشيم المحتضر لا ينتفع به، إنما هو لون من العبء يحتاج إلى أموال طائلة من أجل إزالة لهذه الآثار، وهكذا ترون في بعض المشاهد زلزال ضخم يدمر مدينة كاملة، ثم بعد ذلك يذكرون أنهم بحاجة إلى ما لا يقل عن سنتين من أجل إزالة هذه الأنقاض المجتمعة، تحولت المدينة بكاملها إلى أنقاض، ثم تنظر هل من معتبر؟
هل من متعظ؟
هل رجع هؤلاء إلى الله ؟
هل آمن الكفار منهم؟
هل تاب أهل الإيمان من جرائمهم ومعاصيهم وذنوبهم؟
ترى الحال كما هي، يبيتون في العراء ثم بعد ذلك تُعلن حالات الطوارئ والاستغاثة، ويأتيهم المساعدات من هنا وهناك بعدما كانوا في عافية وغنى ودعة ورغد من العيش تحولوا في لحظات إلى هذه الحال.
ثم أين العبرة وأين العظة؟
هل صار هؤلاء إلى حال من الطاعة والانقياد والعبادة والتوبة إلى الله؟
الغالب أنه ليس كذلك، إذا كان فرعون ومن معه من ملأه لما أوقع الله بهم ما أوقع الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ماذا قالوا؟ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الأعراف:134] يعرفون وهم فراعنة، ويقول لهم: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [سورة النازعات:24] ويقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [سورة القصص:38] ويعرفون ادْعُ لَنَا رَبَّكَ وفي العصر الحديث لربما في بعض البلاد يعاقب الخطيب إذا قال: يا جماعة هذه عقوبة من الله، هذا الزلزال عقوبة من الله يُعاقب لماذا يقول: عقوبة؟
وقلِّب البصر وانظر فيما جرى خلال العشر السنوات الماضية، أو العشرين السنة الماضية، أو الثلاثين السنة الماضية فيما حولك من هذا العالم القريب والبعيد، وانظر إلى آثار هذه العقوبات، تجد الكثيرين أصلاً لا يُقر أن ذلك من الله، يقول: هذه أمور طبيعية، الطبيعة، ومن يُقر أنها من الله يقول: هذا ابتلاء لنا؛ لأننا أهل خير، ويكون مقابلة هذه النعمة بألوان الفسق والمعاصي، فيكون ذلك موسمًا حيث ردت إليهم عافيتهم يكون موسمًا لمزيد من العصيان والغفلة -والله المستعان.
وأسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا -والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم (2398)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم (4023)، وأحمد في المسند، برقم (1481)، وقال محققوه: "إسناده حسن من أجل عاصم بن أبي النجود، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين"، وبوَّب الإمام البخاري في صحيحه (7/ 115) "باب أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل"، وجود إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (143)، وصححه في صحيح الجامع، برقم (992).
- تفسير الطبري (17/ 149).
- نشر البنود على مراقي السعود (1/ 234).
- انظر: مجموع الفتاوى (6/ 246).
- الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/ 458)، والفوائد لابن القيم (ص: 3).
- انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 34).