بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسنواصل الحديث في الكلام على هذه الآيات التي قص الله -تبارك وتعالى- فيها خبر بني إسرائيل وما كانوا عليه من العنت والتمرد على الله -تبارك وتعالى- وعلى رسله، فذكر خبرًا جديدًا من أخبارهم ينضاف إلى ما ذكر قبله.
فقال الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة:67] هؤلاء يُذكِّرهم الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى واذكروا إذ قال موسى: يا بني إسرائيل، خاطبهم بهذا الخطاب: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً وذلك أنه قُتل قتيل فتدارءوا قتله، كل طائفة تتنصل منه وتضيفه إلى غيرها، كما سيأتي في آخر هذه القصة التي ذكرها الله -تبارك وتعالى.
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [سورة البقرة:72] يعني: تدافعتم فيها، فهذا الذي يقولون: إنه من المؤخر الذي يكون مقدمًا في الوقوع، يعني أُخر ذكره، وسيأتي ما يتصل بتأخير ذكره وما فيه من الفائدة، لكن من حيث الوقوع أنه وقع بينهم التدارؤ أولاً: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [سورة البقرة:72] فهذا كان قبل أن يؤمروا بذبح البقرة، عندها أمرهم موسى بوحي من الله أن يذبحوا بقرة، فهذا أمر صادر عن نبي كريم هو كبير أنبياء بني إسرائيل، ومع ذلك قابلوه بهذا العنت، بل بالاستكبار أولاً أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ أتتخذنا موضعًا للسخرية والاستخفاف؟ فاستعاذ بالله واستجار به أن يكون من الجاهلين.
هذه الآية: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فهنا أنهم أمروا بذبح بقرة، وبقرة هنا نكرة في سياق الإثبات، وهي بمعنى المطلق، بمعنى أنها تصدق على أي بقرة كانت، ومعلوم عند الأصوليين أن المطلق له شمولٌ بدلي، يعني سواء كان ذبح هذه البقرة أو هذه أو هذه أو هذه، كما يقال: اعتق رقبة، المطلوب اعتاق رقبة واحدة، فإذا اعتق هذه أجزأ وإذا اعتق هذه أجزأ، فالشمول بدلي، يعني هو يشمل هذه جميعًا أنها رقاب، ولكن إذا أعتق واحدة منها أي واحدة، المطلوب واحدة فإن هذا يجزئ، كما أن هذا يجزئ، كما أن هذا، هذا الشمول البدلي.
أما العام ففيه شمول لكنه استغراقي، تقول: اعتق الرقاب، يعني كل الرقاب، لو قال لهم: اذبحوا البقر، فإن كل بقرة يتعين ذبحها، لكن حينما يقول: اذبحوا بقرة واحدة، فالشبه بين العموم والإطلاق هذا مفصله ومحزه الذي قد يخفى على كثير من طلاب العلم، الفرق بين المطلق والعام أن الشمول في المطلق بدلي لا يراد به الاستغراق، والشمول في العام هو استغراقي، فالعام ما استغرق ما يصلح له دفعة بلا حصر من اللفظ، فهذا الآن: تَذْبَحُوا بَقَرَةً أي بقرة، يصدق عليها هذا سواء كانت كبيرة أم صغيرة، مذللة بالعمل أم غير مذللة، أو كانت سوداء أو صفراء أو بيضاء أو غير ذلك، فإن ذلك يحصل به المقصود.
فهم لم يتأدبوا الأدب اللائق، أول ما قابلوا به نبيهم هذا الرد البارد: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا هل يُظن بعاقل في قضية كهذه قوم يتدافعون قتيلاً أن يكون ذلك موضع سخرية واستخفاف حينما يلجأ إليه قومه، عاقل ليس بعالم وليس بنبي أو رسول، هذا لا يليق بآحاد الناس فكيف بنبي كريم ورسول عظيم من أعظم الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- من قال الله -تبارك وتعالى- فيه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [سورة طه:41] قال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [سورة طه:39] فهنا وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي يعني: أن الله -تبارك وتعالى- قد هيأه وأعده إعدادًا خاصًا من أجل القيام بهذه المهام العظام، الحاصل أن هؤلاء أساءوا الظن بنبيهم فأساءوا الجواب، وأساءوا الفهم فأساءوا الرد: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا.
وهكذا من ساءت فهومهم أو ساءت ظنونهم فإن حاصل ذلك وما ينتج عنه من مقابلتهم لمن خاطبهم بما فيه مصلحتهم هو مثل هذه الردود الباردة الفاسدة: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ بعض العلماء كما ذكر الماوردي -والله أعلم- بهذا ذكر حكمة، وهذه قضية غيبية، لكن لا بأس أن أذكرها، لكن لا نبني عليها ولا نصححها، قد يكون ذلك صحيحًا أو لا يكون.
يقول الماوردي[1]: بأن الحكمة في أمرهم أن يذبحوا بقرة بالذات بقرة، يعني لم يذبحوا شاة أو نحو ذلك هو أن هؤلاء قد تعلقوا بالعجل صغير البقر، وبقي في نفوسهم هذا المعبود، كما قال الله : وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [سورة البقرة:93] فالإشراب يعني: تغلغل ذلك في النفوس، فصار ذلك كالشيء المشرب في قلوبهم، فالماوردي يقول: "أمروا بذبح بقرة لكسر ما بقي وكان عالقًا بالنفوس من التعلق بولد البقر وهو العجل، فيقوموا هم بأنفسهم بذبح البقرة، فهي لا تصلح أن تكون معبودًا بحال من الأحوال، وإذا كان البقرة الكبيرة لا تصلح لأن تعبد فالعجل من باب أولى".
ثم تأملوا جواب موسى حينما قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ استجار بالله والتجأ إليه مستعيذًا أن يكون من الجاهلين أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا استهزاء، نوع أخص من المزاح فهو مع استخفاف وشيء من السخرية، فهذا الاستهزاء الذي يكون بهذه المثابة هو يتضمن الاحتقار لهذا المستهزَئ به والانتقاص، وهذا لا يليق بالعاقل فضلاً عن مقام الرسل -عليهم الصلاة والسلام.
أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ فدل ذلك كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي وقاله قبله أيضًا بعض المفسرين: "أن الذي يستهزئ بالناس ويسخر منهم أنه من الجاهلين، الذي يستهزئ بالناس ويسخر منهم يهزأ بهم أنه من الجاهلين"[2] وهذه الآية واضحة في تقرير هذا المعنى أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ يعني: أن الذي يتخذ الناس هزوًا يستهزئ بهم ويسخر منهم أنه من الجاهلين أيًا كانت هذه السخرية، سواء كان يسخر من أشكالهم ويتندر بهم، وهذا فيه زيادة على الجهالة أن ذلك يعود إلى عيب الصانع؛ لأن عيب الصنعة إنما هو عيب لصانعها.
وكذلك الذي يسخر من الناس ويستهزئ بهم باعتبار المهن والأعمال، أو باعتبار الأنساب والقبائل والأصول، أو باعتبار البلاد التي يرجعون إليها، فهو يسخر من هذا ويستهزئ بهذا أنه من القبيلة الفلانية أو من البلد الفلاني، أو من الأسرة الفلانية أو نحو ذلك، فهذا كله من أفعال الجاهلين.
أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا يستهزئ بالناس، وهذا المستهزئ يدل على أنه مستخف، وهذا الاستخفاف ينبئ عن سوء طوية وتربية هشة، كما أنه ينبئ عن ترفع وتعالي على الناس، لو كان يتواضع لهم لم يسخر ولم يستهزئ بهم، فموسى تبرأ من ذلك ولجأ إلى الله مستجيرًا به كيف يقع ذلك منه، كيف يقع منه الاستهزاء بالناس أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ما قال: أعوذ بالله أن أستهزئ بكم، لا، قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ من الجاهلين يعني في جملة الجاهلين، فأعطانا ذلك بعدًا في المعنى، وسعة فيه دلت على أن من وقع منه ذلك دخل في زمرة الجاهلين، وكل من فعل معصية الله -تبارك وتعالى- أو تجاوز الحد الذي حده له الشارع، أو اعتدى على الناس بيده أو لسانه بأديانهم أو عقولهم أو أبدانهم أو أعراضهم أو أموالهم فهو أيضًا من الجاهلين؛ لأن الجهل يأتي بمعنى العدوان على الناس.
وهذه السخرية والاستهزاء هي لون من العدوان، ولو عرف الإنسان أن هؤلاء مثله لما استهزأ بهم، حينما يستهزئ بآخر ويستخف به لأنه ينتسب إلى الناحية الفلانية، أو البلدة الفلانية، أو المنطقة الفلانية، أو القبيلة الفلانية، أو القوم الفلانيين أو غير ذلك، هذا كلهم يرجعون لآدم، فلا يليق أن يسخر من أحد؛ لأنه يشترك معه في وصف الإنسانية، يسخر منه لأصله هو وهو سواء، والعبارات المؤذية العبارات الجارحة التي يطلقها بعض من لا يحسب حسابًا لكلماته هذه الكلمات أحيانًا تنبئ عن استهزاء وسخرية ونحو ذلك.
ومن الناس من إذا جلست معه لا تدري ما الذي يصل إليك منه، في كلامه يجرح، يعني هو يجرح من جميع الاتجاهات، فإذا أراد أن يأخذ الماء سأل جليسه: هل ولغت فيه؟ فيجيبه ذلك على البديهة ويقول: إنما أنا مثلك، يعني إن كان ذلك ولوغًا، والولوغ يقال: للكلب، فيقول: أنا مثلك، فإن كان ذلك ولوغًا فكذلك أنت حينما تشرب فذلك ولوغ، كان اللائق ألا يسأل أصلاً هل شربت منه؛ لأنه يدل على أنه يتقذر منه، فكيف إذا خاطبه بمثل هذه العبارة: هل ولغت فيه؟
وقد يكون هذا ممن ينتسب للعلم أو ظاهره الصلاح والتدين، ولكن هذا اللسان غير مهذب، تجد الكلمات هنا وهناك، إذا وضع الطعام قال: كل من هذا إذا قال: لا أشتهيه، قال: لا تجده في أرض قومك؟ يشير إلى بلده التي يتنقص أهلها، هذا ما يليق أن يؤذي الناس بهذا أو بغيره مما ينبئ عن استهزاء وسخرية واستخفاف وكبر وصلف وجفاء أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ هذه أخلاق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.
فلا يصح أن تستهزئ المرأة بغيرها، أو يستهزئ الرجل بغيره، أو يستهزئ الإنسان بأحد من الناس، لاسيما من كان في موضع القدوة، المعلم حينما يستهزئ بالطلاب ويسخر من لباسهم أو من أسمائهم أو يسخر من تصرفاتهم أو نحو ذلك فيقول كلامًا يجرح، وأحيانًا يشبههم بأشياء لا يليق التشبيه بها، فمثل هذا لا يجوز شرعًا، فهؤلاء عندهم مشاعر كما أنك تملك مشاعر، ثم يتذكر الإنسان: كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا [سورة النساء: 94].
في هذه الآية يؤخذ منها أن الإنسان عمومًا أنه يتذكر الحال التي كان عليها قبل ذلك، في المناقشات في الرسائل الجامعية أحيانًا تجد لونًا من التعالي والصلف والاستكبار في العبارات التي تؤذي وتجرح، سخرية من الباحث والكاتب وأحيانًا من مشرفهِ، وكأن هذا صار فرصة لإخراج مثل هذه الأخلاق الرديئة بمجمع من الناس، وللأسف لو كان الإنسان يعقل لعلم أن مثل هذه المناقشات إنما هي إفادة وإثراء يستفيد منها الحضور، ويستفيد منها الباحث، ويستفيد منها المشرف، ويستفيد منها المناقشون وليست مجالاً للقدح والتجريح والعبارات القاسية والمؤذية -الله المستعان- والموفق من وفقه الله ما على الإنسان ما على المرء حينما يعرض ما عنده بطريقة تقبلها النفوس، ويكون ذلك المجلس مجلس فائدة وإفادة وإثراء لطلاب العلم، من حضر يستفيد، أما رفع الأصوات والكلام الذي لا يليق، وتهزيء الباحث.
حدثني بعضهم أنه يخرج من القاعة إلى المستشفى، وبعضهم يبكي أمام الناس، لاسيما إذا كان الحضور أول من يحضر هم طلابه إذا كان يدرس، هو معيد في الكلية أو محاضر، فيحضر طلابه، وطلابه هؤلاء من المحب المشفق ومنهم الشامت، هذا الذي لربما لا يجتاز عنده، من الذي يُنصف من نفسه ويقول: أنا مقصر وأنا الضعيف وأنا الذي، ما هو يأتي للشماتة، فيرى ما يسره ألا يكون شيء من هذا.
وهنا هؤلاء شددوا على أنفسهم لما قال لهم: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ حين أمرهم بذبح البقرة، بدأوا يشددون ويطلبون أشياء: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [سورة البقرة:68] يسألون عن السن، ثم سألوا عن اللون، ثم سألوا عن العمل، هل هي مذللة عاملة أو غير مذللة بالعمل، فهؤلاء شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فلو امتثلوا من أول وهلة من أول مرة فإنه يحصل المطلوب وتحصل الكفاية، ولكن تعنتوا فهذا العنت مذموم شرعًا، ولذلك فإن النبي ﷺ أخبر أن: من أعظم الناس في المسلمين جرمًا الذي سأل عن شيء لم يُحرَّم فحرم من أجل مسألته[3].
وقال النبي ﷺ: يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فقام رجل فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت النبي ﷺ ثم قال: لو قلتها لوجبت[4] وأمرهم ﷺ ونهاهم: ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فمثل هذه السؤالات التي ترد من غير موجب تكون مذمومة، ومن هنا قال الله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101].
وقد ذكرت في بعض المناسبات ما جاء من الذم لبعض السؤالات، قلنا: يدخل في هذا السؤال عن شيء لم يُحرَّم في وقت التنزيل، أو شيء لم يكتب ويفرض في وقت التنزيل فيفرض أو يحرم من أجل مسألته، ويدخل في هذا الأغاليط صعاب المسائل، تتبع صعاب المسائل حتى بعد التنزيل، الذي يسأل عن أشياء، وكما ذكرنا عن الإمام مالك -رحمه الله- الرجل الذي جاءه فقال له، سأله عن رجل على دابته قد وطئت دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة فقست عنده البيضة، هل هي حلال أو حرام البيضة؟[5] لأنها خرجت من دجاجة ميتة وطأتها هذه الدابة، هو يسأل عن حكمها، يعني هذا سؤال تعنت، مسائل نادرة في الوقوع، الأغاليط صعاب المسائل، كذلك في وقت التنزيل.
وهذا ذكر جملة منها النووي -رحمه الله- في شرحه لصحيح مسلم[6].
وكذلك الحافظ ابن رجب في الأربعين "جامع العلوم والحكم"[7] والشاطبي في "الموافقات"[8] ذكروا أحوالاً يكره فيها السؤال يدخل فيه هذا وأشباهه، - والله تعالى أعلم .
فهنا هؤلاء سألوا عن أشياء كان ينبغي أن لا يسألوا عنها، وهذا يحصل ويتكرر، أشياء لم يُسأل عنها، تجد حتى الطلاب في الاختبارات يأتي السؤال قريبًا سهلاً ليس فيه طلب تفاصيل، ما حكم كذا. يقول: نذكر الأقوال والأدلة والترجيح؟ لا أحد قال لك هذا، لو أردناه لذكرناه، تفضل نعم هاتوا الأقوال والأدلة والترجيح، ينبري واحد ويسأل عن قضايا مثل هذه هي لم تطلب، ما القول الراجح في المسألة الفلانية، في معنى الآية الفلانية، يقول: أذكر القول الآخر؟ لا أحد طلب منك القول الآخر.
ما الدليل على كذا؟ يقول لك: ونذكر الرد على المخالفين؟ نحن قلنا: ما الدليل، ما قلنا: كيف ترد على المخالفين، ما الدليل على كذا، يقول: نذكر وجه الاستدلال؟ لم يطلب منك وجه الاستدلال، فمثل هذا أحيانًا يعاقب بأن يقال له: نعم، هات وجه الاستدلال، هاتوا، وهاتوا الأقوال الأخرى وأدلتها والرد على كل قول وبيان وجه ذلك، فمثل هذه الأشياء لا حاجة إليها.
ويؤخذ من هذا الآية أيضًا حاجة الخلق جميعًا إلى الالتجاء إلى الله -تبارك وتعالى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ فالعوذ بمعنى اللجوء والاستجارة بالله -تبارك وتعالى- من الأمور المكروهة والمخوفة، وبعض أهل العلم يفرق بين العوذ واللوذ، فيقولون: اللوذ يكون في المحاب، الأمور المطلوبة، والعوذ في الأمور المخوفة: أَعُوذُ بِاللَّهِ فإذا كان هؤلاء الأنبياء الكبار من أولي العزم من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يلجؤون إلى الله -تبارك وتعالى- في كل ما نابهم غيرهم من باب أولى.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعنا وإياكم هداة مهتدين، ويتقبل منا ومنكم، ويغفر لنا ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، - والله أعلم .
اللهم صل على محمد.
- انظر: تفسير الماوردي (النكت والعيون) (1/ 137).
- تفسير السعدي (ص: 55).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، برقم (7289)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره ﷺ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع، ونحو ذلك، برقم (2358).
- أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337).
- انظر: البيان والتحصيل (11/ 279).
- انظر: شرح النووي على مسلم (10/ 120، 121).
- جامع العلوم والحكم ت الأرناؤوط (1/ 248).
- انظر: الموافقات (1/ 49 - 53).